نص مسرحي: “شاهد المعنى”/ تأليف: شوقي كريم حسن

“الهي ما ألذ خواطر الالهام بذكرك على القلوب، وما احلى المسير اليك بالوهم في مسالك ا لغيوب..” الإمام السجاد (ع )
الإهداء …..
كلما أستحوذ عليَّ قهر الأيام ذهبت مسرعا لاقف.. بين يدي الأجداد الذين أفخر بأبوتهم واعتز … لهم أقدم هذه الملحمة …. واخص بالذكر شاهد معنى يوم الطف .. والعارف بالحكمة وعظمة الكلمة … جدي الأمام علي بن الحسين السجاد ( عليهم السلام )،
مقدمة: المسرح قنطرة الأزمنة!!
” إن المسرح ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو أداة كاشفة، تمثل مرآة للروح البشرية في أبهى صورها وأحلكها، وساحة يتلاقى فيها الفكر مع العاطفة، والقوة مع الضعف، والرجاء مع اليأس. على مر العصور، كان المسرح بمثابة قنطرة تربط بين الزمان والمكان، عبر الحكايات التي تخترق حدود الواقع وتغوص في أعماق الذاكرة الإنسانية. من خلاله، نُعيد النظر في تاريخنا، ونعيد تشكيله، ونمنح أبطاله شكلًا جديدًا ينطق بالحكمة والتجربة. إذا كان المسرح قد أضاء حياة شعوب بأكملها، فهو أيضًا قد أضاء أرواحنا وقلوبنا، وجعلنا نرى العالم من خلال أعين الآخرين، لنحمل تجاربهم معاً على عاتقنا. وعندما نتحدث عن المسرح التاريخي، فإننا نتحدث عن أكثر من مجرد إعادة سرد للأحداث. إن المسرح التاريخي هو محاولة إنسانية عميقة لفهم الماضي، ليس كمجرد صور جامدة، بل كمعركة حيّة نعيش فيها جميعًا، مع آلامها وآمالها. هو منصة تلتقي فيها القيم الإنسانية التي لا تنقضي، مثل الشجاعة، الوفاء، الحب، والخيانة، ولكنها تُختبر في سياقات تتجاوز ما هو شخصي إلى ما هو جماعي. المسرح التاريخي هو نافذة تطل على الشخصيات التي شكلت مجرى التاريخ، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يسعى لفهم دوافعهم، وأحلامهم، وتطلعاتهم، وتقديمهم لنا في صور إنسانية متكاملة. من خلاله نلتقي بكبار الشخصيات التاريخية، لكننا نراهم ليس كرموز بعيدة عن واقعنا، بل كأشخاص عاديين يحملون في داخلهم الترددات نفسها، والصراعات الداخلية التي نواجهها نحن اليوم. وفي هذه المسرحية، “شاهد المعنى”, نغوص في قلب التاريخ الإسلامي، حيث تكمن واحدة من أعظم المآسي الإنسانية التي شهدتها البشرية، ألا وهي مذبحة كربلاء. ولكننا لا نقدم هذه الحكاية كما لو أنها مجرد حدث عابر في التاريخ، بل نُعيد صياغتها لتصبح لحظة كونية، يتفاعل فيها الإنسان مع أقسى التحديات التي يواجهها في حياته. إنها ليست مجرد معركة بين قوتين متضادتين، بل هي معركة وجودية تتحدى الإنسان نفسه، حيث يتحارب الوجود مع الفناء، والفداء مع الخيانة. في قلب هذه المعركة، يظهر الشاهد كرمز للإنسان الذي يجد نفسه عاجزًا أمام معركة أكبر من قدراته، لكنه في الوقت نفسه يمتلك القوة ليتحمل الفقدان، والصمود، والتضحية المسرح التاريخي لا يقتصر على إعادة سرد الوقائع فقط، بل يتناول الإنسان في لحظاتٍ مفصلية حيث يكشف عن أعمق دوافعه وأصعب خياراته. في هذه المسرحية، نجد الشاهد – هذا الإنسان الذي كان معتمدًا على قوته الجسدية ليشارك في معركة خالدة، لكنه مُصابٌ في جسده، عاجزٌ عن خوض المعركة. وبهذا العجز، يكشف عن قوة أخرى، قوة الروح، التي لا تقاس بالجسد بل بالعزيمة والإرادة. الشخصيات هنا لا تعيش في عالم من الأساطير، بل هي شخصيات بشرية حقيقية، تمثل نموذجًا إنسانيًا يُمكن أن نتعرف عليه في حياتنا اليومية. إن ما يجعل هذه الشخصيات تاريخية ليس مجرّد وقائعهم، بل تمثيلهم لقيم ومبادئ إنسانية خالدة، مثل الصبر في مواجهة المحن، والوفاء في أوقات الشدة، والصمود أمام الأهوال. إن الدور الذي يؤديه المسرح التاريخي في هذه اللحظات هو أكثر من مجرد إعادة سرد للأحداث، فهو دعوة للتفكر في معاني الحياة والموت، في كيف تُختبر القيم الكبرى في أسوأ لحظات الإنسان. قد نعيش في عالمٍ مختلف اليوم، لكن قلوبنا لا تزال قادرة على الانفعال أمام تلك القصص العميقة التي تحمل في طياتها معاني لا تنتهي. من خلال “شاهد المعنى”, نطرح على أنفسنا أسئلة كبيرة: كيف يكون الإنسان في أوقات الشدة؟ كيف نواجه الفقدان؟ هل يمكننا الصمود عندما ينهار كل شيء حولنا؟ إن هذه الأسئلة، وإن كانت تتعلق بمجزرة تاريخية، إلا أن إجابتها تتردد في آذاننا ونحن نعيش أوقاتنا الحالية. المسرح التاريخي، من خلال تقديم شخصياته التاريخية، لا يقدم لنا مجرد نماذج من الماضي، بل هو يقدم لنا نماذج إنسانية معاصرة، نعيش معها في كل لحظة. وكل شخصية في هذه المسرحية تعكس جانبًا من جوانب النفس البشرية، تلك الجوانب التي لا تحدها الحدود الزمانية ولا المكانية. الشاهد، الذي يواجه تحديًا داخليًا في اللحظة التي يعجز فيها عن المشاركة في المعركة، يمثل الإنسان الذي يصارع بين حبه لأرضه، وبين عجزه عن تحقيق هذا الحب عبر الفعل المادي. وفي هذه اللحظة من العجز، ينكشف المعنى الحقيقي للصمود: ليس في الفعل الجسدي، بل في تحمل الألم والظلم والتحدي، وفي الحفاظ على كرامة الروح رغم كل الجراح .وبهذه الطريقة، يمكن للمسرح التاريخي أن يصبح أداة للتأمل في الإنسانية بشكل أعمق وأصدق. فهو لا يقدم شخصياتنا العظيمة في صورة مثالية، بل في صورة إنسانية معقدة، مليئة بالتناقضات والألم والضعف، لكنها في نفس الوقت مليئة بالقوة والإرادة. وهذا ما يجعل المسرح التاريخي أداة قوية لفهم الإنسان بشكل أشمل، ولا يُقتصر على تقديم الماضي، بل يتعداه ليصبح حاضرًا حيًا في قلوبنا وأذهاننا. إن “شاهد المعنى” ليست مجرد مسرحية تروي مذبحة كربلاء، بل هي دعوة للتأمل في الروح الإنسانية في أعمق تجلياتها. إنها محاولة لفهم كيف يمكن للإنسان أن يواجه أقسى لحظاته، وكيف يمكن للحب والإيمان أن يصبحا قوة حية في قلب المعركة. هي شهادة على أن التاريخ، في أسمى معانيه، لا يقتصر على الأحداث، بل على الأبطال الذين يواجهون هذا التاريخ بشجاعة وصبر، حتى عندما يعجزون عن المشاركة في معركة جسدية“. شوقي كريم حسن
تجسيد معرفي لسؤال اللحظات الحاسمة/
(فضاء الإشتغال)
كل ما في الفضاء مغبر يوحي بالقلق و النداءات المبهمة التي تأتي من أمكنة بعيدة مصحوبة بصدى كأنه نواح نساء ثكالى، تكبيرات، صهيل جياد،تأوهات تشبه نباح كلاب جائعة، في العمق غير الواضح الابعاد والملامح، خيمة جرداء تستقر عند منتصف خيام متشابهة، تلفها فجيعة البكاء والترقب، بعض النسوة الظلال يجلسن بصحبة أطفالهن عند باب خيمة غير بعيد عن خيمة الشاهد، تتقدمهن العمة التي تتابع المعركة وكأنها تبصر كل شيء لتحفظه، كلما أشتد صهيل الجياد نهضت ترقب ما حدث، تهم الانطلاق لمرات عدة لكنها تتراجع ناظرة الى جمع النسوة والأطفال،،!!
( فضاء التجسيد)
من يؤمن أن الوجع منتج سرمدي للإيثار وقوة الفعل، عليه أن يكون مسهماً قدر ما يستطيع بإعادة صياغة ما حدث، ومن حقه الاعتراض والاحتجاج والعمل والتغيير. نحن لا نحب الافتراضات ولا نؤمن بديمومتها ما دمنا نشكل الإيقاع العام لمراثي أحلامنا التي رأياها تنتهك وتقتل ويمثل بأرواحها كل هنيهة وقت. الفضاء مكتظ بالمعاني المسكونة بالوجد. لا شيء سوى المعنى يسعى مبتعداً برغم بحثنا الأزلي عنه، الاندهاش علامة رغبة بالاقتراب لمعرفة السر،إن كان ثمة سر، الأسرار عتمة الوضوح الذي نريد لهذا ابعدنا كل سر لا يتفق ومرامي الوضوح ومقاصد توثيق الازمنة التي لابد من سبر أغرارها والإمساك بديمومة تأثيرها النفسي الذي صار ارثاً وجدانيا لايمكن نسيانه أو التخلي عنه، ارث يلامس أرواحنا بوجع المعاني، تفسير جلي القدرة وسط الغبار الممتد بين مسافتين غارقتين بشذوذ الفعل المحمل بالغربة والغرابة معاً، لا يحتم علينا الاختيار الاقتراب من الفجيعة، لأننا أردنا ولوج أمكنة ما عرف عنها التدوين شيئاً،ظلت لأزمنة طوال مسكوت عنها، محاطة بأسئلة مبهمة ما وجدت لها إجابات، وما انتجت غير وابل من القص العام غير القادر على الولوج الى بواطن يوم المحنة الذي كان اطول الايام واقساها ديمومة،،!!
(توكيد لمعنى الفعل)
(المكان المبهم الملامح، يجسد معنى الزمن القاسي بدقة مربكة للأرواح، وحشة تصحب جسد متعب يدثره الوجع ،وامرأة ترقب حيرتها بثبات خالي من التردد، وحده الولد القلق الاستكانة يعيش افتراضات الوقت بين داخل وجوده والخارج الذي يربك الذاكرة كلما تعالى الضجيج المؤهل بالنواح وصهيل الجياد، ونداءات التحريض، الشاهد جسد مسجى تجلس عند رأسه امرأة مغطاة بأردية المحنة، بين فينة وأخرى تتلمس يديه بحركة ناعمة، يفتح عينيه بصعوبة مع تصاعد أنفاس تصيب المرأة بالخوف، كلاهما يبصر الآخر بانكسار شديد الوضوح،كلاهما يعرف بيقين قاطع إن المحنة قادمة حتماً).
الشاهد: ما اتعسها نفس تلك التي لا تجيد الإجابة حين تبصر لحظة الحسم ولا تقول ما يمكن فعله، محنة لا ترضى بغير قيود الابتعاد، الوهن يسحبني عنوة الى حيث لا اريد (باكياً بصمت وكأنه يحث نفسه) ليتني استطعت اجتياز جدران التردد والوصول الى هناك، ليتني أعرف مالذي يجري.
الزوجة: لا عليك درة الروح، المحنة واقعة والإجابات حسمها الاختيار، الأب العارف قال قولته ماشياً طرق الحسم .لائه اخضرار ومعانه ازمنة بقاء وحكمة فعل،
الشاهد: (بشيء من الحدة) وإنا، ماذا عن آناي أيتها الصديقة؟ ماذا عن وجود العجز بين ثنايا الروح؟،أهو القدر الذي يلعب لعبته السخية الخوف؟ أم ماذا؟. الى أين تمضي بالأمل خطوات البغي،،لى أين!؟
الزوجة: ما عرفتك يوماً تخاف السؤال وأنت ربيب عقول الحكمة ورجاحة الفعل.. وميزان قيم المجد والخير!!
الشاهد: (بحزن) تلك هي المحنة التي سربلت الروح المحاطة برذاذ حيرة العجز، الروح الى لا تجيد المسير حيث يحتم عليها الوصول روح ذابلة تسير وسط طرق الفناء والتلاشي،،أنصت بعمق الى ما كان جدي يوصي به العم، الإنسان وجود فطن وفعل يؤكد أهمية إنسانيته.. الإنسان رهن معاني قوله وأفعال هاتيك المعاني!!
الزوجة: ما بين جوانحك روح عطرة الفهم قويمة الفطنة. .عن أي ذبول تتحدث يا نبع القلب وكلك خصب واخضرار وديمومة أزل!!
الشاهد: تلك الاصوات الاتية من هناك ماذا عنها يا أم محمد. من يروي عطش الاشتياق، من يوقف نزف الروح. الحيرة أن تجلس عاجزاً ترقب خاتمة تمنح الشر ثباته.
الزوجة: ليتك تكف السؤال وتمسك كما أنت بعصا الوضوح والدقة ما عرفتك يادرة القلب بغير أسئلة التمجيد والرضا، منك تعلمت حكمة الصبر وبذخ التأمل الذي هدانا إليه الجد!!
الشاهد: ليتني كنت حيث هم، العلة أجلستني عند خرس العجز ولا أعرف من أين يجيء خلاصي، أرجوك إبحثي ليَّ عن درب يوصلني الى حيث أريد!!
(مسرعاً يدخل فتى ما تجاوز الرابعة بعد وقد بانت عليه علامات الخوف والقلق، يطرق خجلاً حين يومي اليه الشاهد بالتقدم، ببطء العارف غير القادر على البوح يتقدم ليقبل يد الشاهد الذي تغرورق عيناه بالدموع، الزوجة تأخذ الولد قليلاً الى حيث تجلس، كلاهما يتبادل النظرات مع الشاهد الذي صار ينصت بشغف الى حيث تأتي الأصوات المبهمة من بعيد.يحاول الشاهد النهوض لمرات عدة، الزوجة تعيده بهدوء الى مكانه، دون أن تقول شيئاً، كلاهما يشعر الحزن لأنه مشدود الى هناك).
الشاهد: مالذي جاء بك تلك اللحظة يامحمد، اية ريح صاخبة دفعتك اليً يا أبن الفطنة. مالذي رأيت اهي الرؤية أم الرؤيا ياولدي؟!!
محمد: (بحزن مليء الانكسار) رأيته يغادر ظهر جواده أبتي. بعد أن كللته السيوف والنبل (يبكي) كان يبصر حيث الخيمة متحسراً بشفاه تتمتم لا ادري بماذا.. رأيت الجد يهرع إليه ليحتضنه،، !!
الشاهد: من ذاك الذي غادر ظهر جواده يا محمد.. من تمتمت شفتاه بما لا تدري ماذا، من هرع اليه الجد!!
محمد: (يبكي) عمي. عمي أبتي. مذ تلاقفته أحضان الأرض كان ينظر صوب جمهرة الخوف التي تحيط وجودنا!!
الشاهد: عمك،، أي عم ذاك الذي تشير اليه ياسليل الفطنة. الأعمام كثر، وكلهم واحد؟!!
محمد: (يجلس بين يدي الشاهد كأنه انتبه لوجوده لأول مره، يأخذ كلتا يديه الى أحضانه، يقبلهما بحنو على التوالي..)
الشاهد: ما تعودتك قلق الإجابة مدجج بالخوف مرتبك الهدف مشوش الرؤيا،كان عليك معرفة اللحظة والتمسك بمساراتها يامحمد!!
محمد: ليتك أبتي عفوتني من الإجابة الإجابات عقم يدفع الى الانكسار بعد أن يصيب الروح بالعمى،روحي أبتي ما كانت تبصر سوى وجع الخطوات وصليل السيوف!!
الزوجة: أي عم هذا الذي صيرك مثل طير لا يعرف له مستقراً، أي الأعمام أبصرت حين تلاقفته السيوف وطاله النشب وماذا عن جدك الموجوع هناك، أرأيت ما كان عليه (لنفسها) ليتني استطعت مشاركتك أحزانك عمي، حلم تريد له التحقق رغم كل الكراهيات التي تحيط بوجودك
الشاهد: محنة الاكتشاف لسوف ترافق ارثنا بعد عن بعد،كلما جيء ذكر الامال تحدثت أيامنا هذه عن وجودها ووجودنا،
(لحظات صمت توقف كل ما يحيط بالخيمة من ضجيج، علي بن الحسين الطفل يركض مخترقاً المسافات من أجل الوصول الى حيث هالة الضوء)
الهالة: مالذي جاء بك ولدي؟
الشاهد: رأيتك من بعيد تنظر الى ما لا اعرف فجأتك بسؤال؟
الهالة: سؤال، وفطنت الى دروب الاسئلة يا علي!!
الشاهد: أولم تقل لي ذات حديث كان بيننا،أن العقل سؤال مزدهر وحكمة قائمة!!
الهالة: بلى يا مسرة الروح قلت هذا
الشاهد: جدي هل في مسيرة جدنا ونبوته اعوجاج لاسامح الله؟
(الهالة تأخذه اليها لتقبله)
الهالة: ماعرف جدك الشائنة وماكان سوى افعال خير وتمجيد
الشاهد: لم الكراهيات التي لا تنتهي!!
(الهالة تختفي فجأة،،الشاهد يبكي)
الزوجة: مالها الأيام تأخذ منا كل ما نحب ونريد، أو يمكن للدنيا أن تعيش سرور امانها وديمومة احلامها دون وجود بيت النبوة،(باكية) ما نفع الدنيا دون هداية ووصايا ودوافع خير!!
الشاهد: لاتحزني ياصديقة فامامك حزن تحتضنه الأبدية، كلما حول السوط اطفاء جذوته صرخت الحناجر بالاحياء، بيت نبوتنا لايتيبس ولا يموت!!
محمد: ( ببطء) عععععععمممي ذاك الذي يملأ عيني بالمسرة، عمي الذي رأيت جدي لمرات يقبله عند الجبين هامساً، ما اشبهك ولدي بجدي النقي الاحلام .. عمي علي الأكبر،،( يبكي)!!
الشاهد: (يحاول النهوض) مالذي حدث ولدي، مالذي أصاب سند الروح وعنفوان أحلامها يامحمد؟!!
محمد: صعب أبتي وصف تلك اللحظة التي جعلت جدي يتأوه وجعاً حين رأى إليه يغادر ظهر جواده مثل ومضة ضوء..حاولت الإندفاع إليه لكن جدتي أمسكت بلجام غضبي!!
الزوجة: (متنهدة) جدتك، وكيف كان الوقع عليها، مالذي فعلته!!
محمد: مثلي أمي حاولت الإندفاع لكنها تراجعت بصمت حين رأتنا نتمسك بأذيالها!!
الشاهد: أي لحظة شديدة القتامة تلك التي عاشها أبي،،،لحظة تفقد الروح توازنها وقدرتها على صد سيوف الكراهية،
محمد: أبتي،،
الشاهد: نعم يألق الروح؟
محمد: ( بتردد) أوليس جدي على حق،،فلم يقتلون اتباعه!!
الشاهد: جدك هذا..وجدك ذبيح المحراب، وجدك الاجل الاول هم أصل الحق وسر وجوده، أين اتجهت ارواحهم كان للحق معنى وفعل، بهم تستقيم الاخلاق وتشيد القيم ،،!!
الزوجة: ليتني إستطعت الوصول إليه لكم بي شوق لتقبيل ما بين عينيه (تبكي) واحزن عماه حين أخذ الحقد بزمان أخي علي الاكبر..
الشاهد: (لنفسه) تعساً لرابط الآلم الذي يشدني الى هذا الفراش الماسك بقلق الروح، ما عساك فاعل وعجزك أمتحان ومحنة (بخوف) من يجيب على سؤال حيرتي كنت كلما داهمتني رياح الأسئلة المرة لجأت إليه، موقناً أنه نهر إجابات وطمأنينة لا تطاله الكدرة (ضربات رياح متكررة، نداءات تحريض..مناجيا نفسه)
الأكبر: أنت توغل في دروب قلق المعرفة ياسمي الروح،،؟!!
الشاهد: ( بود) قلق المعرفة يوجع العقول،،!!
الأكبر: ومع الوجع يا ابن الاخيار تنبت أحلام النقاء،.اولا تتذكر يا سليل المعارف مالذي كان يقوله الجد ونحن نجلس بين يديه،!!
الشاهد: ومن ذا الذي ينسى شهد وصاياه ومنابع حكمته!!
الأكبر: لا يجب أن تبعدنا الإجابات عن يقين الاسئلة،،!!
الشاهد: ( متحسراً) والا ماذا الوصول ياشهد الروح!!
الأكبر: اليقين،،اليقين بأشجاره الوارفة الظلال الراسخة الحضور هو مقصد ما اعلنه الجد المتصل الحكمة الجليل الفعل!!
(الصوت يتلاشى حين تتعالى نداءات التحريض الشاهد يرفع عينيه نحو السماء، صوته مشبع بالرهبة والوجع)
الشاهد: أيُّها الطَلْعُ الذي أُسقِطَ قَبْلَ أوانه، يا سيفًا شقَّ الظلام ثم انكسر في النور، أيها الشبيه، روح أبيك وسرّ رسالته، كيف انطفأت يا وهج الغياب؟ يا عليُّ، كنتَ شمسًا في مجدها، ما ضاهتك في السطوع شمسٌ ولا احتملت سماءٌ غيابك، كنتَ طريقًا يمتدُّ بين الحلم والفداء، تَشهقُ بك الأرض وتتنفس السماء أنفاس الحقِّ في صمتك. يا ابنَ الطهارة والنقاء، كيف حَمَلَتْكَ الأرض حين سقطتَ، وأنتَ أسمى من أن تحضنك التراب؟وكيف جفَّت أنهارُ الحياة بعد أن غصَّت بدمائك، يا مَن كان دَمُكَ نبعَ الحقِّ وراية العدل؟ أيا من كان صوتك إيقاع الأبدية، وهامتك عَلَمًا على دروب التضحية، كيف تسكنُ الآن صمتًا ثقيلًا؟أخي … يا وصيةَ الأنبياء التي تجسَّدت رجولةً، يا حصنًا استظلَّ به الحقُّ في عزِّ الوحشة،يا من كسرتَ قيدَ الفناء وصرتَ نورًا، يا وجهَ الحسين الذي لا يغيب، يا سيفَه الذي لا يُغمد. ها نحن بعدك، ننظر إلى هذا العالم بأعينٍ ملأى بالعطش،عطشٌ إليك… وإلى ما كنتَ تعنيه لكل نَفَسٍ من أنفاس الوجود.(يتوقف قليلاً، كأنَّ صوته يختنق، ثم يهمس) أتعلم يا سند الأيام؟ جفت جذوع النخيل حين رحلت، وصارت السيوف أيتامًا نم ياسيدي الاشبه بالجد، ولكن نومك ليس بنومَ العاجزين، بل نومَ الذين يحملون الصبحَ في أكفانهم. نم… فإنك وعدٌ لا ينتهي، ومسيرةٌ لا تتوقف (يسكت قليلًا، ثم ينظر إلى الأرض وكأنه يخاطبها) يا ترابَ كربلاء، إنك تحمل بين ذراعيك أمانةً عظيمة…هنا نامَ عليُّ الأكبر، هنا اختبأ النور، فاحملي في عمقك هذا السرَّ إلى يوم يُبعَثون.(يخفض رأسه، ثم يتمتم لنفسه) “يا أخي… سأحمل غيابك كما يُحمَلُ السيف، ولن أترك هذا الوجع حتى يُثمرَ أبدًا. تعثرتْ الأرض بخطوةٍ كان بها ثباتُنا…الريح التي تحمل الأسماء الكبرى لا تعود، و حين تمضي، تترك الفضاءَ عاريًا من ظلالنا.كيف نُقنع الصباح أن لا فجر بعدك؟ وكيف تُخبرُ الغصونَ أن جذر الشجرة التي تسندها قد خفتَ فجأة؟ كأن السماءَ اكتفتْ منك وقررت أن تُعيدك إليها… فبقي لنا الفراغ، بقعةٌ صامتةٌ تشبه المدى الذي كنتَ تصنعه لنا بالكلمات.سلامٌ على ذاك الذي صار شاهدًا على غيابنا… وصرنا بعده حكاياتٍ غير مكتملة، نتوارى تحت أجنحة الليل، نبحث عنك في كل شيء، حتى في الريح التي لا تحمل وجهك.. دوماً كان السر يشدني إليه،
الزوجة: اولا تعرف السر وأنت كاشف معانية وملاحق خطوه يا ابامحمد؟!!
الشاهد: (متنهداً) المعرفة عجر لرجل لايقدر على فهم مقاصد الأمكنة التي هناك ، لا فائدة يا الق الروح، لا فائدة مادمت مكبلاً بما لايليق بوجودي الذي ما تعود الانتظار (يبتسم) يوماً يادرة الروح جئت جدي سليل الحكمة راكضاً، ارتميت بين يديه، فأخذني بود ليضعني عند منابت نبضات فؤاده!!
الزوجة: مالذي دفعك اليه،،؟!!
الشاهد: سؤال جرني الى حقول من الأسئلة، سؤال عصي على الفهم والإجابة يابنة عم!!
الزوجة: لكم شجرة وارفة ثمارها الأسئلة!!
الشاهد: يا أبنة عم، الله سؤال، علمنا الحكمة التي لاتعطي ثماراً دون أسئلة تجدد المعنى..جدنا صاحب تأمل الغار ما كان سوى سليل اسئلة تمتد حتى صاحب الذبح..
الزوجة: وماذا عن سؤال الجد؟!!
الشاهد: (كأنه يحدث جده) جدي، ياجدي!!
الجد: بلى يا رضا الروح!!
الشاهد: لم لا تتبع السيوف الحكمة وتتعلم جليل القول؟!
الجد: ومن أين عرفت أن السيوف لا تتبع الحكمة، السيف تابع ليد واليد تابعة لعقل فكيف اذا كان العقل حكيماً؟
الشاهد: جدي أنما عنيت أن يكون للسيف عقل حكيم وإشارة فعل مبارك،،!!
الجد: للمعاني وجوه تفهم عند المرامي والمقاصد “اليد التي تمسك السيف، إن لم يوجِّهها العقل، غدت ريشةً تعبث بها الريح، أو قيدًا يُثقل صاحبه.”
الشاهد: (وهو يقبل يده) ومقاصد سيفك جدي، ماذا عن مقاصد سيفك الاتي من علو السماء؟!!
الجد: (يضحك) سيفي ما سل عن غمده لغير حق وفعل يرضيه!!
الشاهد: ليتني كنت أنت..!!
الجد: (يضحك) ستكون ياعلي ستكون..الإيام تجربة والتجربة سؤال سخي يعلمك الفطنة ورجاحة القول!!
(يظل صوت الجد يلاحق المكان، محمد يأخذ بيد والده يمسد عليها، بهدوء يجعل الزوجة تنظر إليه بحزن، يثير شجن الشاهد، الذي يتحرك ببطء محاولاً النهوض، تأخذه الزوجة لتعيده بصعوبة الى مكانه..)
الزوجة: أي الإيام أخذتك بعيداً عنا يا سمو الفكرة..أراك اوغلت في البعد تاركاً اوجاع الان تستعر بين ثنايانا!!
الشاهد: الأرواح التي لاتتبع خطو الحكمة ارواح مايلبث العجز أن يجرها إليه… أشتقت لجدي فذهبت إليه لاشرب من ينابيع حكمته
محمد: (بود) أجدك مثل جدي أبتي
الشاهد: (يبتسم بصعوبة) كلاهما واحد يامحمد، نبع ما كدر يوماً وما توقف!!
محمد: (متنهداً) لكم إشتقت الى جدي، أشعرني بعيد عنه!!
الشاهد: احفظ اشتياقك لايامك الاتيات، المسافة التي تأوي عرش جلاد، مسافات لاتمنح سوى الإبتعاد!!
(أصوات تكبير مصحوبة بصهيل جياد.. ).
الشاهد: (بحزن) مالذي يشدني الى ارض لا تتسع أحلام نبوة، قولي ليَّ يابنة عم، ما بالها لا تعي مهمة وجود حفيد نبي يريد إعادة الخطأ الى صوابه!!
الزوجة: أونسيت ما أوصانا به العارف بسر الإيام ومسارات الفتن والجحود؟
الشاهد: وهل مثلي من ينسى وصايا باب مدينة عاليه وارفة القول قوامها العلم ووجودها أرث حكمة وسمو، كنت أدرج إليه مثل حمامة تهيم شوقاً وهياماً لأرتمي بين يديه المفعمتين بالود، يداعب قذلتي متلمساً غضاضة الكفين، الامس روحه ويلامس قلبي!!
صوت: (من بعيد) سر الحكمة أن لا تحيد عن فهم مرام الافئدة ومقاصدها ياسمي الروح ؟!!
الشاهد: (بصوت لين طري) وكيف هذا ياجدي، وما تطلبه الدنيا إنحراف وظلمة فعل؟!!
صوت: كلما توغل العقل بين ثنايا الكيف وجد الماذا تبصر غاياته، إياك ياسمي الروح أن تلج خرابات الاين دون فهم المتى وفقه المعنى والمراد!!
الشاهد: جدي العابق بالرضا، لكم أود أن اكون أبن معارفك السخية النفع!!
صوت: (يضحك) ستكون ياعلي..فهم الفعل بدايه الإتكال، شجرة مباركة بعضها من بعض..ممتدة الى الخاتمة والايقاف،،!!
الشاهد: أهي البشارة ياجد؟
صوت: بل هو يقين البشارة ياسمي الروح، كلما توغلت في ديمومة السؤال، إبتعدت خطاك عن هواجس الأستقرار..يا علي إسمع مني وأحفظ، الحلم إنهدام أن صار إجابة، والإجابة توقف وحيرة إن عقم السؤال، إياك والإبتعاد عن طريق الفهم الموصل الى المراد!!
الشاهد: (متحسراً) ليتني فهمت القول وأتبعت العبرة، كلما خطوت الى أمام زادتني الأسئلة يقينا وجفت منابع الاجابات عند حيرة التأمل، مسيرة العقل وسط حدائق العلو منحتني لذة الإسئلة التي لايجيد كشف مكامنها الكثير من بني الإنسان!!
الزوجة: اوما عظمت عند روحك حكم الجد وفهمه..أراك الأقرب إليه والأكثر حفظاً لمنابع حكمته؟!!
الشاهد: يابنة عم، حكمة الجد ولوج الى حيث منابع الفهم وتقصي لمديات الارادة، الجد العلي كان سؤلاً أزليا ما قتربته الإجابات الا عند حدود ما ترغب!!
محمد: (متحسراً) ليتني ادركته مثلما ادركته أنت؟!
(تتعالى الأصوات من بعيد، الشاهد يحاول النهوض لمرات تحاول زوجته مساعدته لكنه لايستطيع، محمد يبادلهما النظرات ويخرج مسرعاً)
الزوجة: هو عليك يادرة القلب، أعرف ما يمور بين ثنايا قلبك الموجوع، لكنها ارادة الله وقدرة!!
الشاهد: لا اعتراض ليَّ على قدر الله وارادته لكنه العشق الذي لايهدأ طالباً المكوث هناك عند وجود الأجل،(يصرخ) ماذا إن تلاقفته سيوف الحقد والرذيله ولم اره إنا الذي تعودت ما أغمضت عيني الا بعد ملامسة روحه..أشم رائحة ما شممت مثلها قط، رائحة آتية من بعيد السماء!!
(خطوات حزينة تقترب،،)
السيدة: الخيمة حجاباً اما ان لكم الكشف، هل للعزلة معنى في عقولكم العافة؟!
الشاهد: (بلهفة) ابنة عم ، أنها عمتنا (يحاول النهوض لكنه يتهاوى.. تعيده الزوجه الى مكانه..)
(تدخل السيدة، تحمل بين يديها إناء ماء..تندفع الزوجة لتقبل يدها وتاخذ الاناء، السيدة تندفع الى الشاهد تحتضنه، يقبل رأسها وتقبل جبينه، الزوجة تضع أناء الماء قريباً من عمتها التي تبادلها النظرات!!)
السيدة: أما آن لهذ الوجع أن يغادر الجسد السقيم الرابض فوق تلال الحسرات؟!!
الشاهد: وكيف هذا عمتي والضعف أخذ بكلي!!
السيدة: ويل الروح التي يراودها الإستسلام فلا تأبى، حاذر الإرتماء بين يدي محنتك!! (تأخذه الى صدرها مقبلة جبينه) على ماذا تهم بالنهوض،
الشاهد: (متنهداً بوجع) هل يتسع الفراش لوجودي وأنا ابصر معلمتي تدخل بكل هذا البهاء؟!!
السيدة: عن أي بهاء تتحدث يا أنت، ونحن نقترب من أيام المجهول، الفجيعة أن تبصر الوداع الأخير ولا تسهم فيه (متنهدة) ما عسانا فاعلين يابن الأكارم والشر يطالبنا بالهزيمة؟
الشاهد: أو عمتي تسأل مثل هذا السؤال وهي العارفة الثابتة اليقين!!
السيدة: (بحزن) الفقد صعب يابن أخ، لا أظن إن الأيام رأت ما رأيت، فجيعة ما عاشت الدنيا مثلها ولن تعيش،،!!
الشاهد: أعرف عمتي ماتحملين من المواجع و ماتفكرين به من أرث الضيم ومجهول الأفعال..أرثك ثقيل وأيامنا مدلهمة القحط!!
السيدة: (بصوت يغلب عليه الشجن) أيها الفتى، هل فقهت ما كان يردده الاجداد..نحن ال بيت أصواتنا تُسَجل في سطور التاريخ؟ حروفنا ستغرقها دماء لا تُقرأ لكن الأمر محال..!!
الشاهد: (بصوت هادئ، حزين) أيّتها العمة، الألسن لا تسرد إلا ما يتسق مع مجرى الرياح، أما نحن، فنحيا بما يُخفيه الزمن عن أعين الناس…، الأشجار مثمرة تقاوم عواصف الإنكسار والتراجع، لهذا سنبقى،مابقيت إشارة التكبير وشهادة نبوة الجد ووصاياه!!
السيدة: (تلتفت إليه بحيرة، وعيناها مليئتان بالأسئلة) أنا، على يقين من أن الأشجار اليابسة لا تُكتب في التاريخ، بل تلك التي تثمر حتى في العدم. هي الباقية المكتوبة وأنت، يا ابن الحسين، هل ترى أنك، بعد زوال السقم، ستُورث مبادئ لا تعرف حدودًا؟ هل أنت وريث المبادئ أم وريث الدم؟!!
الشاهد: (يتنهد، ليجيب بحكمة تخرج من عمق روحه المريضة) عمتي العارفة المعتبرة… أنا لست وريثًا للدماء التي سالت، بل حاملُ أمانة الرسالة التي لا يملكها سواي. الارث الذي أتبناه ليس من هذه الدنيا، بل من النبوة، التي لا تقتصر على أرض أو بشر، هي سراج يضيء القلوب. السيدة (بصوت حاد، وكأنها تسأل ما عن ما يخفيه) النبوة؟ وهل يسعك أن تحمل هذا العبء الثقيل وحدك، في جسدٍ أضعفه المرض؟
الشاهد: (بنبرة معتدّة، رغم الضعف الجسدي) نعم، … أملكُ هذا الإرث، والوراثة لا تُعطى للضعفاء، بل لأولئك الذين يدافعون عن الحق بكل ما أوتوا من قوة. حتى وإن كان الجسد ضعيفًا، فالروح لا تنكسر.
السيدة: (تنظر إليه بحكمة الأم، وتحاول أن تُدرك أبعاد روحه) أنت تعلم أن الطريق الذي أمامك، لايعرف الورود والجمته مخاوف الإجابات وحدك ستكون في مواجهة عواصف الاتي من الأزمنة، وعليك أن تكون الجبل الذي لا يتزحزح. فهل أنت مستعد لذلك؟
الشاهد: (يخفض رأسه قليلاً، ثم يرفع عينيه بتصميم) إذا كانت المبادئ هي ما يعيشنا، فهذا هو الدرب… حتى وإن كانت العواصف لا ترحم. أنتِ، يا عمة، حملتِ هذا الهم طوال حياتك، وأنتِ التي علمتني كيف يكون الصبر حارسًا للكرامة.
السيدة: (بصوت مليء بالمعاناة، وهي تتأمل حاله) الصبر يا ابن فلذة الفؤاد، ليس في أن نبقى أحياء، بل أن نبقى ونحن نواجه تلك الأكاذيب التي تلبس الحق. لكن هل تعلم يا بن شغاف القلب، أن الحقيقة أغلى من العمر نفسه؟ وأن من يورث الحقيقة، لا يمكن لأحد أن يسلبه إياها؟
الشاهد: (بثقة نابعة من روحه الكبيرة) أعلم يا عمة، أن الحقيقة لا تحتاج إلى أجنحة لتحلق، ولا إلى سيف ليحميها. الحقيقة وحدها، هي التي ستظل، حتى وإن حاولوا أن يدفنوها.
السيدة: (تنظر إليه بعمق، وقد بدأت تقتنع بحكمته) إذن، فلتكن معركتك، يا ابن الحسين، هي معركة الحق ضد الزيف، ولا يضرّك ما يُقال عنك أو ما يُفتَرى عليك. ستمضي كما مضى أسلافك، وإن كانت خطواتك على الأرض خافتة، فصوتك سيظل مدويًا في آذان الزمن.
الشاهد: (ينحني قليلاً، ثم يقول بهدوء وثبات) إذا كانت الأيام قاسية، فإن الحق لا يضعف… بل يزداد ضوءًا، كما تزداد النيران توهجًا في عتمة الليل.
( الشاهد والسيدة يتبادلان النظرات، حين تقدم له الماء الذي يبصره بشي من الخوف كأنه يرى الماء لاول مره،،)
السيدة: (بصوت رقيق، تقترب منه بلطف، دون أن تلمس الإناء) في عينيك، هناك أرضٌ جافة، يا ابن أخي…هل ترى في قطرات الماء شيئًا من الخلاص؟ أنت تقاوم، وكأنك تسعى وراء سرابٍ لا نهاية له…
الشاهد: (صوتٌ هادئ، عميق، مشبع بالوجع) أبحث عن وجهٍ لا أستطيع الوصول إليه…كل قطرة من قطرة ماء تأخذني بعيدًا عنهم، عمتي…كيف لي أن أشرب، وكلما هممت بالارتواء، تذكرتُ أقدامهم التي تركت أثرا في الرمال؟
السيدة: (تقترب أكثر، كلماتها تخلو من الإلحاح، بل تُجسد حكمة الصمت) هل تعتقد أن الماء ينفصل عن الزمن، أم أنه يسير معك كما يسير النهر على وجه البسيطة، لا يتوقف إلا ليُحيي ما في طريقه إن الحياة ليست في الحذر من الشرب، بل في كيفية الحفاظ عليها بعد ارواء عطشنا…
الشاهد: (ينظر إلى الماء كما لو كان يحمل عبءًا لا يُطاق، ويتحدث بصوت خافت) ماذا عنهم؟ ماذا عن أولئك الذين يملكون عطشًا لا يشبع؟هذا الماء… أين مكانه في عالمٍ كله حرمان؟أين يمكن أن يذهب، إذا لم يذهب إليهم أولاً؟
السيدة: (تدرك أن كلماتها لا بد وأن تجد مكانًا لهافي قلبه) في صمتك، تُخفي الكثير من حكم الحكايات. لكن عليك التذكر: إن الماء لا يذهب إلا حيثما كان القلب قادرًا على حمله. إذا لم تعتنِ بنفسك، فكيف تستطيع أن تهتم بأرواحهم؟ العيش هو أن تشرب من إناء ممتلئٍ، لا أن تتركه في الزمان يذبل.
الشاهد: (يهمس، بصوت يقف بين الألم والعزم) كيف ليَّ أن أضع الفم على هذا الإناء، وأتركهم هناك يئنون؟ كل قطرة ستصبح رمادًا في داخلي، وكل لحظة ستمحو جزءًا مني…الريح لا تهدأ في داخل قلبٍ لا يهدأ إلا حين أكون حيث يجب أن أكون…
السيدة: (تبتسم بمرارة، وكأن كلماتها تحمل أكثر من ما تُظهره) لا تحاول أخفاء شجاعتك في كتمان الألم.لقد فهمتُ، يا ابن أخي، أن القوة لا تكون في الأفعال الظاهرة، بل في الإيمان بأن كل ما نختار له أثرٌ بعيد. فقط استمع إلى صدرك… الحياة ليست في الماء، ولكن في من يستطيع أن يظل حيًا بعد أن يُروى.!!
الشاهد: (يغمض عينيه، ويشعر بموجات متتالية من الفوضى تعصف به) الماء… يهرب من بين يديّ، كلما اقتربت منه. هي خيانة أن أشربه وأنا أبصر الاحزان التي لا تفارق روحي … هل يكفي أن أشرب لأكون قويًا؟ أم أن في الفقد قوة أخرى، أقوى من كل قطرة؟كيف يمكن للإنسان أن يوازن بين العطش الذي يقضم الروح، وبين حتمية الفقد الذي يعصف بالكل؟ الريح في الداخل لا تهدأ. الصوت الذي يتبعني يردد أنني سأتوقف حين أمتلئ…لكن القلب يقول: لا… القلب يقول، لا تذق الماء قبلهم…لا أريد أن أكون شخصًا غريبًا عن حلمهم…كيف لي أن أكون الأقوى، إذا كان ذلك يعني أنني سأموت في الداخل، ولا أستطيع أن أروي أرواحهم؟
( نداءات تكبير، خطوات مرتبكة تظهر بوضوح لكنها تتلاشى رويداً، تنهض السيدة بتعب ظاهر وشديد القسوة، يدخل محمد مسرعاً، يقف امام السيدة بارتباك ظاهر)
السيدة: (بود) لهفة الخوف بادية على عينيك يامحمد، مالذي يجري هناك او الوعد الذي لا خلاص منه؟!
(محمد يرتمي بين يديها باكياً،تمسد شعر رأسه)
محمد: جدتي رأيت ما لا اطيق التفكير فيه .. جرح حفر عميقاً في قلبي!!
السيدة: يا لب القلب..هذا يوم حددته الاقدار منذ بدء الخليقة..كتبه الخالق في لوح موضوع عند عرشه..فلا تجزع ولا تجعل روحك تصاب بالهوان.
(الزوجه تأخد ولدها الى صدرها باكية، الشاهد يحاول النهوض لكن السيدة، تعيده الى مكانه.. صهيل خيل، صراخ مختلط بالنواح. تجلس يسيطر صمت على المكان المهيب ]
محمد: (باكياً) خالي، قتلت سيوفهم خالي القاسم!!
السيدة: (منكسرة، بصوت متقطع) أواه يا قاسم…كيف تتسع الأرض لوجع كهذا؟ كيف تستقيم سماء كانت شاهدة على تورد وجنتيك؟ ألم يُخلق جمالك ليُزهر؟ ألم يُحَدد النصل لينأى عن عنقك، عن قامتك التي لم يطل ظلها بعد؟!!(ت نهض كأنها تخاطب صورة خفية أمامها) كنتَ وهجًا… وكنتُ أراك شمسًا أخرى،لم يك قلبك سوى طين نديّ، كيف ارتضى التراب أن يضمك بين جوانحه؟ (تضع يدها على قلبها كأن الألم يعتصرها، صوتها يصبح أشبه بالغناء الحزين) يا طفلًا يحمل حُسنَ الحسنِ وأحلامه، من منح السيف حقًّا في وأد ربيع أيامك الواعدة بثمار المعارف.. كيف غفلت الملائكة عن رياح الشر حين دنست أرض الطف؟ (تتقدم خطوات، وكأنها تخاطب السماء) يا ربَّ كل فجرٍ ودمعة، أما اكتفيتَ بدمع الحسين؟ أما ارتويتَ من غربة أخي وسندي العباس؟ لماذا هذا الإختبار الذي تُذبح فيه البسمة عند محراب الفسوق والانحراف؟!!(تجلس من جديد، صوتها يخفُت، كأنها تحدث نفسها الآن) يا قاسم…لعلنا دمىً في يد القدر، لعلنا وقودًا لنارٍ لا تخمد، لكن… أين كنتُ حين تساقطت زهرتك؟كيف كنتُ أسمع الخطى ولا أمدُّ إليك ثوبًا من الأمان؟ (تُطرق برأسها، الدموع تنساب من عينيها دون صوت، همسها بالكاد يُسمع) يا وجعي، يا قاسمَ الحسن، لقد سلبوك وأخذوك حيث لا تفتح الكلمات بابًا، ولا ترجع الأرواح المسافرة. (تصمت لبرهة، ثم تنظر بعيدًا نحو اللاشيء، وكأنها ترى ما وراء الزمن) لكنني أقسم…ما دام في السماء شمس، وفي القلب يقين،لن تنطفئ دماؤكم، ولن يُنسى أثرُكم.
(السيدة جالسة بانكسار، يحيط بها الشاهد وزوجته…)
(العباس مناديا من خارج الخيمة)
العباس: أنتم يامن هناك.. يا بيت عز النبوة وهيبتها العلوية!!
(حين تنصت السيدة لنداء العباس تنهض مسرعة لتلاقيه عند الباب تأخذ بود يديه الى يديها، يقبل جبينها ويأخذها الى العمق، الزوجة تركض اليه مرتمية الى احضانه)
الزوجة: عماه،، القمر الذي هلَّ على أرواحنا المنتظرة بصبر.. أية خطوات خير أعادتك الينا،،طال انتظارنا ياعم!!
العباس: فاطمة أبنة أخي، الرب قاض ولا راد لقضائه وما مكتوب باللوح المحفوظ لايمكن محوه أو اللعب فيه كل شيء الى زوال سوى الواح القدر وسمو النبوة!!
الزوجة: لم بلونا دون غيرنا عماه..ما كان جدنا الأجل سوى فعل خير منقذ،، به رفعت غشاوة العيون لترى دروب الحقيقة، وتعرف المسير الىحفاوة الرب ورفعته!!
العباس: لأننا بيت نبوة وإيمان وصدق قول، نحن خط الصراط المستقيم الذي يعرف معه الحق من الباطل!!
الشاهد: (يهم بالنهوض لكن العباس يأخذه بين يديه ليعيده الى مكانه ويجلس الى جانب السيدة، صوته يحمل مزيجًا من المواساة والقوة) أختاه، يا ابنة أجل الناس وأرفعهم قيمة ومجداً…علم أن الوجع قد أثقل صدركِ،لكننا لسنا كغيرنا من الناس، نحن أهل البلاء، وأهل الصبر عليه. هذه دماؤنا، وهذه أرواحنا، وقد أقسمنا أن نكون فداءً للحق.
السيدة: (تُرفع عينيها بصعوبة، تنظر إليه كأنها تبحث عن تفسير) أبا الفضل، توئم الروح قل لي:كيف يُحتمل هذا؟ كيف أصبر وأنا أرى أعزّ الناس يُحملون على محاف الموت من بين أيدي دون مقدرة على فعل ما يجب فعله؟ هل كتب علينا أن نودعهم جميعًا؟ (العباس يضع يده على كتفها بحنان أخوي) نعم، كتب علينا يا درة القلب. الكتاب وما مدون في قراطيسه يحملنا إلى ما هو أعظم.أما تذكرين ما قاله أبونا العارف الحكيم؟ “الصبر صبران: صبرٌ على ما تكره، وصبرٌ على ما تحب.”نحن اليوم نُسلم الأحبة، لكن غدًا نُستلم النصر.الابدي !!
الزوجة: (تمسح دموعها، صوتها ينكسر بين الألم والأمل) لكن ياعم، كيف نعيش مع هذا الفقد؟ كل لحظة هنا كأنها نزف جديد…كيف ننهض ونحن نحمل هذا الجرح في قلوبنا؟
الشاهد: يا فاطمة، يابنة عم الحزن ثقيل، لكنه لا يكسر إلا من أراد أن يُكسر. ألم تسمعي ما كان يقوله جدي علي؟ ‘إن الله إذا أحب عبدًا’ ابتلاه.”هذا البلاء ليس عقابًا، بل امتحانٌ يرفعنا إلى حيث لا يصل إليه سوانا.
السيدة: (تمسك بيد الزوجة، كأنها تستمد القوة من كلمات الشاهد) لكن أيّ امتحان هذا، ألا يكفي فقد الحسن؟ ألا يكفي غربتنا لماذا القاسم الصغير الذي كان بسمتنا الوحيدة في هذا الظلام.