سأحاولُ، وباختزالٍ شديد. أن أُلقيَ الضوء على عرض ” شغف” للوفد العراقي الشقيق.
بداية :
بالبياض الناصع حينًا والشَّاحبِ في أغلب الأحيان، صبغ المخرج علي عادل السعيدي عرضَه المسرحي ” شغف “، وكأنه يريد بذلك تجسيدَ رَموز “الموت والحياة ” في جملة بصرية واحدة. فحينًا نراه يقدم ( الموت ) محمولًا بعباراتٍ ترد على لسان الشخصية، وحينًا آخر، نراه يقدم ( الحياة ) محمولةً بعبارات، ترد على لسان الشخصية ذاتها، وفي كلا الحالتين، كنا نجد أنفسَنا نحنُ المشاهدين أمام دعوةٍ مُلحَّةٍ لإعادةِ قراءَةِ تفاصيل هذينِ المصيرين بقلقِ عَينِ العقلِ ووجعِ عَينِ القلبِ.
ولكن، كيف استطاع العرض تحقيق ذلك، وهل تحققت الشروط، من حيث الشكل والمحتوى كنسيجٍ فكريٍّ وفني متناغم، كما يجب أن يكون عليه العرض المسرحي المؤثر بلغة المسرح؟ هذا ما أودُّ إلقاءَ الضوءِ عليه في ورقتي هذه.
بدايةً .. يقول ستانسلافسكي : ثمَّةَ أسئلةٌ ثلاث، على المخرج أن يجيبَ عليها مع بدايةِ كلِّ عرضٍ مسرحي.
أين نحنُ؟،
ومن نحنُ؟،
وماذا نفعل؟
لأنَّ إغفالَ الإجابةِ على هذه الأسئلة، أو تأجيلَها، ما لم يكُن ذلكَ عن قصد. سيُخرج المُتلَقي من المعادلةِ برُمَّتها.
وما رأيته في عرض “شغف” ومن اللحظةِ الأولى لدخول الجمهور، وعن قصد واضح، أن المخرج قد ترك الإجابةَ على هذه الأسئلة الثلاث معلقة. وهذا برأيي جاء منسجمًا مع طبيعة العرض وفلسفته.
أولًا : أينَ نحنُ ؟
نحنُ :
ـ ربما .. في مقبرة
ـ ربما .. في منزل
ـ ربما .. في بقعة افتراضية، نرى فيها تضاريس عوالم الشخصية وتَعَرُّجاتها.
ثانيًا : من نحن؟
ـ ربما المرأة العراقية
ـ ربما المرأة العربية
ـ ربما المرأة الإنسانة على إطلاقها
ثالثًا : ماذا نفعل؟
في اللحظاتِ التي تكونُ فيها ذروةُ المأساةِ الإنسانيةِ قد اكتَمَلت بكل وحشيتِها وأحكمت قبضتَها على الروح، يصير الفعل ضربًا من ضروب العبث. فلا يظلُّ أمام الضحيةِ الا البوح كبديلٍ مُوازٍ للفعل.
والفعلُ البوحُ، جاء في هذا العرض على هيئاتٍ عدَّةْ.
أولًا: جسدٌ ميِّتٌ، تخرج منه روحٌ مثقلةٌ بكلِّ أسبابِ الموتِ والحياةْ، تَهيمُ في اللا مكانِ واللا زمان، تُفتِّشُ عن بقاياها لتَحكي وجَعًا رافقها منذ ولادَتِها.
وجَعَ الأنثى أمام صَلَفَ الذُّكورَة
وجعَ المرأةِ أمام غيابِ الرُّجولَة
وجعَ المرأةِ الإنسان أمامَ شُحِّ الإنسانية
ووجعَ المواطنِ تحتَ خيمةِ وطنٍ، مزَّقت سَماءَهُ طواغيتُ الوُصاةِ على الفضيلَةِ،
وأحرَقَت أرضَهُ طواغيتُ الوُصاةِ على البَقاء.
وَجَعَ الفِعلِ الأوحَدِ والأبشعِ منذ كانَ الوجود،
وجَعَ الحَرب.
نَعم. إنَّهُ الموت، الفِعلُ الأوحدُ الذي قامت عليه الثيمةُ في هذا العرض.
ولعلنا أحوج ما نكون في هذه الأيام ونحن نغالبُ المَوتَ والموت يغالبنا الى هذه الموضوعة التي تضمنها العرض، فالموت يحيط بنا في كل مكان.
حيناً يُفرضُ علينا قصرًا وحيناً نظن أن فيه الخلا , لذلك فقد رأيت أن الثيمه التي تناولها العرض ثيمه راهنة الى حد كبير.
العرض ما بين المرسل والمتلقي…..
ليسَ من المُعتاد في عرض قائم على العُلبةِ الإيطاليَّة أن يتم كسر الجدار الرابعِ، كما هو الحال في مسرح “بريخت” ولكن في هذا العرض، كُسِرَ الجدار الرابعُ وبتقنية غاية في البساطة، وذلك عندما تم عرض صورة الصالة الفارغة من المشاهدين المُفتَرَضين في نهاية العرض، وكأنها إشارة لغياب الحياة في كل هذا الفراغِ الجاثم على الأرواح.
وهذه لفتةٌ تُحسبُ لفريقِ العمل،حيثُ شعرتُ أنا، كواحدةٍ من المشاهدين، ،أنني إحدى الشخصيّاتِ التي يمكنُ أن يقعَ اختيارُ ملَكِ الموتِ عليها. وهذا باعتقادي، جُلُّ ما يطمحُ إليهِ الفنُّ عموماً. وهو القدرةُ على صناعة المشاعرِ عند المُتلقي.
.الديكور: كان شَرطِيًا بكُلِّ تفاصيله، تتضحُ دلالاتُه مع كل فعل واستخدام.
الإضاءَة : كانت إيحائيَّة في معظم استخداماتها، منسجمة مع ذِهنيَّةِ فرضية المكان والزمان.
الموسيقا : جاءَت مُعلَّقَةً على الفعل في مواضِعَ، ومؤُكِّدًة لَهُ في مواضِع أخري،\.
الأزياء :تحمل دلالتها المتَّسِقَةُ مع المكان برمَّتِه من حيث اللون، ومُؤدِّية دورها مع سهولة في الاستخدام. “باروكة”، “جاكيت”… ألخ
التمثيل: لعلَّ أكثرَ ما يُميِّزُ هذا العرض، تلك الطّاقةُ التي تحلّت بها الممثلة “بيداء رشيد”، فقد كانَ لها الفضلُ الأكبرُ في عبور هذا العرضِ إلى عقولِ وقلوبِ المشاهدين.
تميز أداؤها بطاقة مُلفِتَةٍ على الصَّعيدِ الجسدي والصَّوتي والانفعالي، حيث أشبعت اللحظات بكل ما تحتاجه هذه اللحظات لتحقيق الأثر، برشاقة جسدِها وحضورِ صوتِها وحرارةِ انفعالِها، فكانت على قدر المهمَّةِ وأكثر.
وأخيرًا، شكراً لفريقِ هذا العرض الذي أمتعني أنا شخصيّاً، وشكرًا لكم جميعًا.