قراءة نقدية في عرض ريش فلسطين /د. أمل بنويس

( ألقيت في مهرجان بغداد الدولي للمسرح ـ الدورة السادسة)
يأتي عرض «ريش» ضمن مسار التحولات الجمالية التي يشهدها المسرح العربي المعاصر، والذي يتجه نحو مقاربة تقوم على تحويل الجسد من أداة تمثيل إلى بنية دراماتورجية فاعلة تولّد المعنى وتفكك السلطة. العمل يبتعد عن الحبكة النصية والخطاب المباشر، ويتبنى لغة حركية تعتمد على التكوينات الجسدية، وإدارة الفضاء، وتصعيد الإيقاع الطاقي، وتداخل الموسيقى والصوت والرمز. تحت قيادة المخرجة ومصممة الحركة شادن أبو العسل، بالتعاون مع الدراماتورج حازم كمال الدين، في إطار رؤية فنية تختبر العلاقة بين السلطة والحرية، بين الفرد والجماعة، وبين الجسد والعالم.
في عرض ريش يتراجع النص اللغوي لصالح الأداء الجسدي والصورة البصرية والإيقاع البنائي. وتظهر فيه أيضاً تأثيرات «الرقص التعبيري المعاصر» الذي طوّرته بينا باوش، من خلال المزج بين الحركة والانفعال، واستخدام الجسد كحامل للذاكرة والعاطفة والتجربة الإنسانية. وهو توجه يروم تفكيك السرد، بل ويؤسس لشعرية الحركة باعتبارها أداة تفكير جمالي وفلسفي.
تتمحور الرؤية الدراماتورجية للعمل حول سؤال مركزي: كيف تتشكل السلطة داخل العلاقات الإنسانية؟ كيف تتحول من تواصل عاطفي إلى استلاب؟ وكيف يتورط الجسد في إنتاجها أو مقاومتها؟ عبر حالات جسدية تتراوح بين السكون والتوتر، وبين الانسجام والصراع، وبين حالة الترويض والانفجار، في بنية تصاعدية-دائرية تجعل المتفرج يختبر التجربة ويشعر بها بشكل آني.
تستند هذه الورقة إلى مشاهدة مزدوجة للعرض: النسخة المسجلة ، ونسخة أمس التي قُدمت في مهرجان بغداد الدولي للمسرح. وقد كشفت تتبع العرضين عن حساسية هذا النوع من العروض المعتمد على الذاكرة الجسدية للمؤدين، وسمح برصد أثر التغيير الاضطراري في توزيع الأدوار إثر غياب إحدى المؤديات المركزيات في العرض في أخر لحظة وتعويضها بمؤدية أخرى، ربما لم يسعفها الوقت لضبط الأداء المطلوب لدورها الجديد كما جاء متقنا دقيقا في التسجيل.
هذه الورقة ستقوم بتحليل العرض من منظور جمالي ودراماتورجي، من خلال تفكيك بنية الحركة، والعلاقات الجسدية، والرموز البصرية، والصوت، والفضاء كما ستحاول تقييم التجربة في ضوء مفهوم الأداء المعاصر.
الإطار المفاهيمي والجمالي للعمل
بعيد عرض ريش النظر في مفهوم المسرح بوصفه فضاءً للأداء، القائم على التعبير الجسدي، وطاقة المؤدين، حيث يتراجع النص اللغوي لصالح اللغة الجسدية والصورة المسرحية والتكوين الحركي. ليتحول المؤدي من مفسّر للنص إلى مولّد للمعنى عبر الجسد، ويصبح الأداء نفسه الفردي والجماعي إلى بنية دراماتورجية بديلة عن الحبكة.
يقوم العرض على خصائص الرقص التعبيري المعاصر، كما طوّرته بينا باوش، من خلال المزج بين التعبير الحركي والانفعال النفسي، وتوظيف التكرار والطقس والفضاء كامتداد للجسد. كما تتقاطع جمالية العرض مع تصور جروتوفسكي (المسرح الفقير) الذي يمنح الجسد مكانة مركزية على حساب الديكور والوسائط الخارجية. غير أن «ريش» لا يكتفي بتفريغ الفضاء، بل يوظّف السينوغرافيا والرموز والأصوات كعناصر دراماتورجية موازية للحركة، تجعله حدثاً حياً يُحدث تحولاً في وعي المتلقي عبر التفاعل الحسي.
على مستوى الموضوع، يرتكز العرض على ثلاثية أساسية: السلطة، الحرية، تشكيل الذات. إذ يفحص أليات تسرّب السلطة إلى العلاقات العاطفية والجماعية، وكيف يمكن للجسد أن يكون في آن واحد موضوعاً للهيمنة وأداة لخدمتها أو لمقاومتها. وهذا الصراع يتجسد عبر ثنائيات: (هيمنة/استلاب)، (فرد/جماعة)، (حركة/خضوع)، وتضيف العناصر غير البشرية (الكلب، العصفور، المكتبة الكرسي ) مستويات رمزية توسّع المعنى من الشخصي إلى الاجتماعي. وهو ما يجعل «ريش» تجربة تتطلب قراءة تتجاوز التحليل السردي التقليدي، نحو تحليل أنثروبولوجي/سيميائي/حركي يتعامل مع العرض كبناءً للطاقة، ولغةً للسلطة، ومساحة للتفاوض بين القمع والتحرر.
من بناء الحالة إلى بناء الصراع
يعتمد العرض على دراماتورجيا تقوم على تطور الحالات وليس على تسلسل الأحداث. باعتباره عمل ما بعد درامي يستغني عن النص الملفوظ، تتأسس البنية من خلال انتقالات حركية وانفعالية تتصاعد تدريجياً، تمنح العمل طابعاً زمنياً داخلياً، يتحول فيه الجسد من حالة طقسية هادئة إلى حالة انفجارية مشحونة. وهو مسار يتشكل عبر منطق دائري-تصاعدي: بداية تقوم على الإعداد الحسي أو الترويض التدريجي، وسط يهيمن عليه الصدام الجسدي والرمزي، ونهاية تعيد الجسد إلى السكون بعد تجربة تحولية.
يبدأ العرض بمرحلة استكشاف الجسد للفضاء، ثم حركات بطيئة تؤسس معجما داخليا و لغة إشارية تعبيرية هي لغة الحوار في العرض. بعدها يتكوّن النسيج الجماعي عبر توليفات جسدية منسجمة توحي بوجود نظام هيمنة يحدد الإيقاع المشترك. وينظم الحركة وفق منطق إخضاع وسلطة.
مع تشكّل العلاقات الثنائية، ينتقل العرض إلى مستوى المواجهة المباشرة بين الأجساد. فتتحول الحركة إلى ساحة تفاوض على القوة. تتطور هذه العلاقات عبر طبقات من الجذب والتملك والاستلاب..
ليتسع البناء الدراماتورجي بدخول العناصر الرمزية التي تعيد تشكيل معنى الفضاء والعلاقة به. يظهر الكرسي-المكتبة كجهاز عمودي للهيمنة والسلطة ، ويأتي تجسيد الكلب وحركات العصفور كتمثيلات للحضور الحيواني (بدلالات الوفاء والخضوع أوالحرية المتخيلة)
تبلغ البنية ذروتها حين يصل الجسد إلى أقصى طاقته. حينها تتحول الحركة إلى فعل مقاومة، ويصبح التعب نفسه جزءاً من الدلالة. تتسارع الإيقاعات، تتضخم الأصوات، ويصل الصراع إلى لحظة انكشاف، حيث يعرض الجسد هشاشته وقوته في الآن ذاته. أخيراً، ينحسر التوتر تدريجياً ويعود العرض إلى السكون. تخفت الحركة والصوت وتتفكك التشكيلات الجماعية، ليعود كل جسد إلى حالة فردية ، لكن بعد خوض تجربة تحول. تنغلق الدائرة من حيث بدأت، غير أن المعنى يبقى مفتوحاً: هل تحقق التحرر فعلاً، أم أعيد إنتاج السلطة في شكل آخر أكثر خفاءً؟
العناصر الجمالية والرمزية في عرض «ريش»
الجسد نصاً
يُشكّل الجسد المحور الأساسي في العرض،فهو نص قائم بذاته، حيث الحركة والإيماءة والتوتر العضلي هي أدوات لنحت المعنى من داخل الجسد. وهذا المبدأ قريب من تصور جروتوفسكي للممثل كـ «رياضي للعاطفة»، حيث لا ينفصل التعبير الداخلي عن البناء الفيزيقي للجسد. الذي يختبر حدوده القصوى: إرهاق، تعرّق، تنفس، صراخ … ما يجعل الحقيقة الأدائية جزءاً من الحقيقة الدرامية. ومن خلال المسافة بين السيطرة والانهيار، يبرز سؤال السلطة والاستلاب داخل الجسد نفسه.
الحركة المعاصرة
يعتمد العرض على منطق الحركة المعاصرة القائمة على التركيب الديناميكي والتعبير الداخلي، أكثر من اعتمادها على الشكل أو الجمال الظاهري. وهنا نستحضر رودولف لابان وفكرته عن «جودة الحركة» (Effort)، وكيف تعبّر الحركة عن الحالة النفسية قبل أن تعبّر عن المادة. مما جعل من لحظات (اللمس، الدفع، الحمل، الجرّ الرقص…) مفاوضة مستمرة بين القوة والضعف أكثر منه حركات جمالية أو حميمية كما تفترض في بعض المشاهد.
الصوت الجسدي (Vocalité Corporelle)
في لحظات الذروة، يصبح الصراخ شكل مقاومة، ويصبح الصمت شكل خضوع. وهكذا يتكامل الصوت مع الحركة ليخلق طبقة دلالية واضحة
فيما شكل الاداء الموسيقي شريكا موازية للجسد في بناء الصراع. فألحان الفنان سعيد مراد نحتت الزمن الداخلي والنفسي للعرض، وعملت كمحرك للأجساد، أحياناً كقوة تضغط عليها أو تحاصرها. وأحيانا أخرى تتقدم الموسيقى لتصبح «صوت السلطة»، بينما يتراجع الجسد ليبحث عن نبرته الخاصة للمواجهة.
هندسة سياسية للفضاء المسرحي
السينوغرافيا رغم بساطتها الظاهرية، إلا أنها مشحونة رمزياً: مكتبة/كرسي شاهق يحتل مكانا مركزيا داخل الفضاء، يطل من الأعلى، ويحوّل الركح إلى بنية هرمية واضحة. حيث الهيمنة تمارس عبر التنظيم المكاني والمعرفي. و المقابل هو مقعد منخفض يُستخدم من قبل الشخصيات المستلبة، ما ينتج علاقة عمودية بين الأعلى/الأسفل، السيطرة/الخضوع.
كما تتحكم الإضاءة في تركيز المتلقي، وتوجّه العين نحو مركز القوة أو لحظة الانكسار. أحياناً تضيء جسداً واحداً وسط الظل، كأنها تستجوبه، وأحياناً تفتح الفضاء أمام الجماعة كأنها تمنح فسحة حرية.
تعمل الإضاءة كسلطة بصرية، وكأنها «عين النظام» التي تراقب وتحدد من يُرى ومن يُحجب
بنية العلاقات الجسدية والدلالية
الفرد والجماعة من الذوبان إلى المقاومة
في «ريش»، يظهر الجسد في البداية كجزء من كتلة جماعية منسجمة، حيث تتحرك الأجساد بتناغم شبه طقسي. وهو انصهار يعكس آليات الطاعة والانضباط، ويُحيل إلى ما يصفه باربا بـ «الأنثروبولوجيا المسرحية» حيث يتخذ الجسد وضعيات مشتركة تخضع لقانون داخلي غير معلن. غير أن هذا الاندماج لا يستمر طويلاً، إذ تبدأ الأجساد في الانسلاخ والتفكك تدريجياً، معلنة ولادة الوعي الفردي ورغبة الجسد في الانفصال عن الجماعة.
الجسد والفضاء: التملّك مقابل الاستلاب
الفضاء في العرض فاعل دراماتورجي يحدد موقع كل جسد. حين تقترب الشخصيات من الكرسي-المكتبة الشاهق، يظهر الخضوع أو الرغبة في الترقي. وحين تتحرك في المستوى الأرضي، يتجلى ضعفها أو هامشيتها. البعض يسيطر على الفضاء بحرية، والبعض يتحرك بحذر.وهنا يتحول الركح إلى مجال قوى، حيث يُعاد إنتاج السلطة عبر الموقع الجغرافي: الأعلى/الأسفل، المركز/الهامش، الضوء/الظل. وهي مقاربة قريبة من تصور فوكو حول السلطة المكانية.
العلاقات الثنائية تحاكي تحليلات آنا آرنت حول ولادة العنف من العاطفة وسرعان ما يصبح الحب فخاً سلطوياً
فالعلاقات تبدو حميمية في بداياتها، تتأسس على التماس والثقة والاقتراب، لكنها تتحول تدريجياً إلى علاقة تسلط وسيطرة . الحركة نفسها تتحول من احتواء إلى خنق، من دعم إلى تحكّم.
هذا ويقدم العرض تصورا واضحا حول الجندر والسلطة: أنثى تُهيمن ورجل يُستعبد
وبذلك يبتعد العرض عن الثنائية التقليدية (ذكر = سلطة / أنثى = ضحية). على العكس، تؤدي امرأة دور السلطة المركزية، بينما يتعرض الرجل والمرأة معاً للاستلاب.
وبذلك فالجسد يمكن أن يُعيد إنتاج السلطة أو يقاومها بحسب موقعه في البنية، وليس بحسب هويته البيولوجية
التحوّلات الرمزية والفكرية
يبدأ العرض من العلاقات الإنسانية الحميمية لينتهي إلى كشف البنية العميقة للسلطة بوصفها منظومة ثقافية ونفسية واجتماعية تتسلل إلى الحب والرغبة والحركة. الاستلاب قد يكون خيارا إراديا وليس قسريا بالضرورة، ما يجعل الضحية شريكاً في إنتاج القيود وأليات الخضوع. أما الحرية فتظهر كإمكانية هشة يجسدها رمزيا العصفور الذي يتحرك داخل الفضاء المغلق دون أن ينجح في الفرار. هكذا ينتقل العرض من سؤال “من يسيطر وكيف؟” إلى “كيف نعيد إنتاج السيطرة بأنفسنا إلأى ما لا نهاية ؟”. الجسد يتحول إلى مختبر سياسي، والرقص إلى أداة تفكير، والذروة إلى لحظة انكشاف للحقيقة العارية للعنف.



