هذه المسرحية تحكي قصة الملكة الاشورية سميراميس وهي مونودراما تجمع متضادات ومتناقضات عدة لسيرة هذه المراة في فضاء النص المسرحي الذي قدمه الكاتب المسرحي والشاعر العراقي (خزعل الماجدي) وسط تداخلات سردية واسطورية وشعرية وسيرية. تختلط هذه الشخصية المسرحية ما بين عوالمها الواقعية لسيرة ملكة اشورية سجلت حضوراً في التاريخ العربي وما بين المتخيل الاسطوري وكم الاساطير التي نسجت عن هذه المراة.
المشهد الاول تعريفي بنفسها:
“امي من اين انت
لماذا تركتيني ورحلت
ام من اجل نساج جميل عابر وقعت في حبه فاعاب عليك الجميع انك انحدرت الى مستوى العامة”(i)
يتبين ان امها عاشرت نساجاً وانتحرت فتكون هي ابنة نصف سماوية ونصف ارضية. اما المشهد الثاني صراع بين حبها لبابل وتمسكها بالسلطة والعرش باشور. والمشهد الثالث (مشهد يتحدث عن كشف سرها بانه كانت تقاتل مع زوجها كضابط من قبل الملك الذي يغتصبها من زوجها ويتحدث المشهد عن قتلها للملك وانتزاعها العرش منه). والمشهد الرابع مشهد تربعها على العرش وقتلها المتآمرين من الضباط والامراء ليلا بعد ان توقعهم بغرامها. اما المشهد الخامس فانها تشبه نفسها بالإسكندر المقدوني. اما المشهد السادس تتحدث هنا عن محاولة انتزاع العرش من قبل ولدها منها فتقوم باغواء كل المتآمرين معه وتقتلهم.
مستويات التداخل : المستوى السردي :
اول ملمح يمكن التقاطه في مسرحية خزعل الماجدي هو انه يقسم المشاهد كعناوين فرعية مثلما يفعل الروائيين مثلا (محنة سميراميس) وكذا يضع مقتبسات من المسرحية تحت العناوين الفرعية وهي تقنية تجتمع بها الرواية وقصائد النثر المعاصرة كذلك .
كما في الاتي :
المشهد الاول
محبوبة الحمام
كتب علي ان اخوض في الغبار ولا انال سواه
وفي المشهد الثاني
(حرير بابل وحديد اشور)
كان الطين ينهمر من قبة بكائي)”(ii)
وحينما تتحدث سميراميس عن نفسها فهي تصف نفسها بطريقة سردية حول ظروف رعايتها من قبل اشور وانتقالها للعرش بعد ذلك عبر الاطاحة بالملك زوجها الثاني فتقول”رعاني اشور بقوسه وسهمه وشعلة ناره وفتح لي افاق البلدان فجندلت الملوك تحت يدي واخضعت الامراء لهواي وقطفت زهرة نصري بسيفه واحتضنتني زوجته عشتار فكانت حاضنتي ورايتي كنت اتسلح بمنديلها في ذراعي”(iii) وبطريقة سردية تكشف عن فضح امرها بوصفها محارب في جيش زوجها اوناس وخطفها من قبل الملك الذي اغرم بجمالها وبشخصيتها القوية والذكية: “حتى جاء اليوم الحاسم حين انتشر لغزي بين الناس دون ان يعرفوا من اكون كنت احارب مع زوجي اوناس ملثمة واحرز اكبر الانتصارات وحين سال الملك عن هذا الضابط الباسل الذي يكبل الاعداء اكبر الخسائر اضطر زوجي الى البوح بسري له فاندهش الملك وخر صريعا في هواي..صعقته اولا اسطورة شجاعتي ثم صعقته اسطورة جمالي ولم يتمالك نفسه”(iv) وهذا ما جعلها تطمح بالاطاحة بالملك وسرقة عرشه منه، وهو ما دفعها لان تكون اشبه بغانية تطمح للحصول على الكرسي بتلميع نفسها، والسرد حاضر في هذا المشهد فهي تقول “لقد اغتصبني الملك حين انتزعني من زوجي وتركه وحيدا نهب لياليه المظلمة حتى سمل عيونه ثم انتحر،وضعني الملك في سريره وتزوجني ليرضي غرورة في الانتصار على امراة قوية وجميلة. هكذا هم الرجال لكني اسلست له القيادة لكي اصل الى هذا (تمسك التاج بيدها) رايتها فرصة ان ابدا طريقي الى العرش ترجلت من فرسي وملأت وجهي اصباغا وصرت اشبه بغانية لاليق به وكان كرسي الملك يلمع بعيدا ويغشي ناظري”(v)
المستوى السيري:
يتحدث المؤلف خزعل الماجدي في بداية المسرحية عن شخصية سميراميس التي هي “ملكة سمو- رامات) والتي اصبحت زوجة للملك شمشي ادد الخامس ثم تولت الوصاية على ابنها الصغير ادد ينراري وقد عاشت في القرن التاسع قبل الميلاد وكانت في الاصل اميرة بابلية ذكرتها المصادر الكلاسيكية تحت اسم (سميراميس) وقد امتزجت شخصيتها التاريخية بمجموعة كبيرة من الاساطير الجميلة بدءاً من ولادتها ومرورا بتوليها العرش وحتى نهايتها”(vi) كما ان الماجدي لمح في مقدمة المسرحية بانه التقط خلال سيرتها جملة متناقضات دعته لكتابة المسرحية بهذه الهيئة .وكان المؤلف قد اعتمد نفس صفات الشخصية من الذكاء ومشاركتها بالمعارك وطريقة اختطافها من قبل الملك من زوجها وكونها اضحت ملكة بعد موت الملك.
المستوى الاسطوري:
نظرا لاختلاف المؤرخين والكتاب والمنظرين بشخصيتها ، فمنهم من اكد على واقعيتها وثمة من اشار الى انها شخصية اسطورية عبر كم الخرافات التي وردت بحقها في الروايات حول شخصيتها فان الماجدي قد اعتمد هذا البعد الاسطوري في شخصيتها ولم ينفهِ تماما فهو يقول”ولعل اشهر اسطورة نسجت حول ولادتها تقول بانها ابنة الالهة السمكة دركيتو التي تركتها قرب بحيرة لاسراب الحمام التي رعتها واطعمتها ثم زواجها من قائد اشوري ثم بطولاتها في اسقاط مدينة باكترا المحاصرة من قبل الاشوريين واعجاب الملك الاشوري بها وزواجه منها.وهناك اساطير خيالية واسعة عن توليها الملك وسيطرتها على دول الشرق والغرب من مصر والحبشة وحتى الهند وحروبها التي تذكرنا بحروب الاسكندر المقدوني الذي جاء بعدها بخمسة قرون وكانه يقلدها في الفتوحات …واخيرا تلك الاسطورة الرائعة التي تحولها الى حمامة وطيرانها وهي في عز قوتها بعد ان اكتشفت مؤامرة ابنها للسيطرة على مملكتها “(vii)
كما يرد مقطع اخر يؤكد حقيقتها الاسطورية، وهذا لا يعني التناول عن شخصيتها الواقعية كملكة اشورية لها بعدها التاريخي وانما يضاف لعملية التداخل التي احدثها الماجدي في هذا الموزائيك لشخصية سميراميس فيرد المقطع الاتي :
“هكذا وضعتني الاقدار بين طفولة وصبا في بابل وشباب وكهولة في اشور، احببت ابراج بابل وحدائقها واهلها وتولعت بمجدها وتراثها وادبها. كانت بابل لي بمثابة المشيمة التي علقت بها والثدي الذي رضعت منه فهي الحقيقة بعد ان غابت امي الاولى (دركيتو) في المياه وحين وجدني الرعاة على احد انهارها كانت طيور الحمام قد صنعت لي عشا واطعمتني الجبن والخبر بمناقيرها كيف انسى نعمة اهل بابل حين تبناني حاكمها سمياوس الذي اسماني سميراميس والذي يعني حبيبة الحمام كيف انسى رعايته ولطفه لقد اختصني كابنة له وعلمني كل شيء”(viii)
يتداخل في المقطع اعلاه ما هو سردي واسطوري ومقالي، السردي بحكيها عن كيفية ولادتها الاولى، والاسطوري بالشخصيات التي اشارت لها سمياوس ودركيتو والمقالي بتعريفها لاسمها سميراميس والذي يعني حبيبة الحمام. وتردف سميراميس في النص المسرحي تعريفا لنفسها قائلة: “فمن انا الان ؟ابنة الهة عاشرت بشرا نساجا وانتحرت هذه هي اصولي ،أبنة سماوية مدللة من جهة لكنني انسانة من لحم ودم فاي عذاب هذا؟”(ix) وهذا ما يدلل على حريتها بين نصفها السماوي الذي يربطها بالاساطير والنصف الارضي الذي يجعلها تنسحب للعالم الارضي الواقعي وكل هذا بسبب امها الالهة التي عاشرت انسانا نساجاً فانجبت من خلاله سميراميس وجعل امها تهرب من شدة ما لحقها من عار الاختلاء بالانسان والانجاب منه.كما تم خلال المسرحية ذكر شخصيات بهيئة اسطورية كاشور ومردوخ وانليل يدلل على معالم اسطورية نحتت النص المسرحي.
المستوى الشعري :
ان النص الشعري في هذه المسرحية يتميز بالعمق والمغايرة والتكثيف والتنوع وهذا ما يجعل المتلقي يتفاعل ويندهش له نظرا لاتساع دلالاته التي تفسح المجال امام تأويلات التلقي، فاللغة دائما ما تتمتع بالثراء والتداخل الذي يتيح اضافة مسحة جمالية للنص. ومثلما حضرت المستويات الاخرى فان المناجاة بالنصوص الشعرية كانت هي حاضرة في النص ، فتقول سميراميس:
“بكى هذا الحائط القديم حتى غسلني بدموعه من هامتي الى قدمي
ولم اعد اعرف دموعي من دموعه
ها انذا بين الابهة الزائفة
التي لا اراها سوى حطاما
وها هو قلبي يحن الى ذلك الماء الذي احتضنته حنينا فيه
هناك حيث توارت امي وغابت في النهار الى الابد
ووضعتني على ضفته
لماذا هذا اليتم؟”(x) البطلة هنا تتحدث عن ولادتها من ام حورية بلغة شعرية نابعة من خطاب الذات لسميراميس التي تطلق مناجاة ذاتية في المقطع اعلاه. وثمة مقطع اشبه ما يكون بالنصوص الشعرية القصيرة او ما تسمى قصائد الومضة او الهايكو الياباني ، فالمؤلف يقول على لسان البطلة سميراميس:
“رميت على الارض نردا من الجمر
وكان هواي يلتهب بداخلي
لم يعد لي زوج فقررت ان اكون عاشقة”(xi)
ويستمر ظهور الشعر عبر الحوارات المونودرامية للبطلة في النص اذا تقول :
“كلنا نتدحرج في مرايا
المرايا ..المرايا هي الموجودة اما نحن فاطياف ننعكس فيها
هنا وهناك ولا ندري
مر هذا الزمان رفيعا كما الخيط في هامتي وطواني
كان ماء المراة يسيح على وجوهنا
وهناك في اللهب المقدس نمسك شهواتنا ونستدير
هذه الذكرة الاليمة للموت في اجسادنا
هذه الايام العريضة مثل ثوب فضفاض
نصعد السلالم او نهبطها ..لا فرق”(xii)
وتتابع سميراميس:
“انا التي اقطر ضوءا في العين
انا التي اعلو جواد القمة
النار بعض صورتي
والبدر شالي والنجوم العمة
ميزان قلبي ها هنا في الكفين
انزل فيه من اشأ للظلمة
او ارفع الذي اريد للعين
اقول ما تقوله الشمس : انا من ضدين”(xiii)
يلاحظ ايقاع (النون) في المقطع اعلاه وهو مقطع شعري بامتياز ، والماجدي شاعر مقتدر له عدة دواوين شعرية وعرف عنه شاعر قبل ان يكون كاتبا مسرحيا وهذا ما جعله يرسم لنا ايقاعات شعرية بلغة تتمثل فيها الصورة الشعرية والبلاغة في انتقاء المفردة المحببة على ذهن المتلقي والتي تتسق وسياقات النص الشعري.
المستوى المقالي:
ورد المستوى المقالي على نحو اقل بكثير من السرد والشعر، اذ جاء باطار لغة مقالية تعريفية فيقول المؤلف على لسان بطلته:
“كان اسمي (سيما) أي الروح او الحمامة وكان اسم المراة الدفينة في الاسكندر (سيما) …اسم قبري الاسكندر المقدوني في الاسكندرية (سيما) و(سوما) وانا كنت (سيما) اما (سوما) فكان اسم اخي البحر الذي يعني الجسد “(xiv).
اما في نهاية المسرحية يرد على لسان سميراميس: حتى انت يا ولدي؟ وكأنها استعارة لمقولة يولويوس قيصر حتى انت يا بروتس. في مسرحية شكسبير يوليوس قيصر فان هدف ابنها وبروتس هو نفسه الخيانة من اجل الملك والعرش.
ان هذا التداخل بين الاجناس الادبية يفضي الى ان ثمة اواصر مترابطة بين هذه الاجناس تحت نص جامع هو ابو الفنون كما يسمى من قبل النقاد. ويتضح مما تقدم ان الاجناس الادبية في قتنا المعاصر تتداخل وتتغذى على بعضها ولم تعد تكترث بالقوالب القديمة لها لان الابداع لا يمكن تقييده بحدود فاصلة.
إحــــــالات:
(i): خزعل الماجدي،الاعمال المسرحية،ج2،ط1،(بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2014)،ص262.
(ii): ينظر:المسرحية،ص260-264
(iii): المسرحية،ص266.
(iv): المسرحية،ص269.
(v): المسرحية،ص270.
(vi): المسرحية ،ص256.
(vii): المسرحية،ص256.
(viii): المسرحية،ص265.
(ix): المسرحية،ص262.
(x): المسرحية،ص261.
(xi): المسرحية،ص 273-274.
(xii): المسرحية،ص278.
(xiii): المسرحية،ص284-285.
(xiv): المسرحية،ص277.
* د.حيدر علي الاسدي / ناقد واكاديمي عراقي