كانت الأرض تميد بها ويطول شرحها للكاتب أنّ المرض قد قضى على والدتها. قضمها ونخرها ونهشها. تآكل جسدها. أضحى فُتاتًا. لقد ترك المرض بصماته. وليس لها أن تتخيّل تراكم الفُتات ودفنه في نعش. ردعت تلك الخاطرة. دفعت بفكرة رحيلها من رأسها. وكل مُحاولاتها لتستمرئ الحال باءت بالإخفاق وذللك ستتركهم يقتتلونها. وتتجاهلهم تجاهلاً كاملًا. كما كانت تواجه الظلام دون أن تعرف ذلك. كانت عينا المُؤلّف-بتراخٍ-تُحدّقان على الروايات بمكتبها عندما قال لها «إذا هاجمتكِ مخَاوفكِ في واقعكِ، فهاجميها في أحلامكِ» ثمّ زايد في شُروحه «إنّ دواخلنا هي ما نحن عليه في الواقع. والأحلام تُعرّي ما فينا. في رؤوسنا قسم مجعول حكرًا بالأحلام».
مغمومة أشدّ ما يكُون الغمّ-في ساعة مُتأخّرة من الليل-تفغر تيْنك العينين في هالتين قاتمتين. كانت مُجفلة. والمكان يسوده خرس مُريب. تنحّي اللّحاف جانبًا. تضمّ شعرها على يسارها. تتضخّم همهمات وخشخشات مُخيفة. مُثقلة الذهن. فائقة الهشاشة. مقطوعة الأنفس. أدركت شيئًا مُثيرًا للرّيبة، خُطى راكضة وأصداء صاخبة للتلفزيون وضوضاء خافتة تعود إلى الأصوات المُمزّقة. وبعينين ينبعث منهما شرر مُتلألئ مُتيقّظ للخذلان، امتدّت أرجلها وأطلّت إطلالة خاطفة من الباب المُوارب تتحقّق ممّا يدور. تجد نفسها في كواليس المسرح البلدي بسوسة. شخص ضئيل القامة يُمسكها في عجلة من أمره. متُرهّل الوجه ومُكفهرّ القسمات. كان المكان مُزدحمًا والجو مشحون. الكلّ يسير ويصطدم بأشياء لا يراها ويتهافت بأشياء لا تُفهم. لا تضبط جيّدًا ملامح من حولها. ساقها ناحيّة ستار أحمر ضخم وقذفها إلى ركُح المسرح لتُؤدّي دورها الخاصّ. كان الرُّكح يغوص في العتمة الخالصة قبل أن تسطع أضواء مُتنوّعة وخافتة. يسقط الضوء ويتسلّط عليها. بكُل مظاهر البلاهة تلاقت نظراتها مع نظرات الجمهرة وحملقت فيهم بحيرة واستفهام. راحت تُحدّق-ككُتلة صخريّة-ببدلاتهم الّتي تلوح من موضة السّبعينات. يعتمرون قُبّعات سوداء وبُنّية داكنة تماشيا مع لون البذلة. كان “نديم” ثابتًا في الصفّ الأمامي. نظرت إليه متسائلة. كانت مُحطّمة. كانت رخوة. وظلّت في سُأمها صامدة. كان والداها-على مسافة-يتشاجران تمامًا كما كان شأنهما من ذي قبل. قال “رضا” في مسعى لشرح وجهة نظره «لنفترض أنّ كل ماحدث لم يحدث» ابتسمت “جميلة” بانفعال، مُتشنّجة. «لا يُمكن محو الجريمة من الافتراض. أين عقلك؟ أنتَ المسؤول عن أفعالك؟» كلاهما توجّه إلى الموت. إحساسات فوضويّة كانت تتدفّق. ارتفع التفجّر إلى عقليهما. الأمّ أكلت تلك التُفّاحة المسمومة-على طريقة بياض الثلج-خرّت على الأرض. لم تستطع قتل نفسها. كانت الابنة تبكي وسعيدة بما يحصل. إزميل الغدر ينخر في صدرها. كل ما فعلته أن تذعن إلى إرادة الضيم. إلى مشيئة القدر. وجودها موت، انبعث من رحم الشقاء المُتّصل إلى التلاشي. فهي لم تغفر لمن أهانوها بكلمات من سكّين فما بالهم بمن آذاها أعمق من ذلك. الأبّ، كانت رقبته ملفوفة بحبل سميك وظلّ على تشنّجه. لم يحصده الموت شنقًا. كالبالون ينتفخ رأسه ذنبًا. ضج مُقهقهًا بملء شدقيه إلى أن انتابه السُعال. زاد خوفه من العدالة الحقّة الّتي ستبقى حيّة بمعنى الشُعور بالذنب والهُدوء لن يعرفه. لن يموت. عليه أن يُدير أمره على سطح الأرض. وفي حضرة الوجود سوف يتعذّب. وتساءل في سريرته عن علاقة الحياة والذنب. ومن يفكّ له شفرة السُؤال. يطلب الجواب. ويظلّ مُبهمًا. في الطرف الآخر، كان الأخ يبتلع النقود الورقيّة. الّتي قبضها نظير سُكوته. حزمة وراء حزمة. اختنق ولم يمت. تتضخّم أصوات الجمهرة مُهلّلة بالعرض. انخرطوا في ضجيج راجف. استطرد واحد منهم لزوجته مُعجبًا بعد أن كان لا يهدأ في مقعده «لقد كان عقابًا عادلًا. الحياة على سطح الأرض» بخفّة خاطفة يتبخّر العلنَ. تلوح المرأة العجوز كنيزك رجراج مُلتهب. اختلقت اختلاقًا موجة من التصفيق. لوت شفتيها المُنكمشتين. فارتجّت شفتا “نور”. تصير حجرًا. تصمد بعزيمة ليست بعزيمتها. سألتها عن أمرها. فردّت عليها العجوز وكانت وقحة: «كفانا من الأسئلة، كيفاش وعلاش» راحت تُصعّد يدها كما لو أنّها تكشّ الذّباب عنها. غابرة في قلقها وضجرها. ثمّ أدلت بدلوها في تهكّم شرس «ما سألتني عنه لن أحيطكِ علما به» تذكّرت “نور” ما قاله لها الكاتب. ينبغي أن تستخدم قُدراتها لُمواجهة مخاوفها. تُغمض عينيها ومثل أفاعي جزعة يتضخّم صوت الحيزبون ولا تكفّ عن الثرثرة. تتألّف هالة بيضاء وتكتنف “نور”. كخفافيش شيطانيّة غير ثابتة تتعالى العجوز في حالة من الذعر. تُصعّد “نور” ذراعها اليمنى المُسترخية وتستهدف بتموّجاتها البيضاء، الّتي تنفذ من راحتها كقرع الطبول، المرأة العجوز، فانهارت أرضًا وكان سُقوطها مُروّعًا. لكسر هذا التوافق المُحيط. مُكهربة المرأة العجوز كسُحب ظلماء راعشة. تبرق وتتوارى بشكل أسرع من غمض العين. تُقهقه بأزيزها المُخيف. وبعينين خبيثتين، مخرومتين، ومُستديرتين تنقلب ضحكاتها إلى قذائف مُتراشقة. مُقرّة العزم على أن تُصيب في مقتلها. أن تقطف رأسها، إن اقتضت الضّرورة. عند زاوية الظلام تقف “نور” على قدمين راجفتين. مثل جسد من بُكاء. من عميق الشّجن تستجمع قُواها الانتقاميّة. ترسل تموّجاتها في اِتّجاهات متفرّعة-في شكلٍ لولبي-على أمل أن تُصيب، المرأة العجوز، الّتي لم تكن في مُتناول البصر. تلوح الأخيرة-في فوضى السّحق-ساخطة كإعصار غاضب مُدمّر لا يعرف الشفقة مُرسلة شحُنة ناريّة طائشة إلى “نور”. الأخيرة تنهمر عليها فواجع تشقّ دماغها إلى شقّين. وابلًا من أضواء مُتعدّدة الألوان تُباغتها فتحتدم القُوى ببعضها البعض. تتضخّم دائرة كبيرة شفّافة على وشك أن تتفجّر. ينبعث منها وهج فيه صُفرة لافحة. كاوية. إلى مقياس الانصهار. الهالة تذبل. تصطدع. في صرخة طويلة غير مسبُوقة تلفظ أنفاسها. سطع نجم “نديم” في ذلك الوقت. اكتمل جمعهما. يقبض بيد “نور”. هُما معًا عليها. يشتطّ توهّج الهالة. تنثر المرأة العجوز رذاذها على جدار التّحصين. تُحاول إختراقه. الرّذاذ يرتدّ إليها. تفقد احتكامها ثمّ تهوي. تُقيم الصّراخ. بقلب خاوٍ يتلهّف إلى عتمة الأحقاد تتقهقر مكنتها. تُطرقع إصبعيها الإبهام بالوسطى لكنّه لم يطرأ شيء. تُطرقع إصبعيها ثانية. لم يحدث شيء. تُطرقع إصبعيها ثالثة. بين فتح وغلق تُوصد الأبواب مُجلجلة. غرق الثلاثة في أبعاد مكان غير معلوم. وعِرة، سفّاحة، ذبّاحة، تنكمش المرأة العجوز في الركن الأكثر إعتامًا بين متاهات الزّمن. طفقت تتخبّط بعُجالة رهيبة. وإصرارها مُندلع لا يهدأ. تبرق من وقت لآخر-مرسلة مُفرقعات سوداء تنفجر-يندفع دويّها الماحق في مواجهة مُفاجأة لتخترق الجدار العازل. فتوغّلت رياحٌ عاصفة، طاحنة، باردة. اخترقت الهالة الشاسعة. بينهما وشائج رفيعة تتمزّق. رياح عنيدة تعبث بشعريهما. وباندفاع مُداهم تبرق المرأة العجوز قُبالتهما إذّ ذاك. كبالوعة تأكل الأخضر واليابس. والأحلام والكوابيس. والحياة والموت. تُقاتلهما مُقاتلة الند للند. وجهها قد غطّاه سواد الحريق. شعرها منكوش. مُنتفخ بالسُّخام. وتغوص بذراعها في صدر “نديم” الّذي تجمّد في اللّاشيء، تعصر بواطنه حتّى مرفقها. مصيره على المحك أشدّ ما يكون. تناثرت سنواته الّتي حصدها الانتظار الصّامت. اختنق. لاهثًا يتأوّه. وانخرط في الزعيق. يبكي نكبته. مجاهل مُعتمة افتراسيّة ينفجر منها شيء ينتحب باختناق وقذارة. تشتطّ مُواجهة ضارية لن تنطفئ بينهم. يُراود “نور” شعُور مُفجع يركلها إلى كسر حاجز الفقد الرهيب. وحده الموت لا يهدأ. الخسارة تدلّ دلالة صارخة على النّهاية. يتسرّب المخاط من أنفها. سُدّ الفقد قد انفجر. يتسارع فيه سائل لزج أسود يُرغي ويزبد عبثًا. فتُلملم قواها مُتوهجة بالخُسران وذابلة إلى حد التلاشي. نظراتها تُشاهد رقص اللهب وتطلق صرخة مدويّة. تبرق قُوّة شفّافة تفصل المرأة العجوز، وجعلتها على مقياس من التباعد. فأُصيبت في ركبتها اليمُنى. هوت أرضًا تتأوه وجعًا. غمغمت بصوت خفيض. في وقتٍ عصيب، اِنفتحت بوّابة دائريّة سوداء تجتازها الحيزبون تطفو فوق سحابة من الظلام-آملة ألّا تخذلها قواها المُتفائلة-وبشقّ الأنفس تتلمّس طريقها صوب حجرتها المركونة بين عالمين. تفتح “نور” عينيها. يُلتهم دماغها، حزينة النّفس إلى نُقطة العجز، دُموع كئيبة مُكدّسة مُتراقصة تحوز من أهدابها. جسدها مرضوض. كانت تقطر بالعرق. تُطلق شهقة خانقة. تتصلّب عضلاتها وتتراخى. كان وجهه مُبلبلاً، يخفق خفقان خروف ذبيح. وفي فورة الحرب المشبُوبة الّتي لن تعرف السّلام، تُنير المرأة العجوز سائر الشّموع المركونة في غرفتها الرماديّة بطرقعة-مع إثارة ضجّة-وتصرخ بألم حارّ في حين ينبجس من راحتها ضوء يقوم بتطبيب الشرخ الّذي أُحدث-إلى أن اندمل- وضجّ صوت فاجعيٍّ مُتراعش. مُتوعّدة إيّاها بتفخيخ دُنياها بأشخاص خادعين..ينفجر العالم بخداعهم ذاك.
* ياسين الغُماري / روائي تونسي