الندوة التطبيقية لمناقشة العرض المغربي ” بين بين”
مباشرة بعد انتهاء مناقشة العرض الأردني ” حرير آدم” الذي احتضنه بهو مسرح محمد الخامس، الطابق الأول، تحول مدير الندوة التطبيقية الإعلامي الكويتي (عبد الستار الناجي) على العرض المسرحي المغربي ” بين بين” لفرقة نحن نلعب للفنون، والذي قام بالتعقيب عليها الكاتب و المخرج المسرحي الإماراتي (مرعي الحليان)، بحضور المؤلفين (طارق الربح) و (محمود الشاهدي) الذي قام بإخراج هذا العمل.
أشار المعقب (مرعي) في مستهل ورقته إلى القاسم المشترك الذي يجمع بين ثلاثة شخصيات تمثل ثلاث أزمنة، شخصية محسن في رواية عصفور من الشرق لرائد الأدب الأدبي توفيق الحكيم، مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.. و شخصية محمدي في “بين.. بين” لطارق ربح ومحمود شاهدي. حيث يرى (مرعي) أن هناك يتقاطع العزف على وتر الأشكال الصارخ في إنتمائين اجتماعيين يصعب الجمع بينهما دون تقديم تنازلات غالية الثمن، وربما الخسارة تصبح مصيرا حقيقا..، في تلك التقاطعات الحادة و في تيه المسافة الواصلة بين حضارتين، حيث الحد الفاصل بين المتناقضات. وحيث العبور هو مواجهة أعاصير الانسلاخ والاستلاب، وحيث أغواء الفضاء الحر، يمثل الدافع لقطع حبل السرة والانعتاف من الهوية.. فيصبح التيه هو الخسارة الكبرى وهو (بين بين)..
ويجد (الحليان) أن في سؤال نص (بين بين) الذي تشارك في كتابته المخرج والمؤلف، أهمية خاصة في هذا العرض. تدوي صرخة في فضاء الإنسانية، هذا الفضاء المشروخ، والذي ولا زلنا نسأل عن المتسبب في شرخه، تدوي الصرخة بأسئلة طرحها (المعقب) كالتالي:” ألا تقبل الجهات المتضادة هذا الإنسان كما هو إنسان؟ هذا هو سؤال هذا النص المكتوب في رأيي.. ألا تقبل الجهات أن نلتقي لقاء سلام وأمان بحكم أننا البشر مجبولين بخلقة الخالق على السلام والبحث عن أمان لممارسة المشاعر والحياة..ألم يخلق الله الإنسان جميلا عاشقا محبا؟ ألا يمكن أن يكون التناحر الإيديولوجي من نهاية، أن يكون انفلاتا حرا يقبل الأشياء كما هي، يقبل الأفكار كما هي، يحترمها في تصالح هادئ..ألا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا أينما حل وأينما ذهب في جهات الله وكونه؟”. أسئلة تدوي بها الصرخة في هذا النص.
ويؤكد المعقب مرة أخرى، أن القاسم المشترك بين تيه محسن العربي عند توفيق الحكيم، وأزمة مصطفى سعيد في انتقامه عند الطيب صالح وورطة محمدي في تلاشي أمانيه وضياعها عند الشاهدي والربح..هو الصرخة في مقابل مالا يمكن قبوله من وضع بائس في الحضارة الإنسانية….إن الصرخات الثلاث برغم تباعدها الزمني..تتقارب هنا..في هذا النص..في هذا العرض. الشيء الذي جعل (الحليان) يُحيي الكاتبين أنهما قررا أن يبقيا الصراخ مستمرا من أجل إنسانية أكثر إنسانية.. لأنه يرى أن هذه هي المهمة الأمثل للمسرحيين في المسرح.
ولقد سعى (الحليان) إلى:” أود أن ادعوكم ونحن هنا نجتمع حول هذا العرض الجميل الصادق في أطروحته، حول نقطة هامة في مسألة بنائية النص. فهذا العرض يقدم لنا نصا مختلفا، يخرج من ثوب التقليدية ليؤسس حالة قائمة على دراماتورجية تزن معطياتها بمقياس حساس. فالنص المكتوب يتطابق ونص الركح تطابقا تما، وهذا ما كنت أشير إليه في اجتماع المخرج والمؤلف في الكتابة لهذا العرض..هنا لا يثقل النص انطلاقات وتشضيات الرؤية الإخراجية لا يحدها لا يكبلها ولا يتصارع معها كذلك. يأتي النص في سياق العرض مكمالا، وربما في بعض الأوقات هامشيا لصالح عناصر أخرى في العرض..وهنا بادرة حداثية تقلب ميزان حساسية النص في الاشتغال المسرحي.
تفتيت النص وتجزيؤه ليكون مفردة صغيرة في النص الفرجوي للعرض، أمر أحسبه لفريق بين بين..نحن كمشاهدين قرأنا النص المكتوب والنص الفرجوي محفورا بحركة أجساد الممثلين، مرسوما في مشهديات بصرية تتوالى علينا بتأثيراتها وأغوائها، تتكون في فضاء ضيق وتتحول عبر أصوات، همس وصراخ وعويل، واختناق، ودموع، وضحك ورقص وموسيقى، هادئة أحيانا وهستيرية في أحيان أخرى. الحضور الطاغي للدرامز.. الإيقاع….الإضاءة التي تخلت عن عضالاتها واغواءتها المجانية..لكي تقوم العناصر الأخرى للعرض ببطولتها المطلقة.. إنه سبك واشتغال في الفرجة. ورسم بريشات مختلفة الذي اكسب العرض تنويعا هادرا يدفع بالملل بعيدا، ينعش فضاء التلقي ويبقيه مشدودا متوترا على الدوام”
ويتابع (مرعي) أن (بين بين) عرضا يدعو الملتقى إلى تأمل بنائيته، إلى تموقع النص المكتوب في الفرجة المشاهدة، إلى تأمل حالة الاندياح والانزواء لعناصر مسرحية لصالح عناصر أخرى.. الأمر الذي يخلق الهارموني الذكي الفعال المتقصد والمتربص بالمتفرج. ويبقى (بين بين) ـ حسب رأيه ـ عرض يعيد دوزان العناصر المسرحية بحساسية عالية لصالح استنطاقات فرجوية لمحاحة ومباغته. بحيث أن أجساد الممثلين، أُحيلت إلى كلمات، الإضاءة أحيلت موسيقى، الموسيقى تركت ظلالها أمام الكلمات. بحيث تلاشى المكان في مشاهد وصار بطلا في مشاهد أخرى. هذا الهارموني جدير بالتأمل..هذه البنائية للعرض المسرحي تحتاج إلى حديث طويل في مسألة كسر الاعتياد في بنائية الفرجة المسرحية.
ليختم مداخلته بأن العرض “بين بين” يرتكن على ثقافة بصرية ومعرفية جد عالية، حيث أن نصه كُتب على الخشبة بتكسير الطابوهات المسرحية. فهو حالة البحث عن الفرجة بتكسير سلطة النص من خلال دمجه مع الموسيقى والتعبير الجسدي للممثل.
بعدها فتح باب النقاش الذي أغنته مداخلات عديدة لمخرجين و ممثلين و ناقد مسرحيين حضروا هذه الجلسة، حيث كانت البداية مع المسرحي الموريتاني (تقي ولد عبد الحي) الذي أشاد بأن العرض احتوى على قفزات قوية، معتقدا أننا الآن بصدد صياغة حالة مشهدية جديدة بالمسرح العربي وفق تطلعات الملتقي يجب الأخذ بها بعين الاعتبار. كما أنه التمس بترا في العرض بين الموسيقية والنص، مستفسرا أيضا كيف تم الربط بين الفرقة الموسيقية و الممثلين. كما لاحظ أن هناك فقر في السينوغرافيا واستوضح هل هذا كان مقصودا؟
أما الناقد العراقي (محسن النصار) يرى أن العمل أقحم أربع أغنيات افتقرت إلى الصيغة الدرامية بحيث لم يكن لهذه الأغاني صورة مسرحية. بالمقابل أثنى على تلقائية الأداء لدى الممثلين وأيضا على جمالية السينوغرافيا.
عبر الناقد والمخرج المسرحي العماني (عماد الشفري) عن استمتاعه بالعرض برغم عدم فهمه الحوار ولكنه استوعب مفاهيمه و طروحاته. ويجد أن العرض غريب عن المسرح العربي وهذه تعتبر تجربة جديدة تستحق التشجيع. وأعرب عن إعجابه بالأداء المميز الذي يترجم بدوره إدارة جيدة لإدارة الإخراج .
وقال المسرحي المغربي (محسن الزروال) :” لا يمكن أن نتلقى العرض بدون معرفة تجربة الفرقة، التي تجاوزت مرحلة الاشتغال على الورق وصار الاشتغال على عمل جماعي يساهم فيه كل أعضاء الفرقة. و “بين بين” يضعنا بين حدين فاصلين الذي ظهر بثنائية عناصر العرض”.
وقبل اختتام الجلسة قام المخرج (محمود الشاهدي) بالرد عن كل الأسئلة التي جاءت أثناء المناقشة.