على الرغم من ثبات الكتابة بشكل عام والنص المسرحي خاصة؛ إلا أنها متغيرة الدلالة. لا تقتصد على معنى محدد، بل ثمة فائض وإسراف دون أن تتبنى مدلولاً بعينه. إذ تمثل الكتابة فضاءً منفتحاً على مساحات شاسعة من التأويل. ففي الوقت الذي يتشارك الجميع في فعل القراءة، تعتمد الكتابة – في كل مرة- على الاختلاف في تفسير المعنى.
وهكذا هي الأسطورة على الرغم من طابعها القار، إلا أنها تُحلق بعيداً متخطية الواقع إلى أكثر العوالم خيالاً وأعمقها تأثيراً، فهي ذلك الشكل القائم على المفارقة في مضمونه. وما بين قوة المعاناة وشدة الألم الذي ترزح فيه شخصياتها، نجد أن المتلقي/ القارئ يبحث عن البهجةِ والمتعةِ، من حيث أن لحظة الألم التراجيدي لا تماثل لحظة متعة التلقي، ومصدر ذلك، أن ما يسرد أمامنا من أحداث يقع في زمن الماضي، في حين تعتمد عملية القراءة/ التلقي على ما يحدث الآن. وعليه يتنوع التأثير والاستخدام باختلاف الفترات الزمنية والثقافات، لا سيما أن الأساطير لعبت دوراً هاماً في تشكيلِ قصصِ المسرحِ بقصدِ إيصالِ المعاني والرموز، بوصفها تمثل أول “تجل للفكر الإنساني” القديم وبوصفها مرحلة من مراحل تطور الوعي عنده، فمن خلال الأسطورة تم عقد الصلة بين عالم السماء وعالم الأرض، والتي أنبثق عنها مجموعة من المفاهيم والرموز التي تعينه- أي الإنسان- على إثباتِ حالته الذهنية والشعورية عبر إدراك حركة أصل الوجود والموجودات في تناقضها السماء/ حياة/ الأرض/ موت، وهذه الحركة على الرغم من التناقض الواضح بين طرفيها إلا أنهما بالنسبة للوجود كوجهي العملة الواحدة كل وجه فيها يُعدُ صوة من صور الوجود.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول أن المؤلف عبد الحسين ماهود يحاول في مجموعته الموسومة بــ “ايشوبا” الخوض في عالم له جذوره وأسلوبه الخاص والمميز من خلال التركيز على مضامين تاريخية أو أسطورية وإعادة قراءة الأثار الأدبية الفنية القديمة، والبحث فيما تطرحه وصولاً إلى فهمٍ أعمق للوضع الإنساني الحديث، واختبار صلاحية معنى الأسطورة القديم بما لها من دلالة علاماتية سيميائية، إذا ما كانت قادرة على أن تلقي بظلالها على معاني العصر الحديث.
ففي مسرحيته (مملكة الأَسِرّة) أعتمد المؤلف على نصٍ إغريقي بعنوان (آغاممنون) لمؤلفه (اسخيلوس) وهو يروي قصة هروب هيلانة زوجة مينلاوس شقيق اغاممنون مع باريس أحد أمراء طروادة، ومن أجل استعادتها يقود آغاممنون الحرب، ولكي يحقق نصراً مشروطاً بنبوءة تستند على التضحية بأبنته إيفيجينيا، وبعد أن تَحقق له ذلك عاد برفقة امرأة تدعى كاساندرا كاهنة معبد أبولو، ليلتقي بعد ذلك بزوجته كليتمنسترا بعد أن تؤدي بها الغيرة إلى قتل الأثنين معاً. من هذه العلاقات الشائكة تتطور الحبكة متبلورة حول فكرة المرأة والحرب. كانت تلك المرأة تنسج خيوط الأحداث دافعاً لتطور الحبكة، بدءاً من هروب هيلانة، وإنتهاءً بوصول القائد منتصراً وبرفقته المرأة (كاساندرا)، قوى محركة للصراع تلتقي فيه مجموعة من الأحاسيس المتناقضة، الغيرة والكراهية، الحب والغدر، الخيانة والشرف لتماثل بذلك الشؤم الأوديبي -أو الطاعون- الذي ينال من الزوج المنتشي بالنصر. بهذا المعنى تصبح المسرحية تجسيداً لمقولة الهزيمة والعدالة في بناء درامي يستند فيه الصراع على النهايات الحتمية ضمن علاقة النتائج بمسبباتها. فهو إذ يُحمّل نصوصه معنى أسطوري ينفي بذلك الحدود الزمانية من جهة، ويوسع من دائرة الأحداث ومكانها من جهة أخرى. إن الحب والإنتقام، والكبرياء الزائف والخذلان هو نزاع بين العوالم المتناقضة موسومة قدرياً بلعنة الآلهة على عائلة اغاممنون في سياقها الأسطوري، وكيف أن الحرب تجر ويلاتها على الجميع بالتساوي، على الغالب والمغلوب، فبتدنيس حياة الآخرين بزهو النصر، يتم أيضا تدنيس حياة وعالم المنتصر بغريزة الشهوة والغرور القاتل. كما يوضح ذلك حوار كاسندرا:
كاسندرا: ((إن القاتل يقتل نفسه والميت اقدر على القتلِ من الحي)).
ومن هنا، فقد حاول ماهود مسرحة الأسطورة، رغم الإختزال الكثيف لأغلب عناصر الأداء المسرحي كالجوقة مثلاً، معوضاً عنها بالتركيز على الغرض المتضمن في الأسطورة. وهذا المضمون هو الفعل الجوهري الذي يحدد المسار التراجيدي للمسرحية في مستوياته المتناقضة ما بين النصر والهزيمة، الخيانة والشرف، الحياة والموت. وعليه تمثل العودة إلى الأصول واستخدام النص المسرحي الكلاسيكي سواء على مستوى الشكل أو المضمون على أساس أن قبول تلك السرديات القديمة يجعل من معنى الأسطورة أكثر سيولة في دلالتها عبر إثارة التساؤل عن كيفية تشكل الحاضر من خلال رؤية الماضي؟ وما إذا كان بالإمكان إذابة ذلك المعنى القديم في تعددية معنى الحاضر بحسب مبدأ الشك والريبة؟ في إشارية المعنى بين ما هو متصوَّر وما هو موجود. وعليه تُعد الأسطورة منهلاً أساسياً في بنية قصصية تسعى إلى التأثير بفاعلية في واقع الحياة اجتماعياً وسياسياً. حيث أن الاعتماد على نصوص قديمة ما هو إلا إعادة تأويل وافتراض لحيوات أخر، فهي من جهة أولى، جديدة ومختلفة، نجد بينهما –أي النصوص- تقارباً في العموميات واستدعاءً للحكاية الأصلية دون أن تكون هي المعنى الذي يبني الكاتب قصته عليه، بينما يختلفان في سرد التفاصيل الدقيقة مما يجعل النص القديم منشطراً تتولد عنه نصوص تنمو في كل حين من جهة أخرى.
أما في مسرحية “فأس من اللازورد” وهي كما يصفها المؤلف بالمونودراما، تحكي لنا قصة امرأة مضطربة المشاعر تحاول إثارة مجموعة من الوقائع يتماهى فيها عالم الواقع بالخيال في عملية إزاحة واستبدال. فالوعي بالواقع ما هو إلا تحول في حالاتها الشعورية المتدفقة على شكل اعترافات شخصية، وصولاً إلى حالة من اللاشعور. وبذلك فإن ما يعرضه النص من أحداث تعتمد على المنطق الوجداني للشخصية بحيث نجدها تفكر بعواطفها، تعبيراً عن رغبة جسدية تحاول أن تُطهِّرَ ذاتها منها من خلال إستعارة جسد أنانا باعتباره تمثيلاً للحياة والوجود، فيصبح ماضي أنانا الجسدي، تعويضاً عن جسد الحاضر المأزوم اجتماعياً. وعليه تنفي الشخصية ذاتها الواقعية إلى ذات متخيلة، ينتج عنه إدماج روح الحاضر بجسد الماضي بطريقة ميتافيزيقية. ومن هنا ترتبط حركة الشخصية بطبيعة انفعالاتها المتلونة بألوان الشهوة والتمرد الجسدي، والوحدة والاغتراب النفسي. إن هذه الأزمة توضح في مرارتها المأساوية فعل الإنكار والتحدي الذي يضاعف انفصالها عن الواقع والحدود التي تحيط بها، مما تضطرها قساوة الحياة إلى نوع من العزلة التي يعيشها في الوقت نفسه الإنسان المعاصر، لتكون المعادل الموضوعي لذلك الإنسان الذي كانت تلاحقه لعنات الآلهة نحو مصيره المحتوم، وما تستدعيه الشخصية في حواراتها للآلهة أنانا والتطرق لعلاقتها مع ديموزي، إلا تعبيراً عن الكبت الإيروسي وفقدان القدرة على الاختيار الحر. لذلك تكون النجاة بالحيلة؛ كما فعلت أنانا بخلاصها من عقاب العالم السفلي وإبدالها بديموزي زوجها وحبيبها، إلا أنها- أي أنانا- سرعان ما تستدرك- كما في الأسطورة الأصلية- حاجتها إلى ديموزي بالاستعانة بآنكي ليعيد أليها الحلم المفقود ببيت الحياة، وهو المكان الذي كان يجمعهما معاً. نجد الشخصية في فأس اللازورد تستعين أيضاً بآنكي كي يمنحها حقها في الحياة، وأن تَتطهَّر من عذاب نفسها وتجعل عالم المتخيل بكل ما يتضمنه من رغبات يؤسس لنظام جديد بديلاً عن الواقع المأساوي المعاش. وأن يَحُلَّ الربيع الديموزي بألوانه المتعددة بدل كل الفصول الأخرى، حتى تتنظم الأحلام في اللاشعور، وتحرر النفس رغباتها المكبوتة. ومن هذا كله يتفجر صراع داخلي، يتحول عندها إلى قوة دفاعية ناتجة عن مجمل الضغوط الوهمية لراهنية الواقع. هذه المعادلة تجعل حالتها الشعورية تتخذ معانٍ متعددة كما هو حال الآلهة التي اتخذت لنفسها أسماءً وصفاتً متنوعة الدلالة والوجود. ففي الأسطورة عادة ما يستمر المعنى نفسه على الدوام، إذ عادة ما يخضع للاتفاق دون أن يحقق نوعاً من الجدل أو الاختلاف في طبيعة المعنى أو تعدده. وإنما قد ينتج الاختلاف من خلال النظر إلى هذا النوع من الأعمال بأنها مناقضة وغريبة عن الواقع المعاش، وبذلك يذوب معناها الأصلي ويتخذ مسارات متعددة في حالة عصرنة الأسطورة.
وفي مسرحية “ايشوبا” سعى الكاتب إلى أن يستثمر حدثاً طقسياً يحاول من خلاله إعادة تكوين المخيال الأسطوري وصياغة الحدث ليس بصفته التاريخية بل في شكله الأدبي، إذ يقتبس مقتضياته الدرامية من التقنيات المستخدمة في صناعة الأسطورة. فالمسرحية صدى لسرديات أسطورية وخاصة ذلك الطقس القائم على فكرة التضحية بالبشر من أجل كسب ود ورضا الآلهة. ومن هنا، أصبح النص توضيحاً لمعتقد ديني في بنية أدبية تنفتح على كل التصورات والأفعال قديمها وحديثها، حتى يندمج الشكلان معا تأسيساً لنموذج مسرحي يستلهم من الأساطير إبداع قصص جديدة مستوحاة من أساطير قديمة بشكل إبداعي يتخلق عنها قصص تعكس التحديات والقيم الحديثة. فالمؤلف يعود بنا في بعض نصوصه ومنها ايشوبا إلى فكرة كلاسيكية تعتمد على وحدة الموضوع والزمان والمكان، فضلاً عن، تقسيم النص إلى فصول يتجلى فيها بوضوح أسلوب كتابة النص الأسطوري القديم في معمارية البناء النصي المعاصر. في مسرحية ايشوبا بنية تعتمد على يقينية محددة بوجهة نظر معدة سلفاً، وهي تعرض لأحداث تُنبأ بالمتوقع في حتمية نهايتها المرتبطة ببدايات واضحة المعاني وقابلة للإدراك من خلال علاقة الملفوظ الحواري بسياق الأحداث الجارية. فالحدث فيها هو تفسير لروح الشخصية من الداخل وليس في مظهرها الخارجي، الذي دائماً ما يميل إلى التحدد في عظمة الشخصية وفعلها الدرامي المتزامن مع حوارية النص. ووفق هذا التصور يحيلنا نص ايشوبا إلى تصور جديد لراهنية الواقع المعاصر، وما هو مآل الإنسانية في ظل مفهوم كلي وشامل يتجسد فيه المصير الإنساني. ولكي يتم خلاص ايشوبا كاهنة معبد عشتار وأبنة نينابي تقرر الآلهة التضحية بكايا أبنة زابو. وبذلك يفقد الإنسان قدرته على التحكم بمجريات الأحداث ومن أختيار الجهة التي يرغب بها، حتى تحدث الأزمة بين الشخصية من ناحية، والآلهة من ناحية أخرى، ولكن عنصر التحول والاكتشاف يبدوا فاعلاً في النص الماهودي ويقلب توقعاتنا إلى جهة غير منظورة وخفية في معناها، إذ يخدعنا المؤلف بقتل ايشوبا، ومن ثم نكتشف لاحقاً إنها لا زالت على قيد الحياة، ونصبح أمام وهم المفاجأة وأن المسرحية لم تكن تسير في اتجاه الفعل المحدد مسبقاً، وإنما تسير بحركة تتغير وتتطور باستمرار ويمكن لها أن تخالف توقعاتنا وأن تتمزق نهايتها ويفقد معناها الأحادي يقينه المطلق أمام نسبية المعنى المحتمل.
أما مسرحية “ياغو صانع الأمواج” من الوهلة الأولى يُذكرنا العنوان في جزئه الثاني “صانع الأمواج” بمسرحية “صانع المطر” للمؤلف الأمريكي “غاريه كولمان”، أما “ياغو” من الجلي إن الكاتب في هذه المسرحية وما بعدها ينتقل بنا إلى مضامين تاريخية، فياغو شخصية من الأدب الإنكليزي استلهمها “وليم شكسبير” من كتاب بلوتارك بعد أن ألبسها زيها الدرامي في مسرحية “عطيل”. وبذلك يتبدى للقارئ بأنها تحتوي على أغلب الإشارات الضرورية التي تحدد تصوير ياغو بصانع المكائد. فالموج: يمثل استعارة لتلك القوة المدمرة التي تنقلب على نفسها، وعلى محيطها فتزيح كل ما يقع أمامها وتحطمه. هكذا، كانت مسرحية ماهود افتراض أنبنى على افتراض سابق من خلال شخصية ياغو، بعد أن يسرد أغلب الأحداث بواسطة تقنية الكولاج بهدف توليف المتناقضات بين مظاهر الأستبداد وبين مجمل ضلالاته التي كان يوهم الآخرين بها. في علاقة توافقية يدمج فيها ما هو حسي مع ما هو فكري، يتم من خلاله استحضار صورة ياغو الشكسبيري مطبوعة في صورة ياغو الماهودي.
على الرغم من، أن ياغو صانع الأمواج تتمحور فكرتها حول تدبره لسلسلة متعاقبة من الأحداث وفضح أدواته في التآمر والخداع والتحريض. من هذه النقطة يبرز لنا الصراع ليس كما في المسرحيات آنفة الذكر – صراع الإنسان مع الآلهة- بل في صراع الإنسان مع نفسه أو مع محيطه، تتحرك من خلاله الذات بين العقل والغريزة من جهة، وبين الأنا و الهو من جهة أخرى. ووفقاً لهذه الثنائيات المتلازمة يسعى ياغو إلى تحقيق جُل رغباته التي يطمح للوصول إليها. سواءً كانت هذه الأفعال مصدرها العقل أو الغريزة فإنها تؤسس لأفعال وسلوكيات تهدف في نهاية الأمر إلى التشبث بالحياة. غير أن الإلتزام بأي طرف من هذه الثنائية يرتبط بشدة ببنية الفعل الدرامي وسير الأحداث، كما هو حال ياغو في اعتماده على غريزة البقاء لفرض وجهة نظره تماهياً مع المفهوم النيتشوي “الوجود بالقوة”. لكن هذه الفكرة تحولت إلى إرادة عمياء تتجه نحو الحياة بشكل لا واعي لإعادة صياغة مضامينها، استناداً على الشهوات والأهواء والرغبات غير المشروعة لتكتسب فيما بعد مصداقيتها وحضورها الطاغي على سلوك الشخصية ودوافعها، محيداً بذلك العقل لصالح فاعلية تأثير الغريزة في تحقيق مقاصده وغاياته الخاصة.
هذا الامتثال للغرائز يجعل الشخصية عرضة لحالات اليأس والغضب، وعليه يبدأ ياغو قوله منفعلاً: (ركام هنا وخراب هناك) عبارة تسرد الأحداث من خلال التداعي الذي يصف المواقف والكيفيات إيحاءً بالمصير الذي أنتهى إليه ياغو، في سياق لغوي واضح الإشارات ومحدد المعاني بأسلوب فني يؤكد على استاتيكية ياغو؛ بمعنى أن المؤلف ماهود لجأ إلى الإلتفاف على ياغو الشكسبيري من أجل إعادة صياغة ما رسخ في الوعي والذاكرة، ولفت النظر إلى واقعة جرمية معروفة الأسباب، بل أن مأساة هذه الشخصية تكمن في إدراكها لحقيقة أفعالها، خاصة وان ياغو شكسبير يصف نفسه بأبشع العبارات بأنه “حقير خوان دنيء” يغلب مصالحه على الشرف والمبادئ. فإذا كان ياغو شكسبير متستراً متخفياً وقابعاً داخل جميع الشخصيات على اعتبار أن الشر كامن حتى في الخير والعكس صحيح، فمن هذه المشاعر المتوازنة والمتناقضة في الوقت نفسه، يكشف نص ماهود ياغو صانع الأمواج عن كل الأقنعة التي كان يتخفى وراءها ياغو. وهذا واضح من العنوان ياغو صانع الأمواج، حيث الأمواج تتسم بهذه الثنائية المتداخلة بين لطافة وجمالية حركات الموج اللطيفة، والوجه الآخر من الموج المهلك والمدمر، مثلما يمارس الموج فعل التشويه والخراب ويدنس جمال الطبيعة كذلك ياغو، في صورة يتقابل فيها الموت مع الحياة كنتيجة حتمية لدناءة ياغو وجشعه. كما أن الأمواج لا يحدها شيء كذلك ياغو لا يمنعه قانون أو سلطة ما. مثلما كان ينسج المؤامرات خفيةً، في صانع الأمواج أيضاً يعزل نفسه بعيداً عن أنظار الجميع. وبهذا فأنه دلالة على الانتقال من مرحلة السلطة والنفوذ إلى البحر بأمواجه العاتية. في إحالة إلى الانهيار والزوال الذي وصل إليه ياغو من ضياع النفس، وكيف استطاع أن يوهم الجميع بإنحراف أخلاق الطرف الآخر من خلال الحوار المشوه والمُبدل للحقيقة. وما البحر في علو أمواجه وهيجانه المرعب والمتكسر إلا إشارة لذلك التحطم، فيصبح الموج شكل من أشكال العاطفة الجامحة والمنبعثة عن إرادة حالمة بالملك والاستحواذ.
إن الموج الهادر الذي عكَّر سكون البحر وصفائه وهدوئه يمكن أن يكون إشارة إلى علاقة عطيل بدزدمونة- تلك الأمواج التي ما أن تصل إلى ذلك العلو الشاهق حتى تنهار ساقطة، ومن ثم يتلاشى تأثيرها وينكشف آثرها وينجلي الغموض ويتغير إيقاعها من عاطفة الحب في نقائه ووضوحه إلى مأساة الفناء والمنفى في قبو العاطفة المظلم “حيث ظلام النفس أكثر حلكة من ظلمة الخارج”، وهو ما يعطي إحساس عميق بالمتناقضات التي يتأسس عليها الفعل الدرامي. مثال ذلك، قوله أي ياغو: ((أنا عالم ينظر إلى عالم)) يميز بين عالمين مختلفين متناقضيَّ الدلالة على اختلاف القيم الأخلاقية والجنس والعرق بينه وبين عطيل من جهة، وبين دزدمونة وعطيل من جهة أخرى. يتحقق ذلك من خلال فعل يخفي أكثر مما يظهر من النوايا والغايات. وفي هذا تَشاكُل للنص الماهودي مع الإغريقي في أن ما يفعله ياغو هو ذات الفعل الناتج عن قدرية مواربة لا تكشف عن نفسها إلا في لحظة المصير المحتوم. على الرغم من أن نص ياغو صانع الأمواج في أغلب الأحيان متطابق مع توقعات القارئ الذي كثيراً ما يتنبأ بأفعال وحوارات الشخصية المعبرة عن عدم توازن واستقرار ياغو، بالإضافة إلى تواصل المعاني ذاتها التي طرحها ياغو شكسبير، وتأكيد على عرض تلك اللحظات الدرامية بتتابع أفعاله في التآمر والغيرة والحقد. في تقديم الملفوظ الحواري على الفعل حتى أن القارئ يتلمس في أحد خطاباته رؤيا تصورية تتغذى من خيالات خنجر مكبث، كذلك ياغو توهم أن سيفا يمتد نحوه من البحر إلى صدره وما كان ذلك إلا أشعة الشمس المنعكسة على الماء، في صورة شعرية تدل على أنه بدأ يستشعر الموت حتى في أشعة الشمس المشرقة بالحياة.
ومن صانع الأمواج “إلى ظل الله” حيث يتنوع الخطاب وتتداخل الأفكار، إذ يوجد مستويان للحوار حوار يتناول المقدس وإسقاطه على الواقع وآخر يَّعدُ كل ما يحصل على أرض الواقع هو ناتج عن ذلك المقدَّس المهيمن، في محاولة لإجترار الماضي في عملية مركبة تتضمن السرد الديني وكيف يقتحم علينا عالم الواقع المعاش، بالإضافة إلى السرد القصصي حيث يتم دمج الدلالات لمضمونين يتعارضان في بنيتهما الفكرية ومرجعياتهما التاريخية، ما بين عرض فكرة الانتخابات المسكونة بدعم نصوص دينية، وبين اعتبار النص الديني موجهاً، فارضاً شروطه على الجميع. وعليه يمدُّ المعتقد الديني الإنسانية بفكر شمولي متكامل. وما ذلك إلا محاولة لأسطرة الواقع من خلال الاستمرارية والتماثل التاريخي بين الشعوب ومعتقداتها الدينية، بصرف النظر عن الزمان والمكان. وفي هذا السياق تتعقد الحبكة في النص لأنه لا يتخذ مضموناً فكرياً واحداً يتم فيه عرض لمشكلة ما تتطور وتنمو وصولاً إلى العقدة ومن ثم الحل، حيث تروي المسرحية موضوع الانتخابات والسعي إلى إقناع البسطاء من الناس والتأثير على خياراتهم عبر الدين، مع فرض الجهة التي يمنحونها أصواتهم، والتي ستعود عليهم بالخير والشفاعة والأمان، واطلاق أحكام قيمية وأخلاقية من خلال استدعاء نصوص دينية محددة. ويتم ذلك بأسلوب مسرح داخل مسرح حيث تحل فكرة الإيمان بالوحي والنص المقدَّس مكان حرية الفرد بالاختيار. وبذلك تتناوب فكرة الاختيار الانتخابي مع فكرة العجز واليأس. ينتج عنها تحول من حرية الاختيار إلى هيمنة متعالية تمثل العلاقة القسرية بين الحاكم والمحكوم والتمركز حول مركز متعال سواء كان يمثل سلطة رجل الدين أو النظام السياسي الذي يرفض بدوره وباسم الديمقراطية أي مقاومة لتكون هذه السلطة هي نموذج لسلطة مطلقة تتجلى فيها علاقة السيد بالعبد بالمفهوم الهيغيلي وعليه تصبح الديمقراطية حالة لا تحفل بالاختلافات بين الأفراد والميول والرغبات بل تسير في اتجاه واحد منغلق على ذاته ومكتف به.
لقد استطاع المؤلف عبد الحسين ماهود من خلال توظيف الأسطورة أن يضيف إلى ما تم تخيله سابقاً والذي إجتمعت على صياغته تخيلات متعددة ليأتي تخيل ماهود من ضمن هذه المتخيلات رغم الفاصل الزمني بينهما. فمثل ما يضيف إلى الأسطورة فإنها بالمقابل تضيف له إضافتها الخاصة فيتداخل ماضي الأسطورة بحاضر المؤلف. إن العودة إلى الوراء والسعي إلى أن يكون الماضي محركا للحاضر ومحفزاً للإنسان في معرفة راهنية الواقع ومستشرفاً لأفاق جديدة مستقبلاً، حينها يكون الإنسان مكملاً للأحداث لا صانعاً لها إذ تلعب فيها الآلهة وأنصاف الآلهة الدور الرئيس وهي من توجه الأحداث نحو نهايتها المنشودة.
وفي هذا السياق، يبدو أن اختيار المتلقي لواقعه العقلاني من خلال ما هو أسطوري وغير واقعي، فيؤثر ما هو ثابت/ أسطوري بما هو متحول/ واقعي، ومن ثم يحرره من مشاعر الخوف والشفقة. وفي الوقت نفسه، إن كل من شخصية البطل والجمهور الذي يتعاطف ويتوحد معه في إبقاء الشكل المسرحي مغلقاً سواءً العرض أو واقع المتلقي نتيجة محاولة المتلقي من استعادة التجربة أو تبادل المواقع التي يضع فيها نفسه في ظروف مشابهة لما تمر به شخصية بطل المسرحية، كما في علاقة المتلقي بأوديب مثلاً.