في الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الهيئة العربية للمسرح، الذي أُقيم في مسقط، تميز عرض “ماكبث المصنع” للمخرج المصري محمود الحسيني كأحد ابرز الاعمال التي اعادت احياء كلاسيكيات الادب العالمي برؤية معاصرة، والذي استلهم مأساة شكسبير الخالدة عن الطموح والجنون، ليعيد تشكيلها في سياق حديث يستكشف صراعا جديدا للمواجهة بين الإنسان والتكنولوجيا، بحيث وظف تقنيات الذكاء الاصطناعي، لإعادة بناء وعرض عوالم مكبث الدموية في قالب رقمي، عكس تناقضات العصر الحديث حيث يُهدَّد وجود الإنسان بمشاعر متبلدة وحياة افتراضية تقترب من نزع الروح الإنسانية، ليصبح السؤال المحوري في العرض هل يمكننا الحفاظ على إنسانيتنا وسط عوالم التكنولوجيا المتسارعة؟
في هذا التقديم المبتكر، أُعيد تفسير دور الشر الكامن في نص ماكبث الأصلي، حيث حلت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والمتمثل بـشخصية (مدركة) محل الساحرات الثلاث بحيث أصبح الذكاء الاصطناعي تجسيدا معاصرا للفتنة والتحريض، ليس بوصفه مجرد أداة، بل ككيان مدرك، يثير الطموح ويشعل نار الجشع للشاب الطموح، الذي يرث مصنعا عائليا، ويغريه بالسيطرة المطلقة من خلال وعود متكررة بالنجاح والقوة.
تدريجيا، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى صوت متسلط داخل ذهن الشاب، يدفعه نحو اتخاذ قرارات مدمرة، كان أولها قتله لعمه الذي يُعد العقبة الوحيدة بينه وبين حلمه بالسيطرة على المصنع، هذه الجريمة التي ظن أنها بوابة لتحقيق طموحاته، تُغرقه في دوامة من العنف والندم، ليتلاشى الإحساس بالنصر سريعا مع تصاعد شعوره بالعزلة والشك، فيجد نفسه محاصرا في حلقة مفرغة من القرارات المدمرة التي تقوده إلى حتفه.
من خلال هذا التصور، نجح المخرج في خلق إسقاط معاصر يعكس هشاشة الإنسان أمام الإغراءات التكنولوجية، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي رمزا للقوى التي تُغري الإنسان بالطموح المفرط، لكنها في النهاية تسلبه إنسانيته، لتتحول المأساة من صراع على السلطة إلى صراع وجودي مع النفس والتكنولوجيا، وهذا يعني بان العرض، الذي أخرجه محمود الحسيني، قدّم الفكرة الأساسية في سياق جديد تماما، يعكس بوضوح تأثيرات التقدم التكنولوجي على الإنسان في القرن الواحد والعشرين، بحيث كان حريصا على تبسيط الأداء التمثيلي، ليقتصر على الحد الأدنى من الكلمات والحركات، ما ساعد على إبراز الحالة العاطفية الداخلية للشخصيات لإيصال الفكرة الرئيسية والتي تكمن في أن التقدم التكنولوجي ليس مجرد أداة لتحسين الحياة، بل قد تكون أيضا السبب في طمس مشاعر الإنسانية وموتها، لتحل محلها حياة آلية باردة لا مكان فيها للتفاعل العاطفي، ومن أبرز الجوانب التي ميزت هذا العرض المسرحي الجرأة في اختيار فريق تمثيلي غير محترف، مكون من طلبة كلية طب الأسنان بجامعة القاهرة، هذا القرار الجريء، الذي تجاوز الحواجز التقليدية للمسرح الاحترافي، أضاف بُعدا جديدا ومثيرا إلى التجربة المسرحية والتي أثبت بها المخرج قدرة الممثلين الهواة على ترجمة رؤيته الإخراجية بحرفية عالية، حيث قدموا أداء عاطفيا صادقًا نجح في خلق تفاعل حقيقي مع الجمهور، بحيث جاء هذا التفاعل ليعكس الصراع الداخلي والخارجي الذي عايشه الشاب الطموح في إطار درامي مشحون بالاضطراب النفسي والقرارات المصيرية، علاوة على ذلك، استُخدمت مشاهد الروتين اليومي للعمال في المصنع بذكاء بصري ودرامي عالي، لتشكل موازاة رائعة بين الحياة الآلية التي يعيشها الإنسان تحت وطأة التكنولوجيا والتفاعلات الإنسانية المفقودة، فكان افتتاح العرض بمشاهد ديناميكية وسريعة تُظهر التكرار اليومي الرتيب لحياة الشاب وعمله في المصنع، لتجسد هذه المشاهد الزمن كدائرة مفرغة، حيث تتلاشى المعاني الإنسانية وسط دوامة الروتين الميكانيكي، مما يعمق الشعور بالانفصال عن الأحاسيس والمشاعر، وبهذا التداخل بين الأداء العاطفي العفوي وفلسفة العرض التي تتناول الآثار السلبية للتكنولوجيا، نجح العمل في تقديم رؤية معاصرة تجمع بين الأصالة المسرحية وسؤال العصر الحديث عن مصير الإنسان في عالم يسيطر عليه الطموح الميكانيكي والذكاء الاصطناعي.
الدراما تتحول تدريجيا من مأساة فردية إلى انعكاس اجتماعي واسع، حيث كشف العرض كيف يؤدي الانغماس في الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الفرد لقدرته على اتخاذ قرارات إنسانية، ويجسد بذلك أسوأ ما في العصر الرقمي استبدال القلب بالعقل الآلي، ومع تطور الأحداث، يصبح الشاب ضحية لخياراته الدموية، ليجد نفسه في النهاية محاطًا بلعنة من الندم الأبدي، الذي يعكس الفشل التام في العودة إلى إنسانية لا يمكن استعادتها.
ويمكن القول بعد ذلك بأن عرض “ماكبث المصنع” في جوهره دعوة للتفكير في تبعات عصر التكنولوجيا والتقنيات الحديثة على النفس البشرية، وإنه تحذير من ان الانسان اذا استمر في تقديم طموحاته المادية والتكنولوجية على حساب القيم الإنسانية، فإن ذلك قد يؤدي إلى تفكيك هويته الداخلية وفقدان إنسانيته بشكل لا يمكن إصلاحه، وأن العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا يجب أن تكون قائمة على التوازن، وليس الهيمنة الكاملة للآلة على الروح البشرية.
وفي ختام العرض، يمكننا القول بان “ماكبث المصنع ” جسد رؤية إخراجية تفاعلية وجريئة تعيد صياغة النص الكلاسيكي في إطار معاصر، حيث تلتقي مأساة الطموح والخيانة مع تساؤلات عصرنا الرقمي، لذك فأن هذا العمل لم يكتفي بطرح تحذير فلسفي عميق عن الثورة الرقمية التي باتت تحاصر الإنسان وتُهدد بطمس ما تبقى من إنسانيته، بل تجاوز ذلك ليشكل تجربة مسرحية تحمل في طياتها بُعدا أعمق وأهم، فضلا على ان هذا العرض هو محاولة جريئة للتخلص من الإرث السلبي لتلقي المسرح، لأنه سعى الى كسر النمطية التي ترسخت في الأذهان نتيجة التعود على العروض التقليدية في مجتمعات أُلفت الأنماط المكررة والدراما المألوفة، لذلك يمكننا القول بان “ماكبث المصنع” ليس مجرد عرض مسرحي، بل هو تجربة تُعيد تعريف حدود الفن المسرحي من خلال تفاعله مع قضايا العصر وتجاوزه للحدود التقليدية، وإنه دعوة مفتوحة للجمهور لكسر القيود النفسية التي تعيق تقبل التجديد، مما يعكس دور المسرح كمحرك للوعي الجمعي وكنافذة نحو استكشاف عوالم فكرية وإنسانية جديدة، وبهذا، أثبت المخرج محمود الحسيني أن المسرح قادر على أن يكون مرآة للواقع وأداة للتغيير، محذرا من خطر التنازل عن هويتنا الإنسانية في زمن يسيطر عليه الفكر الآلي والطموح المجرد.