نص مسرحي موندراما
ينتفخ الصباحُ مثل كلّ مرة، يعتلي الرجل وجهه إلى بطن السماء، يصمت، يتمعن في الغيم، ينتبه إلى نفسهِ، قد تجاوز الأربعين عاما من عمرهِ، يسكت، يفكّر، يحاول الحديث، يعود إلى صمتهِ، يدخل، بعد لحظات حزيناً، ينظر إلى السماء مرة أخرى، ينتظر صديقه على أحرّ من الإشتياق، يحاول شرب كوب من الشاي، يحاكي نفسه:
اليقظة كالأحلام المزعجة
(يوجّه سؤالاً)
مَنْ يوقظ رأسي مِن هذا النوم العتيق ؟!
مَنْ سيُسقط الألم مِن رأسي ؟!
اليقظة، مزعجة جدا
كما الحلم، مزعج جدا
يسير ببطئ
يُقلّبني ذات السحاب وذات الأرض
وقلبي حامل وجعي بالأنين ..
(برهة)
أنا الغائب الموجود ..
لم أزل أغازل شفة الريح
كي تعلنني بصوتها المبحوح
قبلة للعاشقين ..
مُزحة للحالمين ..
مدينة للعائدين ..
أنا .. ابتسامة خائفة ترسمها الريح
لا أحد هنا يؤجّل بصائره
فنحن كالعميان ..
لا نبصر إلّا اجتهادات الكسالى
وهم يقومون لمزارع نومهم حالمين
يحلمون بنومة أخرى ..
علّم يوقظون .. بلا موعد
بلا حرب
بلا جنون
بلا حرائق
بلا قتل
بلا اغتيالات
نحن .. أقصد .. هم .. ابناء الكسالى
ما زالوا ينتظرون
خريفا آخر
يُدير ظهورهم نحو ليالي التيه
(برهة، يحاول البكاء)
نحن مثل المرايا
لم ترانا الوجوه .. متشابهة حدّ الكآبة
لم توحّد الأحلام هفواتنا
ولا هفواتنا تُرجّي بقايا أحلامنا
(يبكي)
هاجس خفي: الحياة سؤال ينتظر الإجابات
لكن .. الإجابة الأهم
الموت
(الهاجس يُكرر صوته)
نعم، الموت
(برهة من الوقت، يختفي صوت الهاجس)
نعم .. الموت خير مُنبّئ لأسئلة الناس
الموت أشبه بخريف لنهاية أوراق الأشجار ..
(يُصحّح)
أقصد نهاية الإنسان
((يوجّه سؤالاً)
لكن .. أي موت ٍ تقصد، وأي موت ٍ أقصد أنا
تنوعت أنواع الموت .. صوره .. هواجسه
(يضحك بسخرية)
نموت ألف موتة في اليوم
(يخاطب الجمهور)
أليس كذلك ؟
فليُعدّد كل واحد منّا الموت الذي مرّ به ..
(يحدّث الجمهور)
أرفعوا أياديكم
عدّدوا الموت الذي أتى إليكم
(يؤكد)
عن نفسي مررت ُ بموتة تليها موتة ..
(يضحك بسخرية)
موتة ! (بتعجب )
موتة وليس موتا
(بتعجب أكثر)
موتتي أنثى !
(يضحك بسخرية)
عدّدوا لي “موْتاتكم”
أذكروا ليس محاسن موتتكم
جنسها أنثى أم ذكر ؟
(برهة)
سأحاول خوض حكاياتي مع موتتي الأنثى
سأبلغها سلامكم
وسأبلغكم سلامها إن تفضلت لي بالزيارة
(برهة)
أنا مدين لها بالزيارات المُتكررة
فهي عرّفتني عن الحياة التي أعيشها
(يؤكد)
نعم، فلا تحسّ بعافية الحياة إن لم تذق صيرورة الموت
ولا تعي قسوة الموت إن لم تنعم بطراوة الحياة
(هاجس خفي) :
ستعبر طرق الخوف إن كنت َ– قد – أدمنت تراتيل الوجود
فقلبك معتّق بمواويل القرى الخاملة
وعقلك مسكون بخيبات المدن الكبيرة
كُنْ كما أنت ؟!
حاول تلاوة غيب السؤال
لتعي فكرة مضغ الإجابة
فكّر بما يحلو لك، حاول الوصول إلى اليقظة بالحلم
أحلم، بما شئت
لكن، كُن بصيرا في حضرة العميان، ولا تكن أعمى أمام مرايا المعتقين بالسؤال ..
(يختفي الهاجس)
أنا لوحة من الغياب،
لكنني أشبه خرجة الذنوب،
أخطّ بنفسي عشرات الخطايا؛ لعلّي انتصر على الغالب، لكنني في الأخير أُدوّن عثرات المغلوبين ..
(برهة)
للآن أشبه خرجة الذنوب
أخطّ على وجهي ألف علامة استفهام
غير أنهم عميان
لم يروا اسئلتي
لم يجيبوا عليها
تعمدّوا النسيان
تضجوروا منّي عندما أريتهم وجوههم بمرآة صبري
كلّهم هربوا بعدما استعانوا بالخوف من المواجهة
أنا وحدي صرت أواجه أخطائي
افترش الأرض وحدي
أركض وحدي
أمارس دور العاشق وحدي
أكون مجنونا وحدي
هربوا كلّهم هربوا
لوجوه أخرى
تشبههم في العداوة والنسيان
تُعلمهم ممارسة الهذيان
فُخطّ على وجوههم ضجر الخائفين
(برهة)
لم تحن بعد
اسئلتي التي سأُلقيهم بها
ستكون غير مُبصرة لهم
لذلك سأحاكي أذانهم غير الصاغية
فهم لا يبصرون معنى القول هنا ولا هناك
لا ينظرون؛ لأنهم غير مبالين
لعيونهم التي أصابها العمى
حتى العقول تبدّت لهم بالجنون
لأنهم ما زالوا هناك
بلا وعي سينتظرون ..
(برهة)
أنا فجر العائدين من الحلم ..
استيقظوا عنّي ومنّي ومن ثم همّوا بالرحيل
فبقيت وحدي .. هنا
أرمّم وجوه الأسئلة؛ لتكون اسئلة الوجوه مفعمة بالغياب ..
أنا سؤال عتيق ..
لم أزل أمرّره، أقصد “أمررني”، أي أمرر نفسي على مَنْ يودّون النظر إلينا من دون سوء ..
(يؤكد)
أنا هنا .. أقف .. انتظر إجابتي الساقطة من شجرة الخريف
موتي الأكيد
الحياة في نهايتها
(بصوت حزين)
أطفال، عجائز، شبّان، رجال، نساء
الجميع، ينتظرون نَحْبهم
حتى الطيور والعصافير والقطط تنتظر موتها
(بسخرية)
حتى هو .. ذلك الذيادّعى أنه انتصرعلى الموت ذات يوم
وقاللن يصل إليّ الموت حتى لو كنت في بروج من الطين
فأنا هنا
أراهن على موت الكائنات إلّا أنا
(بسخرية أكثر)
هو طاغية جدا
(يضحك)
يشبه فِرعون
(يؤكد)
طغى جدا جدا
طغى جدا
جدا
(يستفهم)
أتعلمون مَن ْ هو ؟
(يبتسم)
تعرفونه .. بالتأكيد
الطاغية الذي كُسّرت الحياة كرسيه ورأسه حتى مات بحبل مصنوع من جبروتهِ وطغيانهِ.
(يبتسم أكثر ويؤكد)
نعم هو ..
صحيح جدا جدا
صحيح جدا
جدا
(برهة )
لكن ..
مَنْ يتعظ ؟ !!
لا الحُكّام بعده اتعظوا !!
لا الأحزاب من بعده .. بالعدل حكموا !!
لا الوزراء بالناس انشغلوا
لا النوّاب لهموم الآخرين انتبهوا
ولا المدراء في دوائرهم تراحموا
ولا نحن .. صرنا .. مثل العالمين ..
فلا انتبهت ولا هم انتبهوا
(برهة)
نعم، نحن مثل حبال الخوف
نلتفّ حولنا،
حولنا نلتفّ
كي تُبرمنا الأيام ضجرا منسيا
(يحاول التكرار)
كي تُبرمنا الأيام ضجرا
كي تُبرمنا الأيام ..
كي تُبرمنا ..
كي ..
(يسأل)
كي !! ماذا بعد كي ؟
(يُجيب)
كي نفوز، مثل الغبار على شجر الريح
وهو ينتقي فوز السؤال إجابة منسية
بلا تضاريس ينوي الصعود
إلى جبال العائدين إلى قراهم
سيوزّعون الحلوى على زوجاتهم
ويقبلون أطفالهم المتوحدين من الخوف
ويصلّون خلف إمام جامع قريتهم بلا خشوع
ويظلّون ..
ينتظرون .. رجلاً يوعدهم بما يحلمون ..
(برهة)
نحن هنا منذ زمن بعيد
لا حكاية نأوي لها، ولا قرية نُفضي مفازاتنا إليها
(يُحاول مخاطبة المجهول)
نحن .. خسارات ضائعة
نحن .. خفايا من الوضوح
بل .. نحن وضوح من الخفايا
لا شيء يشبهنا إلّا نحن
نحن مزايا الجرّيد في اخضراره
لكننا غير مدعوين إلّا لليباس
أعمارنا حفنة من الألم
وأعوادنا جذوع حائرة الوقوف
“نكرّبها” محنة بعد محنة
لنصعد إلى رطب حكاياتها غير خائفين
نسمعها حكاية بعد أخرى
أبطالها فزّاعات مصنوعة من حبال الخوف
وضفائر شعرها منسوجة من عافية الأنين ..
(برهة)
نحن .. لم نخاف
(يتراجع بالإجابة)
بل خفنا ..
حياتنا .. أحصنة من الخوف
حياتنا .. تركض على أرجلها
من الخوف
لكنها للآن .. لم تصل لمضمار النهاية
لم نفز بعد ..
هنا صرنا وهنا وصلنا
للنهاية
لكن البداية كانت قاسية
لم تجلب لنا إلّا ونحن في انتظار النهاية
فالحياة في بدايتها
(يضحك بسخرية)
عفوا .. أقصد
نحن في نهايتها