في ذكري ميلاد د. فوزي فهمي (21 أغسطس 1938 – 15 أكتوبر 2021)
(1)
في المقدمة التي كتبها د. فوزي فهمي لمسرحيته ( الفارس والأسيرة ) 1978 لفت نظري عبارتين، الأولى : أكد فيها على ( أن الكاتب لا يقنع على الاطلاق أن يكتب مسرحيته كى تُطبع بين دفتي كتاب، وذلك أمر من البديهيات) ذاكرا أنه أثناء سنوات بعثته، كان يتعجب حين يقع في يديه نص لمسرحية، فيجد عدد المطبوع منها أقل بكثير من عدد المطبوع للشعر أو الرواية وغيرهما، وحين سأل أستاذه عن السبب – يقصد د. محمد مندور – أجابه أن النص المطبوع في كتاب، هو مشروع، لكنه مغلول بالكلمات والحروف والصفحات، فقط تُفك أغلاله حين يوضع في مكانه .
وهو يعني – هنا – بالمكان ( خشبة المسرح) وأقول : “إنه علي الرغم من صدق ما جاء في عبارته، التي تعكس الأزمة الحقيقية الكامنة وراء واقع التأليف المسرحي، من أنه صار يهتم بطباعة النصوص، أكثر من اهتمامه بتقديمها علي خشبة المسرح، وهو المكان الطبيعي الذي ينطلق منه النص بلغته وشخوصه، وعالمه وأحداثه، متجسدا أمام الجماهير، يؤثر فيهم، ويتأثر بهم، وتتحقق العلاقة الفعلية والحميمة بين العرض والمتلقي، وبدونها لا تتحقق فكرة المسرح الحي. أقول أنه على الرغم من هذا، نجد نصوص د. فوزي فهمي – الآن- بين أيدينا، مطبوعة، وتُعد مرجعا هاما ينبغي قراءته والرجوع إليه، لنتعرف عل فكر الرجل، وموقفه من الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، في الفترات التي كتب فيها نصوصه، وأراد التعبير عنها.. وعلى الرغم من عرضها – كلها- علي خشبة المسرح، وشاهدتها الجماهير، إلا أن نشرها كان ضروريا، وهو أمر لا ينبغي أن نستهين به، في واقع يستهين بذاكرة المسرح وتوثيق عروضه، مما يؤثر على عملية الوصول إلى تلك العروض، ومشاهدتها، حتي ولو كان قد تم تسجيلها، لأنه أحيانا يتم إفساد وتشويه رؤية المؤلف، بتدخلات المخرجين بعيدا عن قضية التفسير المُتعارف عليها” .
• والعبارة الثانية التي لفتت نظري – أيضا- في مقدمة نفس المسرحية ، قوله ( للجنة القراءة بالمسرح القومي ، شكري لحماسهم ، وملاحظاتهم التي أوليتها كل اهتمام) .
هنا نتعرف على طبيعة العلاقة التي كانت تربط بين المؤلف المسرحي والنقاد ( أعضاء لجنة القراءة ) وهي علاقة تقوم علي الاحترام، والإيمان بأن لكل طرف من الطرفين ( المؤلف والناقد ) وظيفة، تُكمل وظيفة الطرف الآخر، وتكشف أيضا، أن أعضاء لجنة القراءة، كانوا يناقشون الكاتب في بعض النقاط، ويطالبونه بالتدخل في تصويب ما يرونه في صالح العمل – طالما أنه سيصبح عرضا مسرحيا، وليس نصا قاصرا علي المؤلف وحده – تلك العلاقة التكاملية التي صرنا – مع الأسف الشديد – نفتقدها اليوم، كانت تساهم في تقديم العرض المسرحي بصورة جيدة وأمينة، لحضور أطراف متعددة، يساهمون جميعا في رسم تلك الصورة. علي عكس ما نراه الآن من استئثار المخرج – وحده – وهيمنته علي النص، المكتوب، بما يدفعه للتصرف فيه، حذفا وإضافة، وإعادة كتابة، وربما تغيير رؤية المؤلف – وهذا أخطر شيء – حين يفعله، حتي مع وجود المؤلف، ومعاصرته لتنفيذ نصه !
تلك التقاليد التي تربي عليها د. فوزي فهمي، وعبر عن بعضها في مقدمة مسرحيته – كما أشرت- ساهمت في تكوينه الفكري، والانساني، والابداعي، وهذا ما أكد عليه – أيضا – في الصفحة الأولي من كتابه الهام ( المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة ) حين أهداه إلي أستاذه د. محمد مندور قائلا : “إلي روح استاذي الدكتور محمد مندور، بعض من أثره . أوراق ذابلة لا تقارن بأوراقه الوارفة، أهديها اعترافا بالحب، والفضل، اللذين حباني بهما طالبا، ومعيدا، ووعدا بالوفاء لفلسفة فكر صدرت من واقعنا تهدف لبناء حياتنا” .
أقرأت معي عبارته الأدبية البليغة ( أوراق ذابلة لا تُقارن بأوراقه الوارفة ) .. تلك التي قالها في حق استاذه الذي رحل قبل صدوره، بما يعني أن مؤلفه لا يجامل الأستاذ ولا يتملقه ، قالها برغم أهمية الكتاب، تلك التي أكد عليها ( عثمان نويه ) في المقدمة التي كتبها حين قال : “موضوع هذا الكتاب جديد وجاد، جديد لأن أحدا في العربية لم يكتب فيه حتي الآن، وما كُتب فيه في غير العربية لا يتجاوز كتابين أحدهما هو ( موت التراجيديا) لمؤلفه ( جورج شتاينر ) والآخر هو ( الكوميديا القائمة ) للناقد ( ج. ل. ستاين) ومع أن هذين الكتابين يبدأ من حيث ينتهي الأول، إلا أنهما معا لا يغطيان ما يغطيه هذا الكتاب من مساحة زمنية أكبر، ولا يمسحان ما يمسحه من أرض دراسية أوسع، ولا يتناولان القضية بمثل التناول الطولي الذي نجده في هذا الكتاب، وأسباب ذلك واضحة، وهي كثرة ما كُتب عن تطور الدراما حتي عصرنا الحاضر، فلا حاجة إذن بالمؤلفين الغربيين إلي التكرار، وإنما حاجتهما هي إلي الاضافة والاستمرار، بعكس مؤلفنا العربي، الذي عليه أن يبدأ الشوط من أوله، لأنه يقف في فراغ ويبني في خلاء ) وبرغم هذا الكلام المُؤكد علي أهمية أوراق د. فوزي فهمي، إلا أنه رآها مجرد أوراق لا قيمة لها، في مواجهة ما قدمه الاستاذ من كتابات وأوراق أكثر أهمية، وأكثر قدرة علي تصدير المعرفة الوارفة. هذا هو تواضع العلماء، ونُبل الأساتذة، وكان د. فوزي فهمي واحدا منهم .
ولمن لا يعلم، فإن كتاب ( المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة )” الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1986- الطبعة الثانية ” كان مجرد بحث كتبه د. فوزي فهمي وهو في صدر الصبا، حين كان طالبا بالمعهد العالي للفنون المسرحية، حيث لم يكن قد تجاوز العمر منه وقتذاك – كما ذكر- الثالثة والعشرين، ولقد مثل له ذكري – رغم تعدد مستوياتها – إلا أنها تؤكد قيم فترة من أعز الفترات، التي عاشها جيله، حين (تنفس مناخا ثقافيا ارتبط بأساتذة كبار) تحدث عنهم بصدق وإنسانيه ونُبل قائلا: “بين جدران معهد الفنون المسرحية، تنفست حرارة أبي ومعلمي (محمد مندور) وصدق (القصاص) وصفاء (كامل حسين) وجدية (صقر خفاجة) وموضوعية (الراعي) وعذوبة (عبد الرحمن صدقي) وانتماء (رشدي صالح) ودقة (يوسف مراد) ودأب (يوسف الحطاب) وحساسية (كامل يوسف) وحدة (صلاح عز الدين) وزخم (حمدي غيث) ورهافة (عزت مصطفي) وبساطة (حسن محمود) واحتفاء (لطيفة الزيات) ، ومنهجية (بدر الديب) وموسوعية (زكي خورشيد)” .
نراه لم ينسي أساتذته، بل يعرفهم جيدا، ويعلم طباعهم وخصالهم .. ذلك هو التلميذ النجيب، الذي سار علي درب كل هؤلاء، فأصبح مثلهم أستاذا، يتذكره الجميع بكل الخير، تأكيدا لعبارة ( كما تدين تُدان) .
(2)
الذهاب إلي التراث ( الأسطوري – التاريخي)
كتب الدكتور فوزي فهمي ثلاث مسرحيات، جاءت علي الترتيب التالي: عودة الغائب 1977- الفارس والأسيرة 1978- لعبة السلطان 1986
وكان من الممكن أن يُحسب ضمن كتاب الستينيات، لو أن مسرحيته الأولي ( عودة الغائب ) التي كتبها – كما ذكر – في عام 1968 قد عرضت في تاريخها، وليس كما حدث وعُرضت بعد ذلك التاريخ بتسع سنوات، حين أخرجها للمسرح القومي (شاكر عبد اللطيف) في عام 1977، وبعدها بعامين عرض له المسرح القومي – أيضا – مسرحيته الثانية (الفارس والأسيرة) عام 1979 من اخراج (د. عوض محمد عوض)، ثم عرض له المسرح القومي مسرحيته الثالثة (لعبة السلطان) في عام 1986 من إخراج (نبيل الألفي) .
ونفس الشيء الذي حدث مع د. فوزي فهمي، حدث – أيضا- مع الكاتبين (يسري الجندي ) و( محمد أبو العلا السلاموني) حيث إن نصوصهما، كُتب الكثير منها في الستينيات، لكنها لم تُعرض إلا في السبعينيات – فيما يتعلق بيسري الجندي – والثمانينيات – فيما يتعلق بالسلاموني – ومن هنا تصبح قضية المُجايلة غير دقيقة في مناخ، لا يتساوى فيه الجميع .
• مسرحيات قليلة عددا، قدمها للمكتبة المسرحية، بسبب انهماكه في العمل الثقافي العام، واستغراقه الكامل، في خدمة الحياة الثقافية، حين تولي عددا من المناصب المتعددة، التي استولت علي كل وقته ( كان آخرها رئيس أكاديمية الفنون) لكنها – من حيث القيمة الفنية – تُعالج قضايا مهمة، وحيوية، علاقتها مباشرة مع الواقع – وإن لجأ إلي التراث، كما فعل معظم كتاب المسرح، من الستينيات حتي اليوم، لأن نصوصه، تندرج تحت ما يسمي بمسرح (الاسقاط السياسي ) ذلك المسرح، المُعتمد علي الإبعاد الزماني، والمكاني للحدث، والمُحمل بالدلالات والرموز، التي من السهل ترجمتها لتعبر عن أشياء في الواقع، لكن المُعالجة التراثية، تمنح الكاتب حرية أكثر للتعبير، لا يوفرها المناخ، المُناهض لتلك الحرية، والمُراقب لها، وواضع المحاذير أمامها.
فكيف للكاتب – مثلا – أن يعبر عن هزيمة 1967 ، وما تركته من آثار، مُحددا المتسبب فيها، والمناخ لم يكن مهيأ للكتاب في تلك الفترة، ليعبروا عن تلك الكارثة ، بحرية ، لأن النظام – وقتها – لم يكن يسمح بهذا ، ( فضلا عن أن الرقابة لعبت دورا كبيرا في حجب عدد من المسرحيات، وأوقفت عروضا عالجت نفس الموضوع، بعد عرضها علي خشبة المسرح، وذلك خوفا من غضب الجماهير، وسخطهم علي سلطة الهزيمة ) ومن هنا جاءت تلك الحيلة الفنية، ليُسقط بها الكتاب، رؤيتهم تجاه ما يحدث، ولكن بشكل غير مباشر، وكما لجأ الكاتب ( علي سالم ) إلي أسطورة (أوديب ) مُعبرا – من خلالها – عن واقع الهزيمة في مسرحيته (أنت اللي قتلت الوحش) 1970 لجأ – أيضا – د. فوزي فهمي إليها في مسرحيته ( عودة الغائب) 1968 لكنه لم يتمكن من عرضها أيامها للأسباب التي ذكرتها .. عالجها بطريقة مُغايرة، عن الطريقة التي عالجها ( علي سالم ) في مسرحيته .
عند ( علي سالم) حين يتقدم كريون – في آخر المسرحية – لمواجهة الوحش الجديد لا يقع في نفس غلطة أوديب، فواجهه افتداء، وليس إنقاذا ( يضحي بنفسه في سبيل إثبات أن الفرد لا ينقذ أمه، وأن الشعب وحده هو القادر علي إنقاذ نفسه ) فلا يكاد ( يعود أوديب من مهمة التصدي للوحش، حتى تتلقاه الجماهير بصوت واحد، ونغمة واحدة : أنت اللي قتلت الوحش، وعبثا يحاول أوديب أن يرفع صوته فوق صوت الجماهير، المرة تلو المرة، لكنه يفشل في كل مرة، وتصر الجماهير علي أن تُنشد نشيدا واحدا لا يتغير : أنت اللي قتلت الوحش ) ” د. علي الراعي – المسرح في الوطن العربي – عالم المعرفة العدد 25 – الكويت – 1980 – صفحة 137″
ونري (علي سالم ) وكأنه يُعيد موقف الجماهير المصرية حين خرجت يومي التاسع والعاشر من يونيه 1967 لتنادي بعودة (جمال عبد الناصر ) حين أعلن مسؤوليته عن الهزيمة، في خطاب التنحي وإعلان المسؤولية، ويومها نادت به زعيما مرة أخرى، فهو القادر علي تخليص مصر من الوحش، أو قل مواجهة الهزيمة وتحقيق النصر .. كانت الجماهير صاحبة قرار، حتى وإن بدا موقفها غريبا، والغرابة تكمن في أنها نادت بعودته إلي الحكم برغم أنه كان سببا للهزيمة .
• ماذا فعل د. فوزي فهمي أثناء معالجته للأسطورة، لتكون مغايرة عن معالجة ( علي سالم) لها ؟
– تناولها مُؤكدا علي فكرة التمسك بالوطن وإنقاذه، وهذا هو الهدف الأسمى، بالاعتماد علي الشعب، وليس الحاكم المنقذ – بمفرده – بعيدا عن الجماهير. الحاكم في نص ( فوزي فهمي ) دفع الجماهير ليدافعوا عن الوطن، بأنفسهم، لأنهم المنقذ، وليس (أوديب) المدنس بالهزيمة، ويخبرهم بإصرار، وعزيمة، مؤكدا علي قدرتهم للقيام بدورهم، وبأهمية صمودهم، ومواجهتهم للوحش، ويتركهم، ويرحل قائلا لهم ( من أجل طيبة، سأرحل عن طيبة). الكاتب هنا يؤمن بإرادة الجماهير، وفي نفس الوقت يقدم حاكما واعيا بالظروف الجديدة، التي دفعته ليجعلها في مقدمة المشهد وليس في الخلفية منه .
وكما يذكر د. عز الدين اسماعيل – ونتفق معه في هذا – أن الكاتب المسرحي – بشكل عام – حين يلجأ إلي الأسطورة، فلا ينبغي أن يلتزم بإطارها القديم، بكل دقائقه ( لأن ممارسته لشيء من حرية التحوير في هذا الاطار هو المنفذ الوحيد لنشاطه الابداعي ) وهذا بالفعل ما فعله د. فوزي فهمي .
آمن (أوديب) – في نصه – بالجماهير، وبقدرتها علي أن تقول (لا) في الوقت الذي ينبغي عليها أن تقولها، وحافظ علي الحدث الرئيسي للأسطورة، المُتعلق بتحقيق نبوءة العراف بأنه سيقتل أبيه ويتزوج أمه.
قدمه حاكما عادلا – علي الرغم من ارتكابه خطيئة قتل الأب، وزواج الأم – عاش المأساة حتي آخرها، بسبب الدنس الذي حققته النبوءة، لكنه وجد حلا للخروج من مأساته، ومواجهة القدر التراجيدي، وهو أن يكون قريبا من الجماهير، يدفعهم نحو الدفاع عن انسانيتهم، وحريتهم، ووجودهم، وضد الاستعباد، مخاطبا إياهم “سنبني طيبة بالنضال ضد الزمن، وضد القدر، سأحتمل لوعتي، وسأمضي ليوم النصر معك – أي الشعب – ولا تنازل، ولا تراجع عن السير في الطريق الصحيح مهما كان الثمن”. ويفضح النص موقف المقربين منه، وقد تحولوا إلي أعداء ( كريون- تريسياس) يحيكون المؤامرات ضده في الخفاء، ويعرقلون مسيرته، حين اختار الانحياز للشعب، فأصبح حكيما في رؤيته للأمور، ومدافعا عن أحلام الفقراء، ضد المستغلين المتاجرين بقوتهم، ويتساءل : “لما الإصرار دائما علي أن الحياة ترتبط بالعذاب؟”.
رسم د. فوزي فهمي الصورة الصحيحة للحاكم، تلك التي تساعده علي مواجهة الصعاب، وقهر العراقيل .
• علي الجانب الآخر يستمر ( كريون) في غيه، وكراهيته لأوديب، مُعلنا رغبته في الوصول إلي حكم ( طيبة ) خاصة حين علم بحقيقة ( أوديب) وكشف سره. وفي تلك اللحظة، يقوم (تريسياس) بتحريض الجماهير، ضد (أوديب ) باعتباره رمزا للدنس، وهذا سبب للهزيمة وضياع طيبة. ويخبرهم بأنه أصبح من الضروري أن يتحمل (أوديب) مسؤولية ما فعله وحده، لعلمه بحجم ما أقترفه من أخطاء، لكن الجماهير التي نمي وعيها نتيجة تحريض (أوديب) لتنشيط هذا الوعي، واجهت (تريسياس) وأخبرته بأن اللعنة التي يتحدث عنها مجرد وهم .. وحجة للسيطرة عليهم، وإضعاف إرادتهم، وهنا يكشف عن وجهه الحقيقي المتستر بالدين، حين يقول لهم : ( للدين أسراره) ..
وعي د. فوزي فهمي المُبكر ، وفهمه لطبيعة المستخدمين للدين ، من أصحاب الاسلام السياسي ، نجده حاضرا في هذا النص ، فتلك ذريعتهم للوصول إلي السلطة .
لكن ( أوديب ) يدفع الجماهير إلي التماسك بعيدا عن الخوف ، ويبث فيهم العزيمة ، والقدرة علي المواجهة ، ويُعبر عن حبه لهم ، ويودعهم راحلا ، حين أيقن أنهم أصبحوا قادرين علي حماية طيبة ، ومواجهة أي حاكم ، يُضعف ارادتهم ، ويعلن أنه لن يفقأ عينيه – كما قالت النبوءة في الأسطورة – لأنه لا يعترف بالعقم ، ويتمني أن يكون في تراب طيبة مرقده ، وتنتهي المسرحية .
– تلك المعالجة ، لم تلتزم كثيرا بما جاء في الأسطورة الأصلية ، وان حافظت علي الحدث الرئيسي – كما ذكرت – لكن الكاتب ، حور فيها وغير ، بما ساعده علي توضيح الرؤية التي أرادها ، حين استدعي الأسطورة من التاريخ اليوناني ، ليؤكد بها علي القيم الجديدة التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم ، والشعب ، لمواجهة الهزيمة ، والانتصار علي الأعداء .
وفي مسرحية ( الفارس والأسيرة ) 1978 ذهب – أيضا – إلي الأسطورة الإغريقية ( اند روماك) ، والتي تناولها شاعر التراجيديا اليوناني ( يوربيديس) في مسرحيته ( أندروماخا ) وتناولها بعد ذلك ( راسين) عام 1668 ، وكتبها د. فوزي فهمي في الفترة مابين ، زيارة (أنور السادات ) إلي إسرائيل ، في نوفمبر 1977 ، و توقيع اتفاقية ( كامب ديفيد ) سبتمبر 1978 ، ويبدو أنه أراد معالجة فكرة الحرب والسلام ، انفعالا بهذين الحدثين السياسيين ، فوجد غايته في تلك الأسطورة ، لأنها تناولت الحرب التي نشأت بين المدن اليونانية ، من ناحية ، وطروادة من ناحية أخري ، وما تسببت فيه هذه الحرب من مآسي وعذابات .وكان من نتائجها ، أن وقعت ( أندروماك ) زوج ( هكتور) البطل الطروادي في أسر ( بيروس ) ابن أخيل بطل اليونان الذي قتل ( هكتور) . وعاشت ( أندروماك) مع ( بيروس ) الذي لم يكن يُحب الحرب ، وأراد أن يعيش في سلام ، لكنه لم يستطع ، لأن المحيطين به ، كانوا يدفعونه إلي خوضها ، لكنه ( أعلن أنه لا يمكن للإنسان أن يحيا عمره ملفوفا في كفنه ) ويبدو أن د. فوزي فهمي وجد فيها بغيته ، ليُعالج الموضوع الذي أراده – بما يتلاءم والمتغير الجديد – وأعني به اتفاقية السلام مع اسرائيل ، صحيح أنه لم ينحاز بشكل صريح ، لاتفاقية السلام ، مؤيدا لها ، أو رافضا ، لكنه أراد التعبير عن فكرة ( السلام ) كفكرة مجردة ، لحل الصراعات ، والمنازعات الدولية ، وكان حريصا – أثناء معالجته للفكرة – علي ألا يقع في مشكلة التأييد بشكل حتمي ونهائي ،لأن الأمر – بالطبع – يختلف في الصراع العربي الإسرائيلي عنه فيما حدث أثناء الحرب الطروادية .. فماذا فعل ؟ تعرض – اسقاطا- لمشكلات المجتمع المصري ، في ظل الحرب التي تمت ، والسلام المطروح ، وتناول في مسرحيته نتائج الحرب اليونانية الطروادية ، وخسائرها ، صحيح أنه تناول صورا كثيرة ، تكشف حجم الخسائر التي تأتي نتيجة الحرب ، بما يدفعك لاتهامه بتأييد الاتفاقية ، ولكنه كان واعيا لذلك المأزق الذي يمكن أن يقع فيه ، ومؤمنا في نفس الوقت ، باختلاف الصراع ، علي أرض الواقع ، عنه في الأسطورة اليونانية ، فرأيناه يؤكد علي أهمية تحقيق العدل لكي يتحقق السلام ، فنري ( بيروس ) الحاكم يقول ( قدر علي أن أكتم بلواي وتتكسر في صوتي آهات الحزن ، ومهما انشق الصدر مني فلابد أن يكشف عن انسان يصمد لكل محن العمر ، سريري غابات حراب ، لكني أصفع وجه اليأس ، أتجاوز عذاباتي مؤمنا أنه كي تورق سنابل هذي الأرض ، لنسد دروب الحزن ، لابد للوطن أن يشيع فيه الأمن ، أن يمتد إلي أطرافه الظل ، ليحمي اليتامى والأرامل من هجير الفقر ، أن نردم هاوية البؤس ليلد الخصب ، طوفان حب يغمر الكون ، ويطفئ نار الحقد ) صفحة 27 من النص المطبوع – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مسرحيات مختارة -1979
ونجده أثناء استعراضه لموقف ( بيروس) الرافض للحرب ، جعله مؤمنا بها ، ومصمما علي خوضها إذا كانت الأسباب جوهرية ، كأن يستولي الأعداء علي الأرض .
وفي عام 1986 كتب مسرحيته الثالثة والأخيرة ( لعبة السلطان) واعتمد علي التراث الشعبي ، واتخذه أداة لمعالجة أحداث تاريخية تتعلق بعصر ( هارون الرشيد ) متناولا طبيعة الحكم في تلك الفترة ، مُسقطا إياها علي مصر الثمانينيات ، ومعالجته للحدث التاريخي ركزت علي قضية علاقة المثقف بالسلطة ، حين ركز علي العلاقة التي كانت بين ( جعفر البرمكي) و( هارون الرشيد) ، علاقة الصداقة القوية بينهما ، لم تمنع الحاكم ، من الاقدام علي قتل ( البرمكي) لمساندته – من وجهة نظر الحاكم – للمعارضين له حتي أنه قال له ( الأشرس انتصر علي بك) .
وبتلك المُعالجة استطاع المزاوجة – في نصه- بين الشعبي والتاريخي ، الشعبي المشير إلي الحاضر ، ويمثله أبطال العمل ، من المحبظين ، الذين يعيدون تمثيل الوقائع التاريخية ، ويؤدون شخصياتها ، مستخدما ( صندوق الدنيا – الأراجوز) والتاريخي المتمثل في حادثة مقتل ( البرمكي) . وفي النص يلجأ الي تكنيك المسرح داخل المسرح ، تلك التقنية التي أتاحت له امكانية الانتقال بين زمنين ومكانين مختلفين ، مستخدما بعض عناصر الفرجة الشعبية .
يتناول العلاقة – كما ذكرت – بين ( جعفر البرمكي) والرشيد ، وكيف أنه زوجه أخته ( العباسة ) ابنه الخليفة المهدي بن المنصور العباسي ، واسمها ( عليه ) زواجا صوريا ليبيح لها الالتقاء في مجالسه الأدبية ، دون حرج ، إلا أن البعض أوعز إلي الخليفة ، أن ( البرمكي) عاشر اخته سرا ، فكان هذا الفعل مبررا لقتله ، والتخلص منه ، خاصة ، وأنه ساند ( ابن الأشرس ) المثقف الشاعر . وقد يتساءل البعض : لماذا لم يزوجها له رسميا ، وهو صديقه الوفي ؟ والإجابة : لأنه كان (أعجميا ) وهي ( قرشية)، وعلي الرغم من تشكيك بعض الباحثين في رواية الزواج الصوري ، إلا أن د. فوزي فهمي ، التزم بها ، وجعلها حجة ، لكي يتخلص الحاكم من صديقه الذي عارضه ، وساعد خصمه ( الأشرس) علي الهرب من السجن ، بعد فك أسره ، ليبدو الأمر أمام الناس ، بعيدا عن الأسباب السياسية !
– في المُعالجة ، أوضح الكاتب ، كيف كان ( هارون الرشيد ) ديكتاتوريا ، يقوم باتهام المعارضين لسياساته ، بالزندقة ، ليجد مبررا لقتلهم ، وهذا ما كان يقاومه ( البرمكي) ، وكيف أن ( العباسة ) شقيقة ( الرشيد ) حاولت إثنائه عن ممارسة الظلم والجبروت ، لكنها فشلت معه . كما فشل معه – قبلها – ( البرمكي ) : الذي خاطبه الرشيد قائلا ( الحاكم القوي يا جعفر ، من يعرف كيف يحمي نظامه السياسي ، دون أن يخاطر بحياته كشخص ، وهذا أمر يعرفه كل من يقترب من سريري ، وأنا يا جعفر ما زلت الحاكم القوي ) .
وما حكاية اللعبة ، التي لعبها ( هارون الرشيد ) لتكون هي عنوان المسرحية ، ومحورها ؟ تكمن في أن ( هارون الرشيد ) أراد المحافظة علي قوته أمام الناس ، تلك التي شعر بأنها اهتزت ، بعد فك أسر خصمه ، فأشاع بأنه هو الذي أطلق سراح ( ابن الأشرس) ، متهما ( البرمكي ) صديقه بالخيانة ، ويخبر الناس بذلك ، مؤكدا علي عدالته ، بينما علي الجانب الآخر ، يتخذ قرارا بقتل ( جعفر) ، وحين يأتي ( الأشرس) لحمايته ، سيقتله هو الآخر ، تلك هي اللعبة التي أرادها ، ليتخلص من الأثنين ،لكن المؤلف ، لم يجعل اللعبة ، تتم بالسيناريو الذي رسمه ( هارون الرشيد) – مكتفيا فقط بقتل ( جعفر البرمكي) ليؤكد علي استمرار فعل الثورة ممثلة في (الأشرس ) الذي سيواصل النضال ضد ( هارون الرشيد ) الحاكم الظالم .
– لقد عكست تلك النصوص ، موقف مؤلفها من الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية ، والانسانية ، ورؤيته ، التي تبنت الأفكار المستنيرة ، المُنحازة لقيم الحرية ، والحب ، والعدل، وهي قيم ، تحدثت بها وعنها شخوص مسرحياته ، ورافضا لقيم : الظلم والاستعباد والقهر والقمع ، تلك التي نطق بها – ايضا – شخوصه ، وهو في كلا الحالتين ، كان صادقا ، ذلك الصدق الفني ، الذي جعلنا نتفاعل مع نصوصه ، حتي وهي بين دفتي كتاب ، ونشير أيضا ، إلي البناء الدرامي المُتماسك ، والبُعد التراجيدي ، الموجود ، في بعض شخوص مسرحياته ، عكس قدرته التعبيرية ، واللغوية ، التي تحدثت بها شخوصه ، ونطقت بها ، فبدت اللغة ، بإيقاع ، يشبه إيقاع الشعر ، وما هو بشعر ، وتلك سمة ، تستطيع أن تضع يدك عليها بسهولة ، وأنت تقرأ النص ، أو تشاهد أحداثه ، علي خشبة المسرح ، وهذا ما شعرت به – بالفعل – بعد مشاهدتي لعرضي ( عودة أوديب – لعبة السلطان ) المُسجلين .