مقالات

ثلاث خشبات/ خالد دقاقي

في بغداد، المدينة التي عرفت كيف تُعيد بناء ذاتها بالحلم والفن، انعقدت الدورة السادسة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، لتؤكد أن الخشبة ما زالت قادرة على أن تكون منبراً للأمل، ومنارة للوعي، وساحة للحوار الإنساني.

في هذه الدورة، بدا أن للمسرح أكثر من وجه وأكثر من فضاء، فكانت هناك ثلاث خشبات تتناوب على حمل صوت الفنان ووجعه ودهشته. ثلاث خشبات لا يجمعها المكان فحسب، بل الرؤية التي تؤمن بأن المسرح هو فعل مقاومة وجمال في آن واحد.

الخشبة الأولى: ذاكرة الحلم

على الخشبة الأولى، تنفست بغداد ذاكرة أبنائها المسرحيين الذين غيّبتهم الأيام، لكنها لم تستطع أن تُبعدهم عن الضوء. في لحظات الافتتاح، بدا المهرجان وكأنه طقس وفاءٍ كبير لرموزٍ شكلت الوجدان المسرحي العراقي والعربي، من مخرجين وممثلين ونقادٍ ومبدعين.

كانت هذه الخشبة مساحة لاستعادة السيرة، والاعتراف بفضل من جعلوا من المسرح مرآةً للمجتمع وسلاحاً ثقافياً بوجه التحديات. في كل عرض، كانت روح الراحلين تُشارك من بين الأضواء، وكأنهم يقولون: “ما دام المسرح قائماً، فنحن هنا.”

الخشبة الثانية: الإنسان فوق الركح

في الخشبة الثانية، استعاد المسرح جوهره الإنساني الخالص. لم تكن العروض مجرد مشاهد تمثيلية، بل صرخات صامتة ضد النسيان.

وقف الممثلون ليعيدوا صياغة الواقع بلغة الفن، ويجعلوا من تفاصيل الحياة اليومية مادةً للحوار والتأمل.

من “مأتم السيد الوالد” إلى العروض القادمة من بلدان عربية وأجنبية، توزعت المواضيع بين الوجع الجمعي والبحث عن الذات، بين الأسئلة الوجودية والهم الاجتماعي، لتقول للعالم إن المسرح في بغداد ما زال قريباً من نبض الناس، حاملاً قضاياهم، وناطقاً بأحلامهم.

الخشبة الثالثة: أفق المستقبل

أما الخشبة الثالثة، فكانت للمستقبل، وللجيل الجديد الذي بدأ يرسم ملامح مسرحٍ مختلف، أكثر جرأة وتنوعاً.

هنا برزت تجارب الشباب التي استخدمت التكنولوجيا والوسائط البصرية، لتفتح باباً جديداً أمام المسرح العراقي نحو التجديد والابتكار.

لقد بدا واضحاً أن المهرجان لا يحتفي بالماضي فقط، بل يُراهن على القادم، على الشباب الذين يريدون أن يقولوا كلمتهم بلغة العصر دون أن يفقدوا أصالة الهوية العراقية والعربية.

بغداد.. عاصمة تتنفس المسرح

ما يميز مهرجان بغداد الدولي للمسرح أنه لا يكتفي بالعروض، بل يُقدّم نفسه كمشروع ثقافي شامل، يجمع بين الفن والتفكير، بين الحوار والتجريب.

فإلى جانب العروض، احتضن المهرجان جلسات فكرية ، جمعت فنانين ونقاداً من مختلف البلدان، في حوارٍ مفتوح حول مستقبل المسرح العربي ودوره في زمن التحولات الكبرى.

وبين ضوء الخشبة وضجيج المدينة، اكتشف الزائر أن بغداد لا تزال وفية لفنها، وأنها تعرف كيف تجعل من المسرح جسراً يربط بين الجراح والأمل، بين الواقع والحلم.

“ثلاث خشبات” ليست مجرد استعارة، بل واقعٌ حيّ في بغداد اليوم: خشبة للذاكرة تحفظ التاريخ، خشبة للإنسان تحكي وجعه، وخشبة للمستقبل تزرع بذور التجديد.

بهذا المعنى، أثبت مهرجان بغداد الدولي للمسرح أن الفن ليس ترفاً، بل هو فعل مقاومة ضد النسيان، ورسالة تقول إن بغداد، رغم كل ما مرّ بها، ما زالت قادرة على إشعال شمعة جديدة في ظلام العالم.

Related Articles

Back to top button