عزيز عبد الصاحب .. رجل المسرح مقدمة لـــــ ( مسرحيات صوفية )/د . ياسر عبد الصاحب البرّاك

من هو رجل المسرح ؟
سؤال يتردد منذ قرون عديدة ليُنتج لنا إجابات متباينة، تخضع في صيرورتها لحركة ذلك الرجل وماهيته، فهل هو ذلك الممثل الجوّال الذي يجوب بعربته في قرى بلاد الإغريق القديمة ويُقدِّم لهم مقاطع من ملحمتي ( الإلياذة ) و ( الأوديسة ) للشاعر القديم هوميروس، مرّة في صيغة منشد على قيثارة قديمة، وأخرى في صيغة ممثل يطلي وجهه ببعض الأصباغ ليقرّب وجوه وأشكال الشخصيات التي يمثلها أمام الجمهور المتحلّق حوله في دهشة غريبة؟
أم هو ذلك المؤلف الذي يكتب ثلاثيته التراجيدية قاصداً المشاركة بها في المسابقة الرسمية من أجل الفوز برضى الجمهور الإغريقي، الأمر الذي يدفعه إلى الإشراف بنفسه على حيثيات العرض المسرحي وتفاصيله، بدءً من تدريب الممثلين وخاصة الجوقة، ومروراً بتوفير الأزياء والأقنعة المناسبة لشخصياته، وإنتهاءً بمتابعة سيل الدموع الذي ينهمر في آخر العرض خوفاً من المصير المأساوي وشفقة على البطل الذي تدرّج من مراتب النبل والعظمة إلى مراتب الوضاعة والسقوط ؟
لا ، بل هو ذلك الفيلسوف الذي يستنبط من تجربته وتجارب الآخرين قوانين جديدة يؤسس عبرها نظرية في الدراما يمكنها أن تكون موجهاً لأجيال كبيرة من رجال المسرح الذين يواجهون قبح الحياة بجمال المشهد المسرحي .. لكن مع ذلك تبقى صورة رجل المسرح ناقصة في تصورنا، لأن كل تلك الأوجه لا تُعطي لنا صورته الحقيقية، ولا تؤشر لنا دوره الفعّال الذي إمتدّ عبر الزمان والمكان لأكثر من ثلاثة آلاف عام .. إذن من هو رجل المسرح الحقيقي يا ترى؟
أهو ذلك المُطارد والمهدور دمه بفعل فتاوى التحريم، وتُهم التجديف والهرطقة ومصاحبة الشيطان؟ أم هو الكاهن الذي يروّج لتعاليم دينه في مسرحيات الأسرار والمعجزات، والقديس الذي يتخذ من خشبة المسرح منبراً تبشيرياً للإصلاح وإعادة الناس لقيم الفضيلة وإبعادهم عن فخاخ الرذيلة؟
ربما يكون رجل المسرح ذلك المتنوّر الذي وجد في أفعال رجال الدين إمتهاناً لكرامة الإنسان وحريته بإسم الدين، فأحالوه إلى مطية عمياء تشتري صكوك الغفران بما تكسبه من قوت يومها، لكن صورة رجل المسرح تبقى ناقصة أيضاً، ففي الوقت الذي كان يثور فيه على القيم الاجتماعية البالية التي كرّسها رجال الدين ليحافظوا على نفوذهم في المجتمع، كان في الوقت ذاته يثور على القواعد البالية في المهنة المسرحية نفسها، فلم تعد ( التعاليم القديمة ) مجدية إزاء هذا التغير والتنوع الكبير الذي بات يجتاح حياة رجل المسرح، ما يعني أنه لابد أن يقوم بثورة على تلك التعاليم ليُنتج لنا تعاليم جديدة، فكانت المختبرات والورش والإستوديوهات والفرق التخصصية هي سمة عصر العلم في حقل المهنة المسرحية، وليصبح رجل المسرح في عصرنا الحالي أكثر من صورة، وأكثر من معنى، وأكثر من هوية جدد ، إذ تناسلت المهنة المسرحية وتنوّعت ، بل أنها وصلت حدَّ التعقيد، لكن صورة رجل المسرح الشامل، والمتعدد المواهب، والقادر على القيام بعدّة وظائف في الوقت ذاته، لم تندثر، بل منحها العصر الحديث شكلاً جديداً من أشكال الحضور المرئي، إنها تتواجد في العديد من التجارب العالمية والعربية والعراقية، والفنان الراحل عزيز عبد الصاحب ( 1937 – 2007 ) واحد من تلك النماذج التي تستحق أن نقف عندها طويلاً للأدوار الكبيرة التي قدمتها في حقل المهنة المسرحية سواء في مدينته الناصرية ( 360 كم جنوب بغداد ) أو في العاصمة بغداد التي إنتقل لها أواخر الستينيات من القرن الماضي .
ينحدر عزيز من عائلة عراقية مثقفة وعريقة في مدينة الناصرية هي عائلة ( المله عمران ) وهي واحدة من العوائل القليلة التي ساهمت في تأسيس مدينة الناصرية عام 1869 عندما قرر الوالي العثماني مدحت باشا توطين قبائل المنتفق في مدينة ذات حدود معينة ليسهل السيطرة عليهم، وكان ذلك بمساعدة الأمير ناصر باشا السعدون الذي كان يخوض صراعاً ضد شقيقه منصور باشا السعدون على زعامة المشيخة السعدونية التي بدأت ملامح أفولها تظهر مع تحول قبائل المنتفق من قبائل رُحَّل إلى سكّان في مدينة ذات طراز عصري شبيه بالمدن العراقية الكبرى ( بغداد والبصرة والموصل ) خاصة وأن ناصر باشا الذي منح المدينة أسمه والملقب بـ ( الأشقر ) إستعان بخبرات المهندس البلجيكي ( جولس تللي ) في تخطيط المدن ليجعل من الناصرية مدينة ذات خصوصية من ناحية شوارعها المتعامدة، وفي وقت مبكر شهدت هذه المدينة ظهوراً قوياً للمدارس الحديثة منذ بدايات القرن العشرين، حيث أصبحت هذه المدارس رحماً للنشاطات المسرحية التي كان فيها عزيز عبد الصاحب لاعباً أساسياً منذ نعومة أظفاره، إذ شهدت مدارس الناصرية وخاصة المدرسة المركزية أولى النشاطات المسرحية وتحديداً عام 1921 بمسرحية ( مجنون ليلى ) للشاعر أحمد شوقي، وعزز هذه الجهود الفطرية زيارات الفرق المصرية للناصرية التي بدأت أواخر العشرينيات بزيارة فرقة جورج أبيض، وفرقة فاطمة رشدي، ثم فرقة يوسف وهبي مطلع الثلاثينيات، ثم تبعتها زيارات الفرق العراقية مثل فرقة حقي الشبلي ومحمود شوكت، وفي كل تلك النشاطات المسرحية كانت الممارسة الفطرية هي الغالبة على الجهود المسرحية التي يقدمها أبناء مدينة الناصرية، حتى قُدّر للفنان عزيز عبد الصاحب أن يتخرّج في معهد الفنون الجميلة في بغداد أواخر الخمسينيات ليعود إلى مدينته ويقدم عدداً من الأعمال المسرحية في قضاء الشطرة أولاً وفي مدينة الناصرية ثانياً لينقل الممارسة المسرحية في المدينة – هو ورواد آخرون أمثال محسن العزاوي وعدنان مبارك ومهدي السماوي وحسين الهلالي – من شكلها الفطري غير العلمي، إلى الشكل الأكاديمي الذي نهل من تجارب الفنانين العراقيين الرواد أمثال : حقي الشبلي ، وجاسم العبودي ، وإبراهيم جلال ، وآخرون .
لقد أسس عزيز ملامح المسرح الحديث في مدينة الناصرية من خلال عمله الدؤوب مع مجموعة من الفنانين الهواة الذين أفادوا من خبرات عزيز الإخراجية والتأليفية ، فضلاً عن مواهبه التمثيلية التي جعلته يخلق مجموعة مسرحية متجانسة تسيدت المشهد المسرحي في المدينة أواخر عقد الخمسينيات وحتى أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي ، ما خلق نوعاً من المنافسة الشديدة بينه وبين مجموعات أخرى وخاصة مجموعة الفنان الراحل مهدي السماوي ، ونستطيع أن نحدد أهم الإضافات التي قدمها عزيز إلى مسرح الناصرية في الآتي :
نقل الواقع المسرحي من كونه ممارسة فطرية إلى آفاق الممارسة الأكاديمية .
وسّع مساحة الإشتغال المسرحي بتأسيسه للمسرح الأكاديمي في قضاء الشطرة، فضلاً عن جهوده في مدينة الناصرية .
أسس جماعة مسرحية منسجمة كانت رفيقة له في أغلب العروض المسرحية التي قدمها .
إعتمد بشكل أساس على نصوص المؤلفين العراقيين سواء تلك التي كانت سائدة مثل نصوص يوسف العاني ، أو تلك الجديدة المبتكرة مثل نصوص الشاعر قيس لفتة مراد .
عالج موضوعات مهمة وبشكل مبكر مثل التراث السومري وتوظيفه في العمل المسرحي مثل مسرحية ( أكازو ) وغيرها من المسرحيات .
إعتماده على طاقته الذاتية ومواهبه المتعددة في ميدان التمثيل والتأليف والإخراج والشعر والتنظير .
رافقت تجربته العملية تجربة نظرية إعتمدت على التنظير وممارسة النقد المسرحي ، فضلاً عن سعيه المستمر للإفادة من الأشكال التراثية ذات التوجه المسرحي في أغلب تجاربه المسرحية ، بل أنه كتب تصوراته تلك في صيغة بيان مسرحي تحت عنوان ( المسرح الذي أفكر فيه ، المسرح الذي أدعو إليه ) .
برّز دور العنصر النسوي بشكل واضح في مسرحياته من خلال إعتماده على نساء من خيرة العوائل في المدينة مانحاً عوائل تلك النساء ثقة كبيرة في التعامل الجيد معهن .
كرّس جهود العديد من الممثلين الهواة الذين لم يحضوا بفرصة الدراسة الأكاديمية ، وإعتمد على تطوير طاقاتهم في أغلب الأعمال التي قدّمها .
أسس لتعاون وثيق بين مسرح المدينة ومسرح العاصمة من خلال مساهمته التأسيسية في تأسيس الفرقة القومية للتمثيل عام 1969 ، فضلاً عن زياراته المتكررة للناصرية حتى بعد إستقراره في بغداد وتقديمه لمسرحية ( رائحة المسك ) في الناصرية منتصف الثمانينيات وبكوادر كلها من داخل المدينة .
على الرغم من إنتقال عزيز إلى بغداد أواخر الستينيات ، إلا أنه ظل أباً روحياً للمسرح في مدينة الناصرية ، عبر ما تركه من بصمات واضحة في السجل الإبداعي لهذه المدينة ، ناهيك عن تواصله الدائم مع مسرحييها سواء عبر إستقبالهم في العاصمة ، أو عبر زياراته المتكررة للناصرية التي كان يعتبرها محطة إستراحة يلجأ إليها كلما ضاق به الحال في العاصمة بضجيجها وفوضاها ، وقد عبّر لي مراراً عن شعوره الدائم بالحنين لمدينته التي كانت دائماً تمنحه – بحسب تعبيره لي – مساحة للتأمل ، تلك المساحة التي لا يجدها في العاصمة ، ولذلك ليس غريباً أن يلجأ عزيز في أواخر أيامه إلى الكتابة عن هذه المدينة خاصة في مسرحيته ( رغيف على وجه الماء ) التي عالج فيها حادثة قصف جسر الناصرية من قبل قوات التحالف الدولي عام 1991 التي راح ضحيتها أكثر من 600 إنسان بريء ، بل أن مساحة التأمل لدى عزيز إتسعت ليكتب عن شخصيات تاريخية على الرغم من بعدها الزمكاني عنا إلا أنه أعطاها صيرورة جديدة عبر سحبها إلى زمننا الراهن ، فقد بدأ بـ ( إبن ماجد ) ليؤشر عبقرية العقلية العربية وإستهدافها من قبل الغرب ، والشيء اللافت للنظر في هذه المسرحية ، أنه حاول عبر لغة الشعر أن يُوجد نوعاً من المقتربات الصوفية بين الشخصية المركزية ( إبن ماجد ) وبين البحر بوصفه معادلاً لها ، عبر مستوى الغموض والسرية التي يتسم بهما الإثنان ، فضلاً عن ما يقدمه البحر من عظمة وتجلي لقدرة الخلق ، ولم يقتصر فعل التجلي الصوفي على إبن ماجد فقط ، بل تعدّاه إلى شخصية الصوفي الكبير ( بشر بن الحارث ) ذلك الرجل الذي نقله حب المخلوق إلى معرفة حب الخالق ، ونقله الثراء الفاحش إلى الزهد المدقع ، في معالجة فنية أفاد فيها عزيز عبد الصاحب من شعرية عالية وسمت حياته الشخصية أولاً ، وتسربت إلى كتاباته ثانياً خاصة الشعرية والمسرحية ، ويختم عزيز نصوصه الصوفية بمسرحية عن السهروردي المقتول ، الرجل الذي إختار ميتته القسرية ليحقق درساً في العشق الصوفي للفقراء عندما إختار أن يموت جوعاً حين طُلِبَ إليه أن يختار الميتة التي تناسبه ، فقد قادته معرفته الروحية إلى التأثير في الآخرين وإحياء أرواحهم الميتة بكلماته ، لكن الكلمات ذاتها هي التي قادته إلى حتفه ، وواضح في المسرحيات الثلاث التي نحن في صدد التقديم لها ، أنها لا تنطوي على أبعاد صوفية فقط ، بل أنها تنطوي على أبعاد سياسية أراد لها عزيز أن تكون شاهدة على مدة تأريخية قاسية عاشها كفنان له شخصيته المميزة التي جمعت في العديد من وجوهها شخصية رجل المسرح الحقيقي التي تكوّنت عبر قرون عديدة من النضال المسرحي ، ذلك النضال الذي أردنا أن نتوّج جزءً منه في هذا الكتاب الذي نوثق فيه شيئاً من تجربة عزيز عبد الصاحب ، ونحن نتخذ منه موجّهاً إبداعياً وإحتفائياً في الدورة الأولى لمهرجان المسرح العراقي الأول في ذي قار الذي نريد له أن يكون حبلاً سرياً يمتد بين تجارب الشباب وتجارب الرواد ، وبين العاصمة ( المركز ) والناصرية ( الهامش ) في وحدة إبداعية متكاملة من الجهد المسرحي الذي يحيل مدننا المهمّشة مسرحياً ، إلى مراكز مسرحية دائما في صدارة المشهد المسرحي العراقي .
* مسرحيات صوفية : عزيز عبد الصاحب ، صدر عن البيت الثقافي في ذي قار – وزارة الثقافة 2011 ، ضمن فعاليات مهرجان المسرح العراقي الأول في ذي قار .
* د . ياسر عبد الصاحب البرّاك ( مخرج وناقد مسرحي )