مسرحية “كادونس” لكمال الصغيّر..سينوغرافيا مسرحية على إيقاع أوتار القيثارة/ أنيس حمدي

قدم المخرج كمال الصغيّر عمله المسرحي الجديد “كادونس” في ليلة الثالث من نوفمبر الجاري على مسرح المبدعين الشبان بتونس العاصمة. ذلك المسرح الحديث من حيث المعمار والتصميم ومن حيث جودة خصائصه الصوتية، مما أكسب عرض المسرحية الكثير من الديناميكية وجعل من مشاهدة الجمهور للعرض أقرب ما يكون لتجربة حميمية غامرة. مع ثلاثة ممثلين من الخريجين الجدد من المعهد العالي للفن المسرحي، راهن كمال الصغيّر على روح الشباب فيهم في محاولة لخلق تكوينة مسرحية مبتكرة تجمع بين الوضعيات الدرامية والروح الإيقاعية والعزف الحي والغناء والرقص. من خلال مشاهد متصاعدة الإيقاع راوح الممثل فواز بن كريّم بين التمثيل والعزف على آلة القيثارة وصاحبته الممثلة صابرين الرمضاني في التمثيل والرقص. أما الممثل الثالث مروان النكاعي فقد لعب دورا أشبه ما يكون بالمايسترو من موقعه على منصة في أعلى المسرح يرافق بعض المواقف الدرامية بالعزف على آلة الكاخون وكذلك بين المشاهد.

اقترح علينا المخرج كمال الصغيّر جمالية مسرحية رمزية للصراع بين المواقف أشبه ما تكون بعالم سارتر المسرحي من حيث الطرح حيث تولد الوضعية الدرامية من رحم الإحراجات الأخلاقية، وأشبه ما يكون بأجواء ميترلنك الدرامية المتجاوزة للزمن المتعالية على التحقيب. ولكن العمل تلون بألوان الكوميديا الموسيقية وتحاور مع أشكال متعددة للكتابة الدرامية و اكتسى بنمط موسيقي لتتابع للحركة والأصوات ومن هنا كان العنوان “كادونس” التي تعني “إيقاع”.
تقوم مسرحية “كادونس” على التصوير الرمزي للصراع بين قيم المقاومة وبين قيم الاستسلام البراغماتي للاحتلال الخارجي. فهي تبرز الصراع النفسي والرمزي من خلال أداء الممثلين ولكن أيضا من خلال تحويل الصراع الداخلي للشخصيات إلى مناظر بصرية وسمعية مكثفة، باستخدام تقنية “المشاهد القصيرة” التي تشبه الومضات الذهنية، حيث يتم تجسيد الذكريات وتتحول العلاقة الزوجية إلى صراع محتدم. يمضي الإيقاع الدرامي في مسار يتنامى فيه التوتر مع الكشف التدريجي للحقائق ووضوح هوية الشخصيتين وعمق أزمة العلاقة بينهما. يقوم بناء العمل خاصة في الجزء الأول منه على مقاطع قصيرة تتراوح بين السرد والتجسيد وينتهي بالمواجهة وكشف الحقائق وصولا إلى محاولة الزوجة قتل زوجها.
تؤمن الآلات الموسيقية (الكاخون والقيثارة) وظيفة المرافقة الموسيقية والتمثيل العاطفي للمشاهد. حضورها أساسي في العمل إذ نجحت في خلق بناء إيقاعي يمثل إطار سرديا لأحداث الماضي. فالإيقاعات المنتظمة في العرض تشكل هيكلاً زمنياً يضبط إيقاع السرد. وتخلق الدقة الإيقاعية في العزف تناقضاً مثيراً مع المضامين العاطفية لبعض المشاهد، مثال ذلك مرافقة تتسم بالمرح في حين تسرد الزوجة وقائع الحرب الدموية مع صوت قصف صاروخي وانفجار قنابل. هذا التباين ينتج وعياً مزدوجاً لدى المتلقي: من ناحية، الانغماس في المحتوى التاريخي، ومن ناحية أخرى، الوعي بآلية إنتاجه وإعادة تقديمه. نشعر أن المخرج عامل الموسيقى كعنصر بصري في الفضاء المسرحي بحيث أصبح وجود العازفين جزءا من التشكيل السينوغرافي للعمل. فقد اختار العزف الموسقي المباشر على الركح بما يتوافق إلى حد كبير مع مقاربته الجمالية الرمزية والطبيعة الحميمية للعرض. ويمكنني القول أن هذا الاختيار قد مكنه من تدعيم المواقف الدرامية وتكثيف إحساسنا بالأحداث المأسوية واللحظات الرومنسية على حد سواء. كما مكن من ضبط إيقاع العرض، وخلق انسجاما فريدا بين الأداء والحركة وكسر الحاجز بين الممثلين والجمهور.

على أن العزف لم يكن خلفية موسيقية فقط بل هو جزء من الفضاء السينوغرافي. فعازف آلة الكاخون مثلا الذي استقر في موقع ظاهر في آخر الركح كان في الحقيقة جزءا من التركيبة البصرية للعرض ومساهما فاعلا في التجربة من حيث الشكل والمضمون. آلة الكاخون هي عبارة عن صندوق خشبي مجوف. يجلس العازف فوق الصندوق ويضرب بيده أو بأصابعه على اللوحة الأمامية التي تسمى tapa. ينتج الكاخون أنماطا إيقاعية متنوعة من النغمات العميقة إلى النغمات الحادة. لمّا كانت آلة الكاخون آلة إيقاعية بالأساس تمتاز بطابعها الصوتي الحميمي والمباشر فقد كانت عنصرا وظيفيا إيقاعيا أساسيا في العمل. فقد نجحت في إعطاء إيقاع للحركات الراقصة للممثلين في المشاهد التي تحتوي على رقص والمشاهد الإيمائية التي تجسد بعض المواقف دون كلام، وتلك التي تمزج بين التمثيل والغناء، وكذلك الانتقال بين المشاهد. كان العزف على آلة الكاخون جزءا أساسيا من السرد الدرامي في العمل وأكسبه خاصة الجانب الإيقاعي. من خلال موقع عازف الكاخون المرتفع في آخر الركح على منصة صغيرة تحت إضاءة خاصة به، كان عمله محوريا في البنية الإيقاعية للعمل، وهو الذي قاد هذا الإيقاع مثل قائد الأوركسترا بالنسبة للفرقة الموسيقية. أما آلة القيثارة التي يعزف عليها فواز بن كريّم الذي أدى دور الزوج، وهي أساسية بالنسبة له باعتباره مغرما بالقيثارة وهذه الآلة لا تفارقه منذ نعومة أظفاره، وبها تعلقت ذكريات تعرّفه على زوجته ونشأة قصة الحب بينهما. كل لحظة ارتبطت بإيقاع وكل ذكرى ارتبطت بأغنية. خلال المواقف الدرامية المختلفة عزف الزوج بعض المقطوعات عند تذكر مواقف من الماضي، كما استعمل الآلة لإحداث بعض التأثيرات الصوتية التي تتماشى مع بعض الحالات النفسية التي يمران بها على المسرح. للقيثارة أيضا وظائف أكسسوارية أخرى عندما استخدمت في بعض مواقف التمثيل والصراع لتأخذ حينا صورة المرأة أو الطفل أو تكون موضوع تجاذب بين الزوجين.
اتسم المقترح السينوغرافي لعرض مسرحية “كادونس” القائم على جمالية رمزية على مكونات سينوغرافية تبسيطية و مجردة تقريبا، وهو الأكثر انسجاما وملائمة لهذا الاختيار الجمالي. ذلك أنه يركز الانتباه على الرموز والدلالات من خلال أقل عناصر ديكور ممكنة من خلال مسرح بسيط وإضاءة دقيقة و عناصر رمزية قليلة. فعندما يكون المشهد بسيطا يسمح للجمهور بالتركيز على النص والأداء والرمز، خاصة وأن البنية الدرامية والسردية لا تعتمد بنية خطية. جعلنا هذا الاختيار السينوغرافي نلمس مرونة معينة في الفضاء الركحي لإعادة استخدام عناصر الديكور. تعتمد سينوغرافيا العمل على ثنائية التوتر والفراغ، التمزق والاتصال، من خلال استخدام فضاء مفتوح مع عناصر محدودة تحمل دلالات متعددة. المشهد يعبر عن دمار الداخل (العلاقة بين الزوجين) كما الدمار الخارجي (المدينة التي دمرتها الحرب). حاملة المعاطف الخشبية القديمة كانت مكسورة عليها معطف الزوج ومعطف الزوجة. هي العنصر الأساسي الذي يشير إلى أننا في منزل، ترمز للعلاقة التي مازلت قائمة ولكنها هشة ومتداعية. ثلاث مكعبات خشبية بيضاء بأحجام متفاوتة خالية من أي زينة. تستخدم المكعبات للجلوس غالبا ما يكون الكرسي الأوسط فارغا في إشارة لطفلهما المفقود. وذلك يرمز أيضا للمسافة التي أصبحت تفصلهما.

والقيثارة هي جزء من شخصية الزوج ومتمم له باعتباره عازفا قيثارة. كذلك تمثل الحب الذي كان بينه وبين زوجته. ومن خلال عزفه يسترجع الزوجان لحظات الوئام والتعارف والحب التي كانت بينهما في الماضي. حاول الزوج استخدام الموسيقى كجسر للاعتذار أو التبرير. أما الزوجة فتنظر للقيثارة بنظرة حنين ممزوجة بالألم لأنها تذكرها بالماضي الذي يسبق الحرب. في البداية ترقص على أنغام الموسيقى التي يعزفها زوجها وفي النهاية تنفر منها لارتباطها بالزوج الخائن. تمثل صورة آلة الكاخون والعازف الماثلة دائما في خلفية الركح، صورة أيقونية تشرف على الأحداث وتقودها. يمكن أن نعتبر عازف الكاخون صوت المدينة المدمرة، وضمير الشخصيتين ولسان حالهما. تكون قرعات عازف الكاخون على آلته خفيفة في لحظات الصمت والترقب. ويصبح إيقاعها حادا أثناء تبادل الاتهامات. وتعزف نغما حزينا عند التذكر و الحنين، وتكون ضرباتها جافة وقوية مع الكلمات القاسية. لقد تجاوز دور عازف الكاخون دور العزف إلى المشاركة في الأداء سواء بالتفاعل مع المشاهد، أو تهيئة مكونات الديكور بين المشاهد، أو توجيه الممثلين في أدائهم كأنه مخرج يباشر تمارين مسرحية.
لعبت كل من آلة القيثارة وآلة الكاخون في ثنائية إيقاعية تعكس التباين الدرامي وتنامي الصراع بين الزوجين. ترمز القيثارة لذاكرة الزوجين وترتبط بلحظات حبهما الضائع. في حين ترمز آلة الكاخون للواقع المتوتر والمدمر. عندما تعزف القيثارة نغمات حزينة، يرد الكاخون بنقرات واقعية. في لحظة الصراع، يتصاعد صوت الكاخون ليغطي على القيثارة. في النهاية، يبقى صوت الكاخون هو الصوت الوحيد.




