مقالات

فلم “التدريب الأخير” للمخرج ياسين فنان… مرآة الممثل وهاوية الخشبة / عماد فجاج

ليس في هذا الفيلم مشهد واحد ينتهي، لأن كل لحظة تبدأ من الداخل. “التدريب الأخير” ليس عرضا مسرحيا مصورا، بل هو اختراق جريء للصمت الذي يسبق الكلام، للارتباك الذي يسبق الحركة، وللتردد الذي يسبق قرار الوقوف على الخشبة.
الفيلم لا يحكي عن مسرح كما نعرفه، بل عن مسرح لا يرى: ذاك الذي يعيش في نفس الممثل، في غرفة المخرج، في لحظة انهيار صامتة، أو في شهقة تسبق الانفجار.

“التدريب الأخير” يشبه رجلا يقف أمام مرآة ولا يعرف من أين يبدأ نفسه.
هكذا يظهر الممثل في هذا الفلم: ليس أداة، بل كائنا هشا يحاول أن يتذكر من يكون، كي يستطيع أن يلعب دورا ليس له، وفي ذات الوقت هو كل ما تبقى له.
تكتشف وأنت تتابع الفيلم، أن التمثيل ليس أداء، بل نوع من العزلة المختارة. أن تكون ممثلا في هذا الفلم، هو أن تكون معلقا بين حقيقتك ووهمك، بين ألمك ومشهدك.

الفيلم لا يروي قصة، بل يصنع تربة خصبة للقلق.

فتح الصورة

في القاعة الباردة حيث التدريب يتم، تصبح الجدران شاهدة على ارتباكات الهوية، على الانهيارات الصغيرة التي لا يسمعها أحد، وعلى أحلام تتحطم بهدوء لا درامي، لكنه أكثر قسوة مما نتصور.

وهنا بالضبط، يتسلل إلينا سؤال خفي: هل نحن في بروفة لمسرحية… أم أننا نحضر أنفسنا للحياة؟

وهنا، دون تصريح، يبدأ الفيلم في حوار داخلي مع ستانيسلافسكي، ذاك الساحر الذي آمن أن التمثيل الصادق لا يأتي من الخارج، بل من باطن الذات.
كل مشهد في “التدريب الأخير” يمكن قراءته كتمرين تطبيقي على نظريته في الذاكرة الانفعالية: الممثل لا يستدعي شكلا، بل يستنطق جرحا.
في لحظة صمت طويلة، يعجز فيها أحدهم عن إلقاء جملة عادية، ندرك أن ما يعيقه ليس صعوبة الدور، بل مقاومة داخلية، كأن النفس ترفض أن تتعرى أكثر مما تعرت.

مخرج الفلم ياسين فنان ليس سيد العرض، بل هو سائر في ممر ضيق بين العبث والأمل.
لا يوجه، بل ينصت. لا يصرخ كبطل الفلم، بل ينصت لارتباك الممثل ويصبر عليه. وكأن الفيلم يعيد تعريف مفهوم الإخراج: ليس كسلطة، بل كعملية إنقاذ هادئة لكائن يعاد بناؤه كل مرة من جديد.

“التدريب الأخير” ليس تدريبا على عرض مسرحي، بل هو بروفة على الحياة نفسها.
هو تدريب على الصدق في عالم يكره الصادقين، على الجرأة في مجتمع لا يغفر لمن يظهر هشاشته، وعلى البقاء واقفًا حتى عندما لا تعرف من ستكون غدا.
إنه فيلم عن اللحظة التي تسبق كل شيء… حيث لا شيء مضمون، سوى أن تواصل المحاولة.

هذا الفيلم لا يقدم لنا المسرح كخشبة أو عرض، بل كمعركة داخلية يخوضها المبدع بين رغبته في التعبير وخوفه من الانكشاف، بين الشغف والشك، بين الأنا والجمهور. إنه فيلم عن الكواليس النفسية للعمل المسرحي، حيث تصبح المعاناة جزءاً من عملية الخلق، ويغدو الإبداع فعلا وجودياً لا يفهمه إلا من عاش قلق النص وسؤال العرض.

تحية للمخرج الذي صنع من القلق نصا، ومن الصمت لغة، ومن هشاشة الممثلين جدارا من الصدق النادر.
وتحية لكل من جعلوا من “التدريب الأخير” تجربة لا تُشاهد فقط، بل تشعر… ترتبك… وتبقى.

Related Articles

Back to top button