اعتدنا لسنوات طويلة أن نكرر الحديث في المسرح العربي عامة و المسرح الخليحي على وجه الخصوص عن مفهوم “الأصالة والمعاصرة”، وهو مفهوم، فضلا عن إنه مستنسخ من حوليات المسرح العربي في نشأته الأولى، مفهوم متأرجح فضفاض إذا ما ارتبطت به القيم الفكرية والفنية، وعادة ما يقود إلى التباسات ما أنزل الله بها من سلطان، ما بين أقصى ميل للأصالة يعلي من شأن بيوت السعف والطين وكأنها جنة الله في الأرض، وأقصى ميل إلى المعاصرة بشقها المدني حيث تتمحور حول ذاتها في عمائر الأسمنت والزجاج، على أن بين هذا الميل وذاك درجات عدة أو فنقل منازل عدة ومنحنيات وتداخلات يصعب الإلمام بها كافة في مداخلة قصيرة ومحدودة، لذا سيتم الاتكاء على محورين أساسيين في هذا السياق وسيتم الحديث في كلا المحورين عن منطلقات القيم الفكرية وترجمتها الفنية الجمالية من واقع نماذج مما قدم من عروض مسرحية في المسرح في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
المحــور الأول: الهويــة الثقافية والتـراث
سيتم التركيز فيه على اشتغال المسرح الخليجي على “الهوية الثقافية والتراث”، وهي سمة مهمة من سمات الأصالة، كما أريد لها أن تكون في المسرح الخليجي، فعادة ما تختزل الأصالة بالهوية والتراث في إيماءة بينة إلى هيمنة صور وحيثيات الماضي عليها، وأن كنت أرى أن الأصالة مشتقة من أصل أي الأساس أو الجوهر والجوهر هو آني بكب معنى الكلمة، وعموما إن المصطلحات الثلاثة ما هي إلا مصطلحات تقريبية إن لم نقل جدلية قابلة للأحذ والرد.
فالأصالة لا يمكن النظر لها إلا أن تكون من صميم حياة الناس والمجتمع ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا أيضا، والأصالة كل ما يتدفق من وجدان الناس ليلهب الحماس والمشاعر، أما الهوية فهي أيضا مصطلح متوه، فمن يحدد هويتي أنا أم الآخر أم النخبة أم المجتمع الكلي؟ وما هي مكونات هذه الهوية؟.
في ظل مؤسسات رسمية خليجية قدمت بعض الدعم للمسرح بنسب متفاوتة بين دولة وأخرى، لا شك أن المسرح في الخليج العربي قد خطى خطوات بارزة في سياق تحقيق الهوية الثقافية والتراث بمفهومه التقليدي، إلا أنه يحق لنا أن نتساءل هل يمكن اختزال إشكاليات المسرح في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في تحقيق الهوية والتراث؟ هنالك من يعتبرنا أسرفنا حتى المبالغة في ذلك لدرجة أن ما يأتي الحديث عن المسرح الخليجي حتى تتوالى على الذهن صور نمطية للصحراء والجمال والنخيل، هل يمكننا القول إننا بالهوية المقننة مكنا المسرح الخليجي من التحرر من شرنقة اشكالياته المتأصلة؟ أم أن تلك الأبواب المشرعة على الماضي ظلت مواربة وجلة تحوم حول فعل مسرحي غير مكتمل وجمهور يستعصى على التحديد والاستقصاء.
من الصعب القول إن الفعل المسرحي قد تأصل في وجدان المواطن الخليجي في ظل المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة، في تقديرنا أنه لا يمكن أن يكتمل فعل مسرحي إبداعي دون مرجعية فكرية حاضرة أو فلسفة برجماتية عميقة؟
فمن الباحثين العرب من يشير إلى أن علة تأخر ظهور المسرح العربي إلى طبيعة حياة المجتمعات العربية التي تتسم بالبدواة والتنقل المستمر بحثا عن الماء والكلأ، ومنهم يرجع ذلك لأسباب عقائدية تتمثل بتحريم التجسيد عند البعض، وتحريم ظهور المرأة ومخالطتها للرجال في التقاليد العربية، وقد تكون هنالك أسباب أخرى لا يتسع المقام لسردها كافة، وإذا كانت هذه الأسباب والأسباب الأخرى وقفت حائلا دون تقدم التمثيل المسرحي في بعض الدول العربية مرة، فهي تتضاعف عشرات المرات في دول الخليج العربية، بل ويمكن الحديث هنا عن الأسباب الأخرى بتفصيل لاحد له، لعل أبرزها ذلك الانفصام الذي مازال متغلغلا في الشخصية الخليجية ما بين عصر ماضوي تليد شبه مقدس في معطياته وتقاليده، وبين عصر آني ومستقبلي بكل مفرداته الغربية المهيمنة، في حالة قطيعة بينة فشلت، في تقديري، كل محاولات التوفيق بينهما، تلك القطيعة وذلك الانفصام ركب الفعل المسرحي وأمسك بكل تلابيبه.
نعم كان يمكن لمثل هذا الصراع أن يكون مصدرا ملهما لدراما مسرحية خليجية خصبة لولا كوابح المحظور والممنوع والمتفق على وأده من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه، مما جعل الفنان المسرحي الخليجي يحوم حول الهوامش من الماضي ويغض الطرف عن الجوهر والحاضر، فجاء الفعل المسرحي رديفا معبرا عن ذلك الموقف يستأسد على المهدر من المواضيع ويخنع عندما يكون في الخنوع سلامة. أما في مفردة “المعاصرة” فالحديث يطول أيضا ويتشعب، فمن فلت من أسمال الماضي من كتاب المسرح وفنانيه فقد وقع أسيرا لحاضر ظاهرة باه زاه وباطنه أجوف أليم في معلمه ومخبره.
لست من المناهضين للمسرح الترفيهي الكوميدي، ولست من متبني نظرية “المؤامرة” وإن كنت لا أستبعدها في بعض مجريات حياتنا المعاصرة، واضم صوتي إلى صوت من يقول إن شكل الاستعمار الجديد تمثل في هيمنة الثقافة الغربية على كافة مناح حياتنا اليومية، ومن خلال أبرز عناوينها “العولمة”.
كان التسويق للعولمة هو أنها استنهاض لكافة الثقافات المحلية لبناء هرم عظيم لثقافة عالمية تستوعب الجميع وتنصف الجميع، فإذا بها ثقافة جبرية تعظم شأن مصالح الغرب المنتصر وتمسخ ثقافات الدول النامية.
حتى لا نتشعب في الحديث هنا بعيدا عن المسرح، نود أن نركز القول عن ثقافة الاستهلاك وهي داء مستشر فنيا، المواطن في دول الخليج يحصل في الغالب على دخل من أعلى المداخيل في العالم، ومع ذلك يغرق في القروض والديون والمصاريف التي لا سقف لها ليفي متطلبات الماركات والمطاعم الباهظة والمقاهي والسفر وتغير السيارات الموبيلات الدوري، إلا من عصم ربي وهم قليلون، وما يهم هنا الفنان المسرحي، ترى ما وضع الفنان المسرحي من ذي الدخل المحدود الذي يتحتم عليه أن يجري لاهثا هنا وهناك من أجل مكسب مادي يحقق له العيش بكرامة اجتماعية حتى ولو كانت زائفة؟ هل يستطيع أن ينتج؟ هل يستطيع الرجوع إلى مرجعية فكرية أو فلسفية غير سطحية قائمة على الإسراف والتبذير والاستهلاك؟ هل يستطيع أن يجد في البحث عن الهوية الثقافية والتراث؟
وإذا كنا نشير إلى التأثير السلبي للنظرة الماضوية، واجحاف العولمة في حق ثقافتنا العربية، فإننا نذكر ذلك من باب الظواهر التي يراد الانتباه لها والعمل على تلاشيها، وفي كل الأحوال هذه الشذرات لا تنفي أبدا وجود عروض مسرحية خليجية عالية المكانة على المستوى الفكري والفني وحققت مراكز عالية في العديد من المهرجانات العربية، ويجدر هنا إلى التنويه بذلك.
المحــور الثانــي: عن ” الحداثــة والتجريب”
التحدي الآخر المهم الذي يواجه المسرح الخليجي اليوم هو الولوج إلى مساحات الحداثة والتجريب، والمراد هنا “الحداثة في الفن والتجريب في العمل المسرحي الإبداعي، وهو تطلع ما زال المسرحيون الخليجيون يسعون إليه سعيا مضنيا ليلحقوا بالركب وليقفوا على قدم سواء مع الآخر المسرحي العربي أو العالمي. إن الحداثة بإطلاقها والتجريب على وجه التحديد في المسرح العالمي جاء كسياق طبيعي لتطور الحراك المسرحي هناك في العالم الغربي بخاصة، ذلك الحراك الذي استهلك الأطر المسرحية التقليدية حتى الثمالة فزهد فيها الفنان والمجتمع في آن واحد، وصاروا يبحثون عن التجديد والتطوير والتجريب والخروج على كل ما هو مألوف ومدرك وسائد ومستهلك.
والفضل يرجع لاهله، ففي تقديري ما كان لنا في المسرح الخليجي أن نعرف التجريب وأن نطلع على مفاهيمه لولا مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي منذ أن تأسس في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كان المهرجان حافزا محركا للاطلاع على مفهوم التجريب ومحاولة مجاراته في صناعة العروض المسرحية المحلية باعتباره وجه المسرح الحديث وبدافع الرغبة الملحة في المشاركة فيه، فالمشاركة فيه بوجه أو آخر هو شهادة اعتراف بالحداثة والتقدم المسرحي!!!.
ولكن المفارقة التي حدثت في المسرح الخليجي أنه كان، وبرأي البعض مازال، يعيش مرحلة التأسيس، ومرحلة عبور الفنانين المسرحيين بأحلامهم ورؤياهم إلى أحضان المجتمع بل إلى بعض النخب من المجتمع، فكيف يمكن الموائمة ما بين التأسيس والتجريب؟
ظل المسرحيون الخليجيون، في تقديري، يلوون عنق الحقيقة باقتباس مفردات من بعض ما يرون في العروض التجريبية هنا أو هناك حتى وإن بدت هذه المفردات هجينة كزرع في غير أرضه، مفردات يكتنفها الغموض واللبس والمتاهات تقحم اقحاما مربكا على عروض في طبيعتها دراما واقعية أو تقليدية حتى النخاع ليتم تسويقها بعد ذلك على أنها عروض تجريبية، كمن يبيع الماء في حارة السقائين على حد تعبير المثل المصري المعروف، ظل المسرحيون الخليجيون لسنوات طويلة يحضرون مهرجان المسرح التجريبي كضيوف شرف يرحلوا بمثل ما أتوا به من حضور حيادي، حتى نضجت الخبرة والكفاءة لدى بعضهم فسبروا التجريب المسرحي وتصدوا له بصدور مفتوحة، فكان فوز الفنان المخرج المتألق عبد الله السعداوي بجائزة أحسن مخرج عالمي في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي لعام 1994 بمسرحية “الكمامة” قد قلب الموازين رأسا على عقب فوضع المسرح الخليجي في صدارة المشهد المسرحي وصار الجميع ييمم النظر شطره، رحم الله مخرجنا واستاذنا الفنان عبد الله السعداوي.
كان فوز السعداوي ايذانا بدخول المسرح الخليجي طورا جديدا حقيقيا في مجال التجريب، وصار السعداوي مثلا يحتذى به وطموحا لدى المسرحيين في نيل ما ناله من المكانة والتكريم، السؤال المهم كم سعداوي حقيقي لدينا في الخليج؟ وهل عرض السعداوي الذي فاز به كأفضل مخرج كان له حاضنة جماهيرية واسعة في بلده البحرين، هل ما زال الناس يتحدثون عن هذا العرض المسرحي باستيعاب ميزاته الفنية لا بالجائزة التي فاز بها؟ أسئلة مشروعة؟ قرأت مؤخرا أن مسرحية “الكمامة” يعاد عرضها هذا العام 2024 احتفالا بذكرى الراحل الفنان عبد الله السعداوي.
الفن المسرحي إذا ما جنح نحو التجريب يغدو واحدا من أصعب الفنون وأكثرها تحديا، ونكبر بالفنانين الخليجين في هذا السياق استحضارهم لروح عصرهم ويومهم الراهن ببعض ما يكتنفه من تحديات وارهاصات، ورغم تاكيدنا على أهمية الاطلاع على كل الإرث المسرحي والمعرفي منذ فجر التاريخ حتى اليوم، إلا أننا نحمد لهم أنهم تحرروا من التقاليد الأرسطية التي وضعت قبل ما يربوا على الألفين سنة، بل وتحرروا أيضا من الالتزام الحرفي بالمناهج والمذاهب المسرحية الحديثة خلال القرن الأخير، فتلك المعرفة قد تكون مفيدة وفاعلة في نطاق التأطير النقدي أو التأطير الأكاديمي، ولكنها معرقلة ان لم تكن معيقة فياعتلاء صهوة الإبداع على ظهر جواد جامح يرنو نحو الأفق البعيد، في البحث عن مساحة متفردة ترسم خطوطها بعرقهم وهمومهم.
فطبيعة الفنون، ومنها بالتأكيد الفن المسرحي التجريبي، هي الخروج عن النسق بمنهجية اللامنهجية، والتمرد على القوالب والأطر الجاهزة لأو المتفق عليها بوعي ولا وعي، بل والبحث عن المدهش والصادم والمحيير، والاتكاء على رؤية موغلة في الحلم والأسطورة السرمدية، حتى ينفلت الفنان من حصار الحلقة المفرغة لصالح أفق التغيير والتجديد الذي ينبعث من الجوهر كمرتكز أساس لا مندوحة عنه، بعيدا عن الجوهر يضحى التلاشي سياق يتوارى في صور نمطية تفتقد إلى الحراك الساري، والمسرح، مرة أخرى، حراك حتى الاشتغال.
وأرى أن بعض العروض المسرحية الخليجية التمست تلك المسارات عن سبق تصميم وإرادة.
عدد غير قليل من العروض المسرحية الخليجية تسعى اليوم إلى تحقيق الإبهار البصري، واستخدام كل مفردات السينوغرافيا المسرحية في تحقيق رؤية بصرية لافتة يمكن الثناء عليها، ولكن هل هذا الإبهار البصري وهذه السينوغرافيا خدمت عروضهم؟ شرط جوهري يجدر التوقف عنده، فشرط أساسي من شروط السينوغرافيا الجيدة هي أنها تخدم أهداف العرض المسرحي بفاعلية قصوى، فالسينوغرافيا لا تعني الفخامة أو الزخرفة الجمالية التي لا تتسق وأطروحات العرض المسرحي، بل قد تكون عبئا ثقيلا عليه وتأتي بننتائج عكسية تماما. هذا ما وجب التنويه به في ختام مداخلتي متمنيا للمسرح الخليجي كل التوفيق والنجاج.
************************
* ملاحــظــة: هذا بحث د. عبد الكريم جواد الذي قدمه في الجلســة الأولى من اليوم الأول التي ناقشت موضوع “القيم الفكرية والفنية في المسرح في دول مجلس التعاون” بالندوة الفكرية: «البنية الأساسية للمسرح في دول مجلس التعاون الخليجي» ضمن فعاليات الدورة 14 لمهرجان المسرح الخليجي التي احتضنها مدينة الرياض (10 ـ 17 سبتمبر 2024) ، وذلك يوم الخميس 12 سبتمبر 2024، بقاعة المؤتمرات (بإقامة المهرجان).