في مهرجان المسرح العربي بالرباط
عن مجلة الكواكب عدد الأمس (3310) / الاثنين 26/01/2015
انفلاتا من زخات المطر الرقراق، وفى مساء رائق من أمسيات مدينة الرباط، التي أسسها الموحدون أواسط القرن الثامن عشر، وبالتحديد في التاسع من يناير الماضي،
دلفنا لمسرح محمد الخامس بالعاصمة المغربية، لنلتقي في فضائه بروح وثابة بعشق المسرح، وبفرحة غامرة بانطلاق فعاليات الدورة السابعة من مهرجان المسرح العربي، الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح برئاسة سمو الشيخ “سلطان القاسمي” حاكم الشارقة، وبحضور وزير الثقافة المغربي ” محمد الأمين الصبيحي” الذي طالب في كلمته الافتتاحية بضرورة أن يكون المسرح أداة فعلية للتنمية المستدامة للمجتمعات، وأن يتوجه لمختلف شرائح المجتمع ليؤدي رسالته الداعية إلى الحق والسلم والتعاون والتعايش والحوار والمحبة والإخاء، وشاركه الافتتاح الكاتب “إسماعيل عبد الله” الأمين العام للهيئة العربية للمسرح، مؤكدا على أن مهرجان المسرح العربي يجب أن يكون عملا تنويريا بامتياز، ولن يكون ذلك إلا بتضافر جهود الذين يؤمنون بهذه الرسالة، فنحن جميعا نخلق لونه ونبضه ونوره ونحن جميعا صانعوه .
وفى تقليد محمود ابتكره المهرجان منذ عام 2008 ، فعلى غرار كلمة المسرح العالمي، افتتح المهرجان بكلمة المسرح العربي، والتي نأمل أن تتفق المسارح العربية كلها ذات يوم، ويتم إلقاء كلمته مع أمسيات العاشر من يناير سنويا، مثلما تلقي في كل مسارح العالم كلمة يوم المسرح العالمي في السابع والعشرين من شهر مارس سنويا، وقد تحمل مسئولية كتابتها وإلقائها منذ ذاك العام اللبناني “يعقوب شدراوى” والمصرية “سميحة أيوب” ، والتونسي “عز الدين المدني” ، والعراقي “يوسف العاني” ، والمغربية “ثريا جبران” ، ثم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ، حاكم الشارقة ورئيس الهيئة العربية للمسرح ،ثم ألت هذا العامللباحث والكاتب السوداني “يوسف عايدابي”، وحملت عنوان (المسرح الذي نريد) ، وطالبت بوعي بألا يكون مسرحنا العربي مسرحاً للنخبة أو لفئة قليلة في بلداننا التي ترزح تحت نير الحروب والجوع والفقر والمرض، واضعا بلده السودان نصب عينيه ونموذج حاله لما يريد توصيله لنا، ففي مثل بلده الكليل العليل الممزق، المقطوع شطره – الغابة جنوباً ، والمنفصل شرقه – الصحراء شمالا، لا نريد للمسرح إلا أن يكون أداة اجتماعية ووسيلة للمقاومة والكفاح ضد التفرقةِ والاحتراب. على المسرح أن يكون في مناطق النزاع والشقاق، وفي أماكن العلم والتنمية، فرصةً للتسامح والتعايش والحوار؛ بل ولتقريب شقة الخلاف والاختلاف.
احتوت ليلة الافتتاح، كما هو معتاد في افتتاح المهرجانات العربية، على عرض للمخرج “مسعود بو حسين” بعنوان (مرتجلات مرسحية)، قدم من خلالها تاريخ المسرح العربي، من أول تعرفنا عليه عبر اللبناني “مارون النقاش” والسوري “أبو خليل القباني”، مرورا بالأعمال الأوربية الكلاسيكية والشعبية المغربية مع تقديم شذرات من أعمال شكسبير وسعد الله ونوس والطيب العلج، بطلاب المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي، الذين تفرغوا تماما خلال أسبوع المهرجان للعمل بأنشطته المختلفة، وصولا إلى ما بعد المسرح وما بعد الدرامي، مسقطا في مسيرته التاريخية هذه الدور الفاعل للمصري “يعقوب صنوع”، والذي اعتبر رائد المسرح العربي، خاصة في حقل الدراما الواقعية التي لا تلجأ للتاريخ أو تهرب من إعلان رأيها بصراحة في هموم الواقع بارتداء أردية التراث، ومن الواضح أن كتاب الباحث الكبير د. “سيد على إسماعيل” (محاكمة مسرح يعقوب صنوع) والذي أعلن فيه هدمه لأسطورة مسرح “صنوع”، وإلغاء دوره في مسيرة المسرح العربي، ولم يناقشه علميا أحد من الباحثين في تأريخ المسرح العربي، منذ صدوره عام 2001 وحتى الآن، إزالة للبس الحادث حول حقيقة وجود مسرح “صنوع”، باستثناء المؤرخ المسرحي المعروف “محمد يوسف نجم”، بينما ظلت الكتابات البحثية المصرية تذكر تأريخ مسرح “صنوع” المعروف والفاعل في الحياة الثقافية المصرية، خاصة بين عامي 1870 و 872 ، بينما يبدو أن هذا الكتاب قد وجد هوى لدى الأشقاء العرب في دول المغرب، خاصة بعد نشر كتاب الإنجليزيين “سادجروف” و”شموئيل” اللذين حاولا أن يؤكدا أن المسرح العربي لم يظهر أولا في المشرق العربي على يد اللبناني “مارون النقاش”، بل في المغرب العربي وعلى يد الجزائري “أبراهام دانينوس” ومسرحيته (نزاهة المشتاق وغصة العشاق)، التي قيل أنها نشرت عام 1847، وهو نفس العام الذي قدم فيه “مارون النقاش” مسرحيته الأولي في العربية، وفند د. “سيد على إسماعيل” هذا الادعاء، بل أنه ألقي في لقاءات المهرجان الفكرية ضوءا على الدور الرائد للمفكر المصري “رفاعة رافع الطهطاوي”، وذلك بترجمته لكتاب فرنسى، يتحدث فيه عن (السبكاتكل) 1833، وكذلك ترجمته للعربية أول نص مسرحي فرنسي هو (هيلينة الجميلة) ونشره عام 1868 .
** تفاعل أم تناسج:
وعلى حين جاءت كلمات الافتتاح متسقة وداعية لربط المسرح ببسطاء المجتمع، مؤيدة للدور التنويرى للمسرح، انشغلت الندوات بقضية تأصيل المسرح، وعاودت المداخلات طرح العلاقة بين المسرح كفن غربي مستورد، والفنون الشعبية والتراثية العربية، وذلك بعد أن تصورنا أننا قد أغفلنا طرح هذه القضية وانتهينا منها، منفلتين من الانغلاق بجوف الماضي، والتعلق بوهم يمجد الأوائل ويمنحهم القدرة في الماضي على ابتداع كل أشكال الفنون العالمية المبتدعة، والتي ليس عيبا أننا لم نعرفها من قبل، والغريب أن فنون الإذاعة والسينما والتليفزيون الدرامية وغير الدرامية، التي عرفناها عن الغرب لا أحد من صناعها يبحث عن جذورها، بقدر ما يعمل على تطويرها وتقديمها بصورة عربية راقية، وقادرة على الوقوف أمام تجليات هذه الفنون العالمية.
ومن قراءة عناوين الندوات الست والدائرة اثنتان منها حول المسرح المغربي، دارت الأولي عن (مئوية المسرح المغربي) دون حسم وتوثيق علمي لهذا التاريخ المعلن، والتطرق في أخرى ل (البيانات المسرحية المغربية والمستقبل ) والتي غاب عنها أي حديث عن المستقبل، ثم ندوة عن (التوثيق للمسرح العربي … مسئولية من ؟) غلب عليها الحديث التوثيقي أكثر من تحديد مسئولية الأجهزة التوثيقية، وندوة عن (المسرحيين العرب في المهجر ، رؤى عربية أم مسرح عربي) اهتم المتحدثون فيها من ألمانيا وكندا بالحديث عن تجاربهم المسرحية في الغرب، ثم ندوتان عن (المسرح وتفاعل الثقافات) و(تناسج ثقافات الفرجة – حوار الشمال والجنوب)، وانطلقت عناوينها وأكثر من مداخلة فيها من أفكار الكاتبة الألمانية “أريكا فيشر- ليشته” ، والدائرة حول أن الفرجة هي كونية، تتخطى الثقافة الواحدة، والدين الواحد، والعرق الواحد، وتتجاوز في نفس الوقت العولمة المهووسة بالهيمنة الثقافية وغير الثقافية على شعوب الأرض .
وهو ما دفعنا في تعقيبنا على هذه المداخلات لطرح عدة أسئلة : هل هذه الثقافة الكونية الإنسانية، التي تبشر بها عقول من شمال المتوسط المتقدم هي البديل الأوربي الجديد للثقافة العولمية الأمريكية التي سعت في الأساس لتجاوز الثقافات الوطنية لصالح هيمنة الثقافة الأمريكية التقنية على العالم مدعومة بسلاح المارينز؟ ، وهل وصفها بالإنسانية يوثق علاقتها بالفلسفة الإنسانية التي جاهدت في التواجد خلال القرنين الماضيين، واضعة الإنسان في مركز الكون، ونافية للعرق والدين والثقافة الواحدة، وواصلة في العقود الأخيرة إلى ربط أهدافها بجمعيات حقوق الإنسان المتعددة مثل (هيومن رايتس ووتش) و(المساواة بين الجنسين) والمناوئة لمفهوم الدولة لصالح مفهوم الفرد الإنساني الحر؟، وهل تناسج ثقافات الفرجة الوطنية في بنية كونية، يؤدى لنضج العقل العربي ليماثل نظيره في أوربا أو اليابان؟، وهل على المسرح العربي أن يبحث أولا عن سبل التفاعل مع جمهوره وذوقه الخاص عبر تفاعله مع فنونه الفرجوية الشعبية ليخلق ثقافته الخاصة التي يستطيع بها التفاعل مع ثقافات المجتمعات الأخرى؟ أم عليه أن يبدأ بتحقيق تناسج مع ثقافات وفنون فرجوية ومنجزات مسرحية غربية، وهو بعد كسيح غير قادر على بلورة ثقافته ، والكشف عن فنونه ، والإنجاز في مسرحه؟.
** العروض المسرحية:
هنا نأتي لمربط الفرس، وهو العروض المسرحية، فإذا كانت ندوات النقاد انشغلت بالتأصيل والعولمة والكونية، وكاشفة عن هموم مجموعة من المثقفين الحالمين بالتغيير الجمالي للمسرح، فإن العروض التي هي أصل المسرح، والتي عليها الاهتمام بالتغيير الاجتماعي والسمو بعقل جماهيرها، انشغلت بالتجارب الشكلية الموغل بعضها في التجريد، والساقط بعضها في المباشرة، فمن خلال تسعة عروض في المسابقة الرسمية، من الأردن ومصر وفلسطين وتونس والإمارات العربية المتحدة والعراق والمغرب والجزائر، وسبعة عروض موازية يتقدمها العرض التونسي (كلام الليل صفر فاصل) للمخرج الكبير “توفيق الجبالي”، فضلا عن أكثر من مائتي عرض مسرحي مغربي خارج الرباط، وجدت لجنة التحكيم، ومعها نقاد العروض وجمهورها، أنه من الصعوبة بمكان اختيار الأفضل المؤهل للحصول على جائزة الشيخ “سلطان القاسمي”، وقيمتها مائة ألف درهم (نحو 27 ألف دولار)، وجاء إعلان تقرير لجنة التحكيم التي تضم في عضويتها إلى جانب رئيستها المخرجة اللبنانية “لينا أبيض”، كلا من الممثلة السورية والمقيمة منذ سنوات بكندا “ندى حمصي” والكاتب والمخرج البحرينؤ “عبد الله السعداوي” ومصمم السينوجرافيا والأستاذ الأكاديمي الكويتي “عنبر وليد” والمخرج السوداني الأصل “يحيى الحاج”، جاء ليعلن بصراحة أن بعض العروض المسرحية المشاركة في هذه الدورة، اتسمت بالافتقار إلى الوعي الدراماتورجي، وتكرار للعناصر الجمالية أو الإفراط فيها، وضعف الفهم الوظيفي للموسيقى وكذا ضعف تقنيات لغة الجسد، وتنافر بعض العناصر التقنية، والاختيار الخاطئ لفضاء العرض، وعدم وضوح المفهوم الوظيفي للمسرح إلى جانب عدم دقة المعالجة الدرامية، وموصية بضرورة إعادة النظر في شروط المشاركة في الجائزة، وتفعيل البحث الميداني حول المسرحيات الجديدة، وإخضاع كافة مناحي انتقاء العروض المسرحية للتقييم، وهى توصيات مهمة نضعها أمام المسئولين على مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريب، للانتباه ومراعاة دقة الاختيار وفقا لأهداف المهرجان المصري الأساسية .
وأن أشارت اللجنة إلى وصول عرضين من العروض التسع للمنافسة على الجائزة الكبرى والوحيدة، هما عرض (بين بين) المغربي، والذي يدور موضوعه حول قضايا المهاجرين المغاربة بأوربا، ومشاكل اختلاف الديانات، الزواج المختلط، وعرض (خيل تايهة) الفلسطيني لفرقة مسرح (نعم) بالخليل، وللكاتب السوري “عدنان العودة”، وإخراج “إيهاب زاهدة”، تمثيل وغناء الرائعة “ريم تلحمي” مع آخري ، الذي رأت فيه اللجنة أنه مكتمل البناء الفني، ومتوفر على مجمل عناصر الحلول الجمالية، بالإضافة إلى تماسك البناء الفكري في علاقته بالذائقة الفنية للفريق المسرحي والواقع المعاش، كما أن هناك امتلاكا لوضوح المفهوم الوظيفي للمسرح وبحث صادق في حلول فعالة ملائمة لطبيعة العرض المسرحي، وهو عرض ملئ بالرموز الشفافة، وأن وضعت في سياق ملغز، فثمة شخصيات بدويات ثلاث من أجيال مختلفة، تائهة في صحراء البادية السورية، هي الجدة (العرافة) والأم “تايهة”، والأبنة “خيل”، خرجت الطفلة “تايهة” ذات صباح تستعير مشطا من الجيران لأمها، فتهب عاصفة الرمال لتلقى بها في رحلة سحرية، منتقلة من البداوة للريف، ومن العرب للأكراد، ومن الطفولة لشباب يتوج بزواج يثمر أبنتها “خيل”، التي تتابع كأمها رحلة البحث عن هويتها، وعن عاشقها، وعن وجوده ذاته وسط الصراعات الطائفية والعرقية التي تستشري في المنطقة، حتى تعود لنقطة البداية، دمشق محملة بخزانة الخبرة وحكايات الأيام، وتنوع العرقيات، وقد تسلم المخرج “إيهاب زاهدة” وأعضاء فريقه جائزة العرض من “عبد الله العويس” رئيس دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، بحضور “محمد الأمين الصبيحي وزير الثقافة المغربي” و”إسماعيل عبد الله” الأمين العام للهيئة العربية للمسرح .
ولاقتراب هذا العرض من التكامل الذي تنص عليه جائزة المهرجان الوحيدة، فاز بها، بينما حصد العرض المصري (الزيبق) على الإعجاب بقدرة راقصي الباليه الفائقة، بتصميم وإخراج “طارق حسن”، وتميز الصورة المرئية، غير أنه أخطأ الطريق لمهرجان (مسرحي) يلعب النص الدرامي والكلمة المنطوقة والأداء التمثيلي دورا أساسيا فيه، بينما العرض المصري هو عرض بالية لفرقة فرسان الشرق للتراث التابعة لدار الأوبرا المصرية، فبينما تفوق الشباب في رقصهم، عجزوا عن التعبير التمثيلي عن الشخصيات النمطية الباهتة المسنودة لبعضهم، فهم غير دارسين أو مؤهلين له، ولذا نتساءل عمن أختار هذا العرض وأرسله للمهرجان، فلكل مهرجان طبيعته وشروطه، وعرض متميز قد ينجح في مهرجان يتسق معه، وقد يفشل في مهرجان آخر مخالف لشروطه.
** أيقونة المسرح العربي:
لم تقتصر أنشطة المهرجان على هذه الفعاليات المذكورة فقط، بل امتدت لتكريم عشرين قامة من رموز المسرح المغربي في مقدمتهم “ثريا جبران” و”الطيب الصديقي”، وإقامة ورش فنية شارك فيها بتميز مصمم السينوجرافيا “حازم شبل”، إلى جانب الندوات الفكرية التي شارك فيها بحماس: المخرجان “خالد جلال” ود.”عاصم نجاتي” والباحثون والنقاد د.”سيد على إسماعيل” و”سباعي السيد” ود.”مروة مهدي” ود. “حسن عطية”، فضلا عن حضور “يسرى حسان” رئيس تحرير جريدة (مسرحنا)، والمخرج بالطليعة “إميل شوقي”، أما أيقونة مصر فهي سيدة المسرح العربي “سميحة أيوب” التي ظلت تشع بالأضواء حينما حلت، وكانت مائدتها بالفندق مصدر جذب للجميع، بضحكتها الرائقة، وبسمتها الحنون، وعقلها اليقظ، وصوتها الدافئ ولسانها الصداح، وكان لحضور الفنانة المغربية الكبيرة ووزيرة الثقافة السابقة “ثريا جبران” على مائدتها فرصة لكل الحضور للنقاش بينهما وحولهما، خاصة والفنانة المغربية أعلنت على منصة المسرح أن “سميحة أيوب” هي أستاذتها، ومن لم يتعلم أصول التمثيل من هذه القامة الكبرى، والتي دعاها السفير المصري د. “أحمد إيهاب جمال الدين” مع د.”سيد على إسماعيل” ود.”حسن عطية” والكاتب المغربي الكبير “عبد الكريم برشيد” للحوار في المركز الثقافي المصري بالرباط ، فصالت وجالت وحاورت الجميع، مؤكدة على عمق العلاقات الثقافية بين مصر والمغرب.