يحظى الطفل بمكانة محورية في اهتمامات المبدعين، إذ يرون فيه بوابة المستقبل وركيزة أساسية لبناء مجتمع واعٍ ومتنور. لذلك، تسعى إبداعاتهم إلى تقديم أفكار إنسانية عميقة تُغذي مخيلته وتُثري معارفه، لتشكّل قاعدة صلبة تُساهم في صياغة مستقبله بأبعاد إنسانية ومعرفية. وفي مجال المسرح، تتجلّى هذه الرؤية من خلال محاولات دؤوبة لتطوير أساليب مبتكرة ترتقي بفن الطفل، لتجمع بين المتعة والتثقيف، متجاوزة الترفيه التقليدي نحو تقديم مضامين سامية تُلامس وجدانه وتفتح أمامه آفاقًا جديدة من التفكير والإبداع. وفي هذا السياق، تشهد بغداد عرضًا مسرحيًا يستهدف عقل الطفل وقلبه على حد سواء، من خلال تقديم تجربة فنية تُراعي عمق الشكل وجمال المضمون، مُجددة بذلك مفاهيم المسرح كوسيلة لبناء وعي الأجيال القادمة
تقدم نفسها الدكتوره زينب عبد الامير ككاتبة في مشروعها المسرحي المخصص للأطفال في خطوة جريئة لتكريس توجهها نحو مسرح الطفل . وهي تعالج موضوعا يؤطر حياتنا المعاصرة والذي بات لا يخلو منه بيت يرتبط بالالعاب الالكترونية و يقدم سردية طفل انزوى في عالم رقمي متشابك، داخل شرنقة الألعاب الإلكترونية، متجاهلاً محاولات والدته ودعوتها له لمغادرة العالم الافتراضي والعودة الى عالم الواقع مغادرة عالم حوله الى قطب لصراع داخلي بين ذاته الحقيقية التي تضج بالايقاع ، وعالم افتراضي يستهلك طاقته ومخيلته، وبين تشابك اقطاب هذه الجدلية ، يتم تقديم فراشة سحرية تزج بهذا الطفل في تجربة استثنائية يتلاشى فيها الزمان والمكان ويبقى الحدث متفردا يضعه في مواجهة استثنائية داخل مغلف تم تشكيله بهيئة صندوق مدخلاته لا تنتمي الى مخرجاته ، حيث يلتقي بمهرجين يختلفان في الشكل والمضمون ؛ أحدهما يدفعه تجاه التمسك بالإدمان ، على الألعاب الإلكترونية التي اختزلت بشاشات تقدم لمغامرات الوهمية باطار ايقاعي سحري. أما المهرج الآخر، فقد كان يمثل قطبية التوازن والسلوك العاقل، الذي يحاول استعادة الطفل الى عالم الواقع وسحر الطفولة ، وإعادة الروح إلى جمال الحياة الطبيعية المتوازنة.
حقا انها حكاية تُذكرنا بالصراع الفكري الدائم بين الحرية غير المنضبطة وبين الحكمة القائمة على القيم التربوية . ومع ديمومة الصراع وتشابك الرؤى اتخذ الطفل قراره في اختيار الحياة الحقيقية، والعودة إلى عالم الواقع ، واستخدام التكنولوجيا بحكمة قادته لان يستكشف العالم من حوله بألوانه الجميلة، والذي تأتى من مزج الواقع بالخيال منتصرا لقوة الارادة. ليرقص الجميع ويحتفلوا في جو ايقاعي مشحون بالتفاؤل والاصرار ويقدمون لنا حثّا على ان فهم النص يجب ان يكون متسقا مع مبدأ توظيف الخيال كأسلوب علاجي للأمراض النفسية وهذا الامر يؤشر ان انزياح النص باتجاه ثنائية الخير والشر لتقديم الاطر العلاجية لازال المحرك الاساس لكتاب دراما الأطفال في كل أشكالها من حيث اللجوء إلى خيار ثيمة الخير والشر وصراعهما، لتعزيز البنية الدرامية والتي تقدم حكائية النص وما تبغي تقديمه. وبشكل عام فان هذا الموضوع يعمل على تسكين وتجميد الوعي الطفولي، باتجاه جولات الصراع بين قوى الخير والشر وأن الأشرار هم المكون الطبيعي الكاره للخير والذي يدفع باتجاه إعاقة حياة الحب والسلام بين الناس، غير ان الخير سينتصر في النهاية ويعم الحب والسلام. وبرأينا فان اللجوء لهذه الجدلية وهذا الاسلوب ساهم بتنميط خيال الاطفال وهو مالم يتضمنه نص ( انا والمهرج ) الذي قدم الحكاية بتوصيف مبدع عبر احداث التماهي فيما بين الواقع والخيال وتقديم الحل من رحم الخيال ودواماته الفلسفية.
بطريقة مباغتة في تقديم معالجة تفرض شكلا جديدا يعتمد على تقديم ما يحتاجه الطفل من معرفة تدخل وعيه بعمق وتدله على ما يجب ويمكن عمله .
يركز النص على العلاقة بين الطفل والعالم الخيالي، حيث يستخدم شخصية “المهرج” كرمز لتقديم ثنائية التجاذبات للدفع باتجاه العلاج النفسي ومن خلال المرح واشاعة اجواء احتفالية صاخبه، تميز النص بالبساطة التي تناسب الجمهور المستهدف (الأطفال) مع احتفاظه بعمق يتيح للبالغين استنباط رسائل تربوية ضمنية. ومع ذلك، قد تكون هناك حاجة لتجنب الإفراط في التلقين الذي كانت تكرره شخصية الفراشة ( الساحرة ) لضمان التفاعل الطبيعي للأطفال مع القصة .
وقد ساهمت الموسيقى بتعميق مديات الفكرة والحوارات والصراع لتبلغ افقا جديدا على مستوى البناء اللحني وتوظيف الاوركسترالية والاداء الموسيقي المبهر الذي نقل النص المسرحي من فضاء الى فضاء اخر دونما احساس بالتناقضات والملل ولا غرابة في ذلك.
فمؤلف النص الموسيقي للعمل المسرحي هو القائد الأوركسترالي العراقي علي خصاف الذي يتميز بأسلوبه الفريد في البناء الموسيقي، حيث يمزج بين الأصالة الموسيقية الشرقية وتقنيات الأداء الأوركسترالي الغربي بطريقة تعكس هويته الثقافية والفنية. والتي جسدها ضمنا بشكل حوارات موسيقية بين مفاصل العمل المسرحي بما منح الكل المتحصل من المقاطع الموسيقية والمقدمة والنهائه انت تشكل سيمفونية تتيح لجمهور مختلف الثقافات التفاعل دون فقدان الجذور الأصيلة لاهداف العمل المسرحي مستغلا قدرته على توظيف الآلات الموسيقية بشكل متوازن ومبتكر. يظهر ذلك في توزيع الأصوات بين الآلات الوترية، والهوائية ، والإيقاعية بطريقة تخلق تناغمًا ديناميكيًا وتبرز التفاصيل الدقيقة لمفاصل وحكايات العمل المسرحي الامر الذي يعكس إلمامه العميق بتقنيات التأليف والتوزيع، إضافة إلى فهمه لدور النسيج الموسيقي في تشكيل وعي الطفل بموضوعة واهداف العمل المسرحي .
اعتمد الأداء التمثيلي لشخصيات المهرج( بنقطتي الجذب السلبية والايجابية ) على الحركات البهلوانية الموجهة للأطفال والتي كان الأداء فيها مبالغًا في مواطن عديدة ويحتاج الى مزيد من الضبط الايقاعي للسيطرة على الايقاع العام للعمل وللمحافظة على ، التركيز الطفولي وضرورات التوازن بين الفكاهة والرسائل العميقة التي تشكل التحدي الأكبر لفكرة النص اما شخصية الطفل التي كانت تلعب دورًا محوريًا في عكس تساؤلات وفضول الجمهور الصغير وقد نجح الممثل نوعما في اكتساب جودة التفاعل بينه وبين الممثلين الاخرين وقد اسهمت جوقة المؤدين للحركات الراقصة في ان تضيف مصداقية للعمل وتسهم في ترسيخ الرسالة على الرغم من حاجتها للتدريبات المتواصلة لتحقيق الضبط الايقاعي والاهتمام بالشكل والتنسيق .
اما السينوغرافيا فتحتاج منا الى وقفة تأملية لتلمس مواطن الابهار والابداع والتمكن والتي عكست احترافية عالية في التعاطي مع اللون والاضاءة التي كانت بمثابة المرتكز الذي جسّد الصراع بين تضادات العوالم والازمنه في العرض. يقودها في ذلك رؤية إخراجية مبتكرة، وخاصة في مجال توظيف المسرح الأسود كأداة للابهار وتشريح الفكرة ، ولتجعل العرض يتجاوز مستوى كونه
أكثر من مجرد فضاء مسرحي حقا فقد اسهم في جعلنا في حالة اغتراب عند ادراكنا لعملية الربط بين العالم الافتراضي المبهر، وبين العالم الواقعي.
وفي هذا السياق ، فانه يكن المسرح الأسود مجرد خلفية، بل كان عالما رائعا، تتمازج فيه الظلال مع الأضواء لخلق انتقالات زمنية ومكانية سلسة ومرنة، بالاتفاق مع الموسيقى والاضاءة والتي شكلت بمجموعها مع الازياء شخصية درامية ذات تاثير كبير في ، المشهد البصري والشحن العاطفي
مسرحية “أنا والمهرج” تقدم تجربة مسرحية ثرية تستهدف الأطفال بأسلوب ممتع وتعليمي، مع لمسات إخراجية مبتكرة من الدكتوره زينب عبد الأمير وفريق العمل المبدعون تعيد لنا البريق والوهج الرائع لمسرح الطفل في العراق . ويمكن تحسين التجربة بزيادة التفاعل والتنوع في الأداء البصري والدرامي عبر توفير الدعم المادي والمعنوي وتهيئة الفرصة لهذا العمل من التجول والسياحة في البيئات العراقة المختلفة والانتقال به الى البيئات الدولية ممثلا للمشهد المسرحي العراقي.