من أصداء اليوبيل الفضي لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي
تعددت الآراء وتباينت حول مفهوم التجريب، علماً أنه رافق المسرح منذ نشأته ولغاية اليوم بأوجه مختلفة تبعاً للظروف البيئية والتكوينات الفكرية التي تختلف منزمن لآخر، ومن فنان لآخر، ومن متلق لآخر، ووفقاً لما تفرضه الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية .
منذ ولادة المسرح، شكل التجريب في كل حالاته الجمالية والفكرية والفلسفية الدافع الأساس للعديد من التجارب المسرحية حيث تجلى في إبتكار صور جديدة لصيغ مسرحية صبت في عمق العملية الدرامية ومنحت لكل المدارس المسرحية خصوصيتها وهويتها .
هناك من يعتبرأن التجريب يكمن في إلغاء النص واستبداله بمادة يكتبها المخرج، أو في الخروج عن السائد والمألوف، أو استخدام الوسائل الرقمية، أو التمرد على القواعد الكلاسيكية، أو… وأو… ، إلى جانب هذه المفاهيم وغيرها أرى أن التجريب ولد من رحم التوق إلى تحقيق المتعة والجمال ونشر الوعي والمعرفة والثقافة، وأنه يكمن في الإبتكارالذي عبر الخيال الخصب والفكرالمتقد يؤدي تحويل الفكرة الإبداعية إلى عمل إبداعي، لأن المبتكر لا يكتفِ مع ما هو موجود ، ولا بعملية تكراره، ولا بإتباع ما هو مألوف ، بل يعمل بإتجاه التغيير في خلق مدركات لها دلالاتها الوظيفية والدرامية والجمالية من خلال التعبيرالفني لكل عناصر العرض المسرحي، وفي تكوين الأطر والأساليب التي تمهد لمسرح إحترافي، وأيضاً في طرح الفرضيات التي تعتمد الإختبار والمراجعة والبحث، إذاً ، وفي ظل التجريب المتاح للإبتكار ما فائدة تكرار العمل لأي عرض مسرحي لذات النص مرات ومرات، إذا لم تكن الغاية خلق صورة جديدة تختلف عن سابقاتها في الرؤى والتكوين، خاصة وأن التطورالتكنولوجي المرتبط بالعلم فتح آفاقاً جديدة للإبداع في التجريب .
يقول الأستاذ الدكتور (كمال الدين عيد) : ” إن مضموناً بلا شكل مناسب يصبح مضمونه خاوياً ، وشكلاً تزينياً أو تزويقياً لمضمون جاد لا يفيد ولا يضيف جديداً في مادة الفن أو في الإنتاج الفكري أو الفني “.
ويقول المخرج (هناء عبد الفتاح) رحمه الله : ” نحن في حاجة إلى مبدع مسرحي حقيقي يرى في التشكيل هدفاً لفضاءات خشبة المسرح (تناولات سينوغرافية جديدة)، أياً ما كان نوعها تشكيلاً حقيقياً لمفردات العرض المسرحي، ليصبح خلاقاً وليس ترجمة، إبداعاً وليس إنتاجاً ، بعثاً وليس موتاً.
وأيضاً يقول المخرج (بيتر برووك) : ” كل شكل يولد على المسرح موهوب للموت، وكل شكل لا بد أن يعاد النظر فيه، والمفهوم الجديد لهذا الشكل سيحمل بصمات كل ما يحيطه من مؤثرات ” .
إن هذه المقولات وما شابهها تقود إلى التأكيد على ضرورة الخوض دائماً في التجريب لأنه بدوره يقودنا إلى تحقيق منحى إبداعي يشكل منعطفاً مغايراً في العرض كي لا يقف عند روتين الإنعتاق في النمط التقليدي الممل، خاصة وأن كل التحملات التي شهدها التجريب على مر الزمن، أثبتت نجاحه في أن كل ما هو غير ممكن، أصبح ممكناً في خيال الفنان المبدع ، وواقعاً بفضل التكنولوجيا .
التجريب في المسرح لا يقتصر على فن حركة الجسد والتمثيل الحركي بعيداً عن التناغم مع عناصر السينوغرافيا كما يظن البعض، وهو ليس انقلاباً إعتباطياً على التقليد، بل هو فن الإبتكار الذي يهدف لولادة جماليات جديدة، وإضافة تقليد حديث على تقليد قديم يحمل في نتيجته توجهاً فكرياً وتركيبة فنية لافتة، داخل السياق الصحيح لمفهوم اللعبة المسرحية، يتلقفه الجمهور على مختلف درجة ثقافته .
كيف لنا أن لا نبتكر في الفن إذا لم نعتمد التجريب، خاصة وأننا نعيش في ظل عالم دائم التحول، عالم يتميز بالتسارع المعرفي، والتطور العلمي والتكنولوجي اكثر من أي وقت مضى .
وبناء على كل ذكر، يحسب لمهرجان القاهرة الدولي التجريبي والمعاصر مساهمته الفاعلة على مر سنوات طويلة إتاحته فتح نافذة كبيرة أطل منها المسرحيون العرب على التجارب الأجنبية، وعلى اللقاء والحوار وتبادل الخبرات بين المسرحيين، إضافة الى الندوات الفكرية الثرية والكتب التي شكلت كنزاً ثقافياً مهماً للمسرحيين .
وبناء على قول للناقد والباحث البحريني (يوسف الحمدان) : ” نريد مسرحاً بحجم رأس (ستيفن هوكينج) ” .
أقول : إذا أردنا ذلك ، علينا بالتجريب وسيلة للتلقي الإيجابي في الأسلوب والشكل والمضمون، وليس غاية للإبهار والتشويش على الأفكار والرؤى التي يتضمنها العرض المسرحي .
شادية زيتون دوغان (مصممة سينوغرافيا ـ لبنان)