أضواء على الحركة المسرحية في العراق… “هاملت في المدينة”/(هاملت المنيرية)/ سعد يونس حسين

‘أكون أو أكون …ذلك هو بيت القصيد’
اسم المسرحية: “هاملت في المدينة”
الكاتب: منير راضي
سطع ضوء الإبداع من جديد، فانار الساحة المعرفية وباسلوب مغاير، ليظهر لنا شكلاً خاصاً في الكتابة، فكان مميزاً…
“تميز الأدب المسرحي عبر العصور، بارتباطه الوثيق بتناول المشكلات الإنسانية، وقد كان لهذا التفاعل المشترك مابين النص كنتاج فني، والحياة وازماتها كمادة داعمة له، الأثر المهم لما طرأ على النص المسرحي من تحولات على مستوى الشكل والمضمون، وقد وصل هذا الأمر إلى قمته مع نتاجات مسرح اللا معقول، حيث كان الأخير من أشد التيارات المسرحية ليتخذ شكلاً خاصاً لم يتوصل اليه سابق (1).
من هنا (شكلاً خاصاً) اخذت طروحات الكاتب والمخرج العراقي’منير راضي’ شكلاً خاصا فريد، له نكهته وله طقوس عرف فيها.
لقد أحدث (منير راضي) تسونامي في ‘هاملت شكسبير’ وانتج لنا “هاملت منيرية” جديدة، ابتدأ من حيث إنتهى شكسبير، حيث أعاد ترتيب مكنونات الرواية ولم يجتر منها، إنه هاملت مغاير وغريب على “هاملت شكسبير”، فالقارئ للوهلة الأولى يذهب فكره وتفكيره إلى ما كتب شكسبير، ولكن في تتبع مجريات السرد والنص سيجد غير ذلك، فبعد إن كان “اكون او لا اكون تلك هي المشكلة” والتي بُني عليها نص “هاملت الشكسبيري”، ثار (منير) واستجمع ما في جعبته وفكره وخياله المتألق وانتج لنا رائعته المغايرة “هاملت في المدينة” (هاملت المنيرية)…
فأصبح “أكون او أكون…. ذلك البيت القصيد”، وهنا نجد حرفية الكاتب ودربته إضافة إلى كونه مخرج وهذا ما أضاف للنص روعة.
“هاملت في المدينة” للكاتب المذراف بروائعه (منير الراضي) وهي إحدى المسرحيات من الخماسية المونودرامية…
امتطى جواده وشهر سيفه ليخترق العوالم السفلية والعلوية ليصنع صراعا جديدا وبعد إن إنتهى شكسبير من رمي كل سهامه الإبداعية في مسرحية هاملت الأصلية…، والذي يتتبع ويستغرق ويغوص ويدخل في حيثيات النص ل(منير) يرى إنها مسرحية جديدة تختلف عن “هاملت الشكسبيرية” حيث بدأ من حيث إنتهى شكسبير، إنها “هاملت المنيرية” ضمن فضاء معاصر.
لقد حول (منير) السرد الكلاسيكي إلى صراع يدور في مدينة تختلف عن المدينة الشكسبيرية والتي نسج فيها شكسبير حكايته.
قد تبدو المدينة أشلاء ولكنها رمزياً.. تحاكي رموز الفساد والسلطة والتقهر والظلم والتفكك الأخلاقي الذي أصاب راس السلطة وانتشر على سفحها، فكان في اقبية والخنادق المظلمة في القصور والقلاع.
ربما يتوه المتلقي (القارئ) ،ويبحث عن البنية الدرامية وهيكليتها الاعتيادية من بداية ثم صعود الصراع فالذروة ثم الانحدار نحو الحل.. ولكن وبسبب الصراع النفسي للبطل والذي انعكس على هذا الخط فحدثت تشعبات وكنتيجة لتحلل النسيج الاجتماعي والواقعي الذي يدور حوله.
لذا يبدو البطل كأنه في عالم غير عالمه، وعيه مشتت، يحاول أن يجمع شتاته ليعيد القطار إلى السكة وهذا ما سنجده في نهاية المسرحية…
صراع درامي بل محاكمة و مقاربة لبعض المميتات السبع.
لقد عرض لنا الكاتب في كثير من جوانب النص رموز كثيرة بدءاً (بالمقبرة) والتي تمثل الحياة المنحلة ووضع وبإبداع (كوّة) تعلو سقف المقبرة، ينساب منها ضوء الشمس وله دلالة على إنه رغم التداعي والأسى والتوهان، دائماً هناك أمل وومضات إلى المستقبل.
ومن جمال النص إنه جعل حفار القبور ذلك الشخص الذي يرعب الجميع، يصاب بالذعر حين ضرب ملك العالم السفلي برمحه الأرض ثلاث مرات، ورغم انه لا يهاب الموت من خلال أعداد ما يدفنه من البشر، وهنا مفارقة عظيمة، وأشار إلى انه مهما بدت الاشياء عظيمة هناك اشياء أعظم منها قد لا نجدها في محيطنا وقد نجدها في مكان آخر او تأتي فيما بعد.
المسرحية ملغمة بالمفاهيم الفلسفية تحتاج إلى عناية وتروي في الولوج إليها. لقد إستخدم (راضي) اسلوبه الخاص والمتفرد في إيصال فكرته، يقول القاص (يوسف إدريس) :”وقد يضطر الكاتب في أحيان ان يستعمل دلوه الداخلي الخاص للوصول إلى مياه الآخرين العميقة” (2) .
وضع الكاتب في متن نصه ثنائيات متناقضة ومتلازمة كالموت والحياة، والليل والنهار، ومنها “أكون أو لا أكون” وتلك العبارة إستطاع الكاتب إعادة تدويرها في نهاية النص لتكون “كون أو أكون” كما اسلفنا، وهذه التناقضات والتلازم هي مجاذيف نشاهدها في سفن الحياة… وبالحقيقة هن بؤر الصراع الذي يدور حولنا…
وهنا يشير الكاتب أو يجعلنا نفكر بأشياء موجودة حيث إن “الفكر لا يعدو أن يكون مجموعة الطرائق التي تكشف عن نفسها بتجليات وأفكار هي حصيلة حوار جدلي مع ظروف وملابسات الوقائع والظروف الخارجية من جهة، وما يتولد عنها من داخل الأشياء من معطيات من جهة أخرى يعمل الفكر على تعديلها وتطويرها واغنائها”(3).
إنه حوار مستمر وتساؤلات عديدة، إنه بحث عن ما يرد هيبة البطل وقد علم الجميع الحقيقة، فأصبح حلمه، حلم هاملت، فكان الأمير حبيس حلم، إنه”يريد استرداد ما ذهب بماء وجهه.. إنه يريد تحقيق حلمه الذي احتار فيه المفسرون، الحلم هو خاتم الحقيقة وليس دنياكم التي هي سوى مرآة مزيفة”(4).
لقد عرض لنا (منير) البطل باسلوب جديد، نعم له توهان وقلق في البداية ولكن في نهاية المطاف نجد في دهاليز النص إنه شاب مثقف، تخرج من مدرسة الصراع والقلق والظلم والانتصار لنجد بطلاً بل قاضي، مثقف أدرك وتحرى كل معالم الجريمة واستطاع ان يجري محاكمة في العالم السفلي..حيث أعد ملفاً فيه الادانة المؤكدة لأركان الجريمة، ولكنه قاضٍ من نوع آخر.
نجد في ثنايا النص الشخصيات وهي تحمل الرموز مثل (الملك) وهو رمز للسلطة الفاسدة وما تتصف من نهم وظلم وسيطرة وهيمنة على جميع الأصعدة وكذلك شخصية (الأم)، الملكة وهي أحد رموز الخيانة والظلم والتحالف مع الشيطان الفاسد، والتي مقتتها المدينة، فيما هناك رموز مثل (أوفيليا) وهي رمزاً للنقاء والشفافية و(هوراشيو) وهو رمز للتعقل والأمانة وهما تحب المدينة ان تحويهما، المدينة التي يحلم بها (هاملت المنيري).
يقول (راضي): “البحث عن الحقيقة أمر مهلك كما كنتم تزعمون ان ذلك”(5).
لقد نعت الكاتب المتآمرين بأن لهم فحيح الأفاعي وإنهم كدخان أسود كقلوبهم، ووصف أمه، الملكة وخيانتها “أما الأم التي قبلت أن تكون وعاء للشيطان قبل أن يبلى حذائها فهي لا تستطيع ان تبصر شرف الشبح أو لنقل ترفع الشبح عن التجلي اما زوجة غدرت بشرف عينيها وركبت موجة الحب الوثني”(6).
فيسمع البطل التأوه من جمجمة الأم وكأنه يحاورها ويعرض أعلى درجات السقوط وهي الأم والتي يضرب بها الأمثال في العفة والوفاء و و و…
فيقول أمي كانت تغرز خنجر عمي بخاصرتي وتقول لي لترقد روحك بسلام يا بني، أين حمرتك أيها الخجل فأجابها.. أمي لم أكن منا كنت تحلمين مع عمي الخائن فانا صنعتني الآهات فلا تستطيعين أن تمرري خداعك. وحين يتنقل بين الجماجم في العالم السفلي ويذكر الشعر :
“صاح هذه قبورنا تملئ الرحب فأين القبور من عهد عاد”…
وينظر إلى الجماجم إلى إنها جماجم الأمراء المتأمرين الذين كم بنوا من البنيان وكم ظلموا وكم جمعوا ولم يبق سوى جماجمهم ولا أحد يذكرهم… بل يذكر مافعلوه… وهي بالطبع لكل زمن وكل مكان في البسيطة… هي موعظة (وذكر إن نفعت الذكرى). لقد قسم (هاملت المنيري) الجماجم إلى فريقين، فريق يمثل أمه جرترود ملكة الدنمارك، كلوديوس عمه القاتل وملك الدنمارك الذي اغتصب المملكة، وبولونيوس رئيس الوزراء أو مستشاره ووالد حبيبة هاملت أوفيليا وهم الذين وصفهم بأن لهم فحيح الأفاعي وفريق النقاء الذي يمثله أوفيليا وأبيه وهوراشيو.
ثم يعود وبعد إن يربط جأشه وبعد إن يسمع الأنين الذي يصدر من جمجمة أمه فيخاطبه “أكنتِ أمينة على خدر أبي وماذا، أمينة، نعم أيتها الملكة، امينة على تاجك الوضيع، أمينة على سر بئرك الدفين، أمينة على عهدك مع الشيطان، أنت أمينة بكل شيئ إلا ان تكوني أمينة على رحمك البديل، أيتها الملكة، دم الأمومة أبيض كندف الثلج وله إله يذرف اللبن طهراً صه أيها الأنين الأصم إن الأمومة كالصلاة في محراب الرب” (7).
لقد لخص كل ما يصدر وشبهه بأنين أسود ثم يعود البطل ليحاكم (كلوديوس)، عمه ويخاطبه”أيها العم الظال بشهوة السلطة، سفاح السم المراق غدراً بشرف العائلة”(8) .
ومن جانب آخر، وصف الدخان الابيض كرمز يخرج من جمجمة أبيه ومن اوفيليا حتى يبلغ مداه من الحيرة ويستغيث بالرب ليحكم ويترك العقاب له.
ولاشك إن الكاتب ورغم إن مسرحيته، تراجيديا مأساوية لن يترك أو يستغفل وصف الشوق والحب الذي فقده بسبب خارج إرادته فذكر ترنيماته فقال “اللعنة على من أطفأ وهج نورها البهي” (9).
لقد أشار الكاتب المبدع (منير راضي) إلى الأمل من خلال سماع صوت برق وضوء ووميض ثم زخات مطر… هي رمزية عالية بأن القادم جميل.
أتحفنا الكاتب بصور ذهنية عديدة في نصه الموسوم وكان له قدرة كبيرة في التخيل، يقول الدكتور (عقيل مهدي) “التخيل يخص تأليف صور ذهنية، تحاكي، ظواهر الطبيعة حتى إن (لم تعبر)، عن شيء حقيقي موجود واقعياً ومباشراً”(10).
كم هو مشهد رائع حينما جمع هاملت جماجم أبيه واوفيليا وهوراشيو في وشاحه الأبيض وحملهم بطريقة كأنه قداس جنائزي، إنها لحظات لتجلي النقاء و نرانيم الحق تخلد.
وتضمنت المسرحية إسقاطات عديدة فلسفية مثل البحث عن المعنى والحرية والإغتراب واجتماعياً وهو إنحلال العلاقات الاجتماعية وسياساً في نقد الظلم والهيمنة والخداع، اما من الناحية الثقافية والأدبية فنرى تداخل وتصادم المثل مع عالم الحداثة وما بعدها وهنا نلاحظ التأكيد على إثبات الوجود والهوية وبالخروج بهاملت آخر جديد قوي ليس متردداً مفكراً محاوراً يلقي الحجج وتوصل إلى فكر وحكمة جديدة “أكون أو أكون”…
حيث أمطر (منير) برائعته هذه وبأجواء من الخيال المدمج بالواقع حيث انعدم الزمن وكانت بيئة النص الافتراضية نشعر بها، إنها حقيقة، أقول، لقد جعل من القارئ يرى نص العرض على الورق، إنه نص ضخم يحتاج إلى منظومة إخراجية مجحفلة الجهود والرؤى وخيال واسع إضافة إلى سينوغرافيا يقودها مقاتل…
ولضخامة النص وتاويلاته ومدياته وللإبحار بها يحتاج إلى كادر يكون بمستواه، إضافة إلى ثقافة عالية، وإنشاء ورشة لكي ينهلون من عسل بئر النص الفكري ويضعون مقاصد الكاتب على الخشبة بحرفية ليكون التكامل مابين النص والعرض.
تختتم المسرحية بتعبير جميل وبعد ان لعن البطل المتآمرين قال “أنا ذاهب إلى ما فوق السماء كي أجدد حلمي دون جبن أو تردد، وإن طال المدى البعيد، فأذكروني بصلاتكم بأني شهيد ولم يسقط السراج من جديد”.
إن هذه الكلمات هي بحد ذاتها مسرحية كاملة فيها تامل وفكر عميق واثبات إن (هاملت المنيري) ليست “هاملت الشكسبيري”، الجبان المتردد فهو حطم مقولة “اكون أو لا أكون” فأصبحت “أكون أو اكون”.
يقول هاملت: “آه يا هوراشيو الكريم، مجرحاً سيظل اسمي بعدي ان بقيت الأمور هكذا مجهولة فإن كنت احتويتني يوماَ في قلبك غيّب النفس عن هائتها ردحاً وفي عالم الجور هذا استل انفاسك الماً لتروي قصتي”(11)
أخيراً، الكاتب المخرج العراقي (منير راضي)… له صولات أخرى تهل علينا في كل مرة لتحدث تجدد في الأفكار ضمن مدار الحركة المسرحية العراقية والعربية والعالمية، ومهما يدب اليأس في الإنتاج المسرحي كنصوص نجده مع بعض الكتابة… يظهر… ليضيء ويضع بارقة أمل بأن هناك قلم… وفكر يمتع المتلقي ويجعل قلم النخبة يكتب ويزين بأسطره الخزانة المعرفية.
المصــادر :
(1): مسرح اللامعقول وتطبيقاته في المسرحية العربية المعاصرة، إيناس عادل عمر العبد العالي، أفكار، سورية، دمشق، ودار الفنون والآداب للطباعة للنشر والتوزيع، العراق، البصرة، ط1، 2017،ص 9.
(2): بلاغة النص، دراسة وقراءات في جماليات السرد الحديث، صدوق نور الدين، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع وآخرون، سوريا، دمشق، ط1، 2013،ص21.
(3): الوعي الجمالي، بين فلسفتي العلم والبراغماتية، الدكتورة هيلا شهيد، الرافدين، ط1، لبنان، كندا، 2017،ص20.
(9،8،7،6،5،4): “هاملت في المدينة”، منير راضي، مجلة الفرجة، 2025.
(10): جماليات المسرح ومرويات الفن والأدب والسياسة، أ. د. عقيل مهدي، منشورات الإتحاد العام للادباء والكتاب في العراق، بغداد، ط1، 2022،ص16.
(11): شكسبير، حياته ونتاجه وعصره، تأليف ف. أ. هاليدي، ترجمة سمير عبد الرحيم الحلبي، مراجعة النص بالعربي د. مجيد بكتاش، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1998،ص90.