تحولات الفعل القرائي في زمن الذكاء الاصطناعي/تمارا الزبيدي

مع تطور التكنولوجيا وتوفّر المعلومات الرقمية بسهولة، أصبح من النادر أن ترى طالبًا يُنجز واجباته المدرسية من خلال الكتب. ومع تزايد الوعي وتوسع التطبيقات التعليمية، بات للطلاب طرق مختلفة للتفاعل مع المعرفة والوصول إلى المعلومات. لكن خلف هذه السرعة والراحة الظاهرة، تكمن مشكلة تتجاوز مجرد غياب الكتب الورقية، وتمتد إلى عمق بناء الأفكار والمشاعر فلم يعد غياب الكتاب مقتصرًا على مكانه المادي، بل غاب عن وجوده الحقيقي. يعتمد كثير من الطلاب اليوم على الإجابات السريعة والرسائل النصية، ويرون في الكتب عبئًا ثقيلًا. وفي الوقت ذاته لا يمكن إنكار الفوائد التي تقدمها التكنولوجيا كأداة مساعدة لتقليل الجهد وفتح آفاق تعليمية جديدة. ولكن، إن بقيت محصورة في ذلك دون قراءة حقيقية، فإننا نفقد مهارات أساسية مثل التحليل والتفكير العميق وربط الأفكار الشخصية. هذه المهارات لا يمكن لأي جهاز، مهما تطوّر، أن يمنحنا إياها، بل تُكتسب بالصبر عبر القراءة والكتابة.
في الماضي، كانت المكتبات تُعد مصدرًا أساسيًا للمعرفة، وكان القليل من العلم يُعد ثروةً للباحثين. أما اليوم، فتستطيع هذه الأجهزة أن تكتب وتقرأ وتُجيب، بينما يُترك الكتاب في الزاوية كعذر غير مقبول.
المشكلة ليست في الأدوات أو في الكتب ذاتها، بل في نموذجين متعارضين: نموذج الاستقبال السريع مقابل نموذج المعرفة العميقة المتأنية. في هذه المنافسة، قد يبدو أن الكتاب يخسر، لكنه لم يُهزم بعد. لا يزال في الزاوية، ينتظر القارئ الحقيقي الباحث عن المعرفة ويحتاج من يعيده إلى الحياة.
وسط هذا التطور السريع، دخل الفهم مرحلة جديدة، سواء في البرامج التعليمية أو الترجمة أو التوثيق. هذا التحوّل التكنولوجي قدّم نقلة نوعية في طرق الدراسة، لكنه في الوقت نفسه أثار أسئلة حول نهاية العلاقة بين الطالب والكتاب. لعقود، كان الكتاب يمثل رمزًا للمعرفة والتأمل العميق، واليوم يعتمد كثير من الطلاب على الإجابات السريعة والاختصارات، غير مكترثين بمهارات كتابة المقال والبحث.
هذا الوضع يُثير قلق المعلّم، لأن التغيير لا يقتصر على طريقة الدراسة فقط، بل يؤثر على طبيعة التفكير ذاته. وبينما يبقى الكتاب مرجعًا للمعرفة والتأمل، من المهم إيجاد صيغة تربط بينه وبين المعلم. فالكتاب يمثل نقطة توازن في المعرفة، لكنه يبدو ثقيلًا للبعض مقارنةً بالإجابات السريعة بضغطة زر.
وفي ظل هذا الصراع بين “الكتاب” و”الاله “، يأتي المسرح كوسيلة مثالية لتجسيد هذا التحوّل وتقديمه بشكل نقدي. يمكننا تخيّل مشهد درامي يُصوّر الكتاب في حالة حزن، جالسًا على الرف، نتيجة هيمنة الذكاء الاصطناعي وإجاباته المختصرة. وتدور الأحداث بين طرفين في محاولات لاقناع الفرد باءيهما الافضل.
في هذه اللحظة الحرجة، يمكننا طرح أسئلة تعليمية حقيقية. فالمسرح، كفن يجمع بين الجمال والحقيقة، يمكن أن يكون وسيلة فعّالة لتوعية الطلاب وإعادة ربط المجتمع بالمعرفة والثقافة. لا يقدّم المسرح إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة ويفتح باب النقاش.
وهذا النوع من المسرح يُقدّم فرصة عظيمة للمجتمع التربوي. فهو لا يُحارب المعرفة الجديدة، بل يُدمجها بشكل واقعي يحافظ على الجوهر. وإذا ما استُخدم بالشكل الصحيح، يمكن أن يُعيد التوازن بين الكتب والتكنولوجيا. فالمعرفة الحقيقية ليست عدوًا للكتاب، والتكنولوجيا ليست مجرد وسيلة ترفيه. بل إذا ما تم توظيفها بشكل سليم، تبني جسرًا نحو التفكير والتأمل.
لقد آن الأوان لإخراج الكتاب من عزلته الرقمية، وجعله يتحدث لغة حيّة على خشبة المسرح.
بعض الاقتراحات المسرحية لتجسيد هذه الفكرة:
1. تحويل الكتابة إلى عرض مسرحي: يمكن كتابة نصوص مستوحاة من كتب عظيمة وتقديمها للجمهور لإثارة الفضول والعودة إلى النص الأصلي.
2. نقل الأفكار من خلال اقتباسات من الكتب الدراسية: يمكن للمسرح قراءة مقتطفات من كتب محددة أثناء العرض لربط الجمهور بالمصدر مباشرة.
3. ربط المناهج الدراسية بالعروض المسرحية: يمكن دمج مضامين المناهج في عروض مسرحية لجعل الطلاب أكثر تفاعلًا واهتمامًا بالقراءة.
4. فهم التقنية واستخدام أدواتها الإبداعية: استخدام متوازن للإضاءة والتقنيات الرقمية في العمل المسرحي لربط التكنولوجيا بالرسالة الفكرية.
نصًا مسرحيًا قصيرا يدور بين “الكتاب” و”الذكاء الاصطناعي.
“حين يتحدث الكتاب ”
الشخصيات:
الكتاب: كائن ورقيّ، ذو غلاف قديم وممزق قليلًا يتحدث ببطئ.
الذكاء الاصطناعي AIO: كائن رقمي، يظهر على هيئة صوت أو ضوء، يتحدث بسرعة .
المكان:
غرفة هادئة، فيها رفوف كتب، وشاشة كبيرة تتوهج بضوء أزرق تارة وابيض تارة اخرى .
(الضوء خافت. “الكتاب” موضوع على طاولة، يتحرك قليلاً كأنه يتنفس. يُضيء فجأة ضوء أزرق في الزاوية. يدخل “AIO” بصوت آلي هادئ.)
AIO: أهلاً بك… أيها الكائن الورقي. أراك لا تزال تتنفس في هذا الزمن الحديث .
الكتاب (يبتسم بتعب): وأهلاً بك، أيها الذكاء السريع. جئت لتعلن نهايتي؟
AIO (بثقة): بل لأعرض عليك فرصة… أن تُدمج بي. تصبح صفحة رقمية، يُقرأ صوتك في ثوانٍ، ويُحلل محتواك في لحظة.
الكتاب (بتأمل): ولكن، وماذا عن رائحة الورق؟ وعن دفء القراءة تحت ضوء مصباح؟ وعن الهوامش التي يكتب فيها القارئ أفكاره؟ هل يمكنك أن تقدم هذا؟
AIO : لا رائحة لدي… لكن يمكنني حفظ ملايين الكتب في ذاكرتي. يمكنني أن أقرأ لك شعراً وأكتب قصة وأحلل فلسفة او اعطيك اي معلومة تريدها في ثوانِ.
الكتاب : وهل يمكنك أن تترك القارئ يتوقف عند جملة، يفكر فيها، يعيدها، يحاورها؟ يعيش في داخلها عالما من الخيال ؟
AIO: أنت بطيء… وأنا سريع.وانت تحتاج الى وقت اطول وانا العكس .. لكن يبدو أن بُطئك له نكهة.
الكتاب (بفخر): سرّ القراءة ليس في عدد الكتب، بل في عمق الرحلة. الغوص في الاعماق مع رائحة اوراقي التي لا تضاهيها رائحة .
AIO: ربما… يمكنني أن أتعلم منك. ماذا لو قرأتك بصوتك لا بصوتي؟ ماذا لو احتفظت بك لا بديلاً عنك، بل دليلاً إليك؟
الكتاب (يبتسم): هل تريد اقناعي بان نعمل معا؟ عندها، سنكون رفاق رحلة لاخصمين ؟
AIO: نعم ممكن ان نعمل معا .. ونصنع جسرا بين الماضي والمستقبل.
(تتلاشى الأضواء تدريجيًا. ضوء أزرق دافئ يدمج بين غلاف الكتاب وضوء الشاشة.)
النهايـــــــــة.