المسرح الانتثاري/ محمود هدايت

” المسرح بيوغرافيا رماد، حرائق جمالية وفكرية في غابات الجسد، نارٌ تنبعث من مسام الصمت الميتافزيقي تحرق العرض والجمهور معا“/ ألن غيغي
* كلُّ حركةٍ انتثاريةٍ جديدةٍ تصدرُ من جسدِ (الممثلِ الشظويِّ) هي في الأصلِ تبشيرٌ بعالمٍ جديدٍ – نهايةٌ وبدايةٌ يتحرّكانِ تحتَ سقفِ مسرحٍ يُفكّرُ خارجَ السطرِ العلاميِّ للجسدِ والعينِ على حدٍّ سواءٍ.
* الجسدُ المُشفّرُ بالموتِ، بل المأخوذُ بضرورةِ وأهميةِ احتيازِ العرضِ المسرحيِّ على أجسادٍ من هذا النوعِ، كصورةٍ تعبيريةٍ من صورِ الولاءِ للصمتِ الأسطوريِّ، بطبيعةِ الحالِ، هو انشباكٌ انتثاريٌّ لا يتوفرُ في المسرحِ كما هو الحالُ في السينما.
* جسدُ المُمثّلُ سبورةٌ تعبيريةٌ يكتبُ عليها المخرجُ سؤالَهُ الإشكاليَّ الأولَ والأخيرَ، لماذا العرضُ؟ لكنْ في حالِ تعذرِ وجودِ مثلِ هذا النوعِ من السبوراتِ، علامَ ستُلّخصُ مخرجاتُ مؤتمرِ الأداءِ، وأينَ سيضعُ المخرجُ في نهايةِ المطافِ توقيعَهُ؟
* ينبغي أنْ يكونَ الأداءُ المسرحيُّ رغبةً بذاريةً تحيلُ إلى ذوباناتٍ فائقةِ التوهّجِ، وإنّ استحالةَ تحقّقِ ذلك، تكمنُ في خلوِّ الجسدِ من الظمأِ الفنائيِّ – الشظويِّ، وبالطبعِ، إنّ غيابَ هذه الشعيرةِ الالتهاميةِ، سيؤدي حتمًا إلى أمكَنةِ الجسدِ، وحرمانِهِ من الحقِّ في الأفضنةِ.
* المسرحُ الذي لا يملكُ رغبةَ الانتثارِ – (بالمعنى الدريديِّ للمصطلحِ ) لا يمكنُ له أنْ يتجاوزَ نفسَهُ، بل سيبقى في دائرةِ الفعلِ وردةِ الفعلِ، وتتحصّلُ الانتثاريةُ في العرضِ المسرحيِّ في اعتمادِ مسارينِ، أولُّهما: تبني الجسدِ مشروعَ الفناءِ الكليِّ(الشظويِّ) في الالتحامِ السريِّ معَ منظومةِ العرضِ كاملةً، وثانيهما: أنْ يكونَ الغيابُ – أي الشبحيةُ – هو الفرضيةُ التي يتبناها المخرجُ كاستراتيجيةٍ يبلغُ من خلالِها أسرارَ حركةِ العرضِ، و في حالِ عدمِ توفرِ هذينِ المسارينِ يكونُ من العسرِ على المسرحِ أنْ يحوزَ إيقاعًا انتثاريًّا؛ لأنّه سيكونُ رهينَ كليشيهاتٍ سيمولوجيةٍ مُعدّةً سلفًا، شاغلُها الوحيدُ هو كيفيةُ تقنينِ الجسدِ وضمانِ حركتِهِ داخلَ خطاطةِ الأداءِ الإخراجيِّ.
* ماذا يكونُ المسرحُ سوى جسدٍ يتراءى موتًا إيروسيًّا، ليقتلَ بذلك تناهيه، كاستراتيجيةٍ يوسّعُ بها مجالَ الرؤيةِ الانتثاريةِ، التي ستكونُ بعيدةَ المنالِ دونما توفرِ التوهّجِ الفنائيِّ، الحالُ ذاتُهُ نجدُهُ في ذروةِ الجماعِ الجنسيِّ، حيثُ تنمو الأجسادُ حافةً لشغفٍ التهاميٍّ لا ينقطع – حياتُهُ في موتٍ يكتبُهُ حركةً، وموتُهُ في حركةٍ تٌسميهُ وجودًا.
* أهمُّ صفاتِ المُمثّلِ الانتثاريِّ، هي أنْ يحوزَ جسدًا يتحرّكُ نموًّا في البداهةِ الحسيّةِ والحدسيةِ؛ لكونِهِ معنيًّا بالترحالِ بعيدًا في طبقاتِ ما يُخلّفُهُ من أثرٍ في الهواءِ ، إنّه مصباحُ الأسفارِ الداخليةِ، و”فجأة يتبدد الفضاء كحوض من الزئبق” برنار نويل.
* لا يحوزُ المسرحُ على انتثارِهِ إلّا في العملِ على إمكانيةِ قتلِ التأويلِ، واختلاقِ تجريفاتٍ جادةٍ تشملُ العينَ والجسدَ معًا، ذلك في اعتماد التقويضِ الصارمِ، والأخيرُ إذا ما تحقّقَ، حينئذٍ يمكنُنا التحدثُ عن إمكانيةِ توفرِ الانتثاريةِ.
* كما للبَلشُونِ إمكانيةُ رؤيةِ واصطيادِ ما تحتَ الجليدِ، ينبغي على المخرجِ المسرحيِّ أنْ يوغلَ ببراعةٍ في استكناهِ جسدِ الممثلِ، وألّا يكتفي بطبقةٍ أو طبقتينِ؛ ذلك لأنّ الانتثاريةَ في تقشيرِ الجسدِ كاملًا حفرٌ ، كأنما بحثُ نظرةٍ عن نفسِها في ظلامٍ تزدادُ شدتُهُ كلما فكرَتْ العينُ في ما ينتظرُها خارجَ دائرةِ الرؤيةِ. يعني، أنَ المسرحَ برمّتِهِ هو عمليةُ تقشيرٍ للكارثةِ الدراميةِ: ( الأداءِ) بالأجسادِ.
* الانتثارُ المسرحيُّ كما في كلِّ الفنونِ البصريةِ الأخرى هو شعريةُ ذُروةٍ تنفرجُ وتنكمشُ على احتياجِها الخاصِّ لضرورةِ إدامةِ المأمولِ سبرُهُ وبلوغُهُ، الحالةُ ذاتُها التي تضعُ المتصوّفَ أمامَ حقيقتِهِ الغائبةِ – مشهدٌ لمراسلاتِ مرايا في ضبابٍ.
* ليس المسرحُ فكرةً متعلّقةً بمسألةِ تأديةِ أدوارٍ عن هذه الحادثةِ أو تلك، إنما هو إشراقٌ جسديٌّ- خياليٌّ في آنٍ واحدٍ، أسفارٌ من الذوباناتِ في العاصفةِ السريةِ كما في أعمالِ «صامويل بيكيت»، أو انعتاقٌ من الواقعيِّ للدخولِ في مساحةِ التألّهِ الناريِّ التي لا تنفكُّ حرائقُهُ تلتهمُ الحواسَّ والروحَ كما فراشةِ «جلال الدين الرومي» في طوافِها حولَ نورِ السعادةِ الغامضة.