بالصور… تجربة مسرحية بكوريا الجنوبية/ حافظ خليفة)تونس

المسرح فن عظيم يتجدد ويختلف ويتطور ويتميز ويتفرد بمدى ايمان الشعوب به باعتباره قوة من القوى الناعمة التي من شانها ان تنقل ثقافة الشعوب وتكون جسرا للتحاور و ترجمانا للحضارة, وهذا لا يكون الا بوعي كبير لارادة السياسة الثقافية لكل بلد.
شاركت مؤخرا بالملتقى الدولي للمسرح بمدينة يونجين القريبة من مدينة سيول عاصمة كوريا الجنوبية من 15 الى 18 يوليو 2024.
لطالما كتبت ايمانا مني بان السفر اكبر فائدة لاكتشاف التجارب المسرحية عن كثب, وهو افضل وسيلة من القراءة المتاحة حولنا عن المسرح وامامنا بكل وقت, و لان المسرح لا تنتهي جدواه بالفعل الابداعي على الخشبة, بل المهم ان يصل الى الناس بالوطن وخارجه, و لطالما نظرت الى بلدان الشرق الاقصى بشكل مبهم بالرغم من التقائي بجنسيات شعوبه بقامتي لسنين و لازلت بروما بايطاليا ,و لكن نعلم جيدا ان البلد يختلف كثيرا عن المغتربين فهو الاصل و الحقيقة المثلى.
لطالما سمعنا بكوريا الجنوبية وما تحققه من ريادة الان في عالم التكنولجيا والصناعات الثقيلة, وهذا لم ياتي من فراغ فهو نتيجة معجزة بشرية لملحمة انسانية بطلها المواطن الكوري الذي حول بلده الخالي من الثروات الطبيعية الى قطب اقتصادي عالمي, ومثال يحتذي به عن قدرة الذكاء البشري في خلق التحولات وصناعة المصير
شمل الملتقى على اربعة اجزاء :
1- يومين من بسط التجارب في ادارة المهرجانات والتعريف بتفاصيلها، وكانت من المشاركين وعلى غرار تونس (التي كانت ممثلة من خلال تجربة المهرجان الدولي للمسرح قي الصحراء) , الصين وبلغاريا وصربيا ومقدونيا والهند وسيريلانكا وتركيا, المهرجان الدولي بوسان للعروض الفنية بكوريا الجنوبية.
عرّفنا بمهرجاناتنا وتحاورنا عن سبل التشاركية والدعم وطرق الادراة ومنهجية البرمجة وخصوصية الفكرة وتفردها، مما يجعلها مختلفة ومتميزة لكل مهرجان الخ.. وما شد انتباهي الحضور اللافت للصحفيين والشباب, ومداخلاتهم الذكية وتساؤلاتهم حول بلداننا وتفاصيل مهرجاناتنا , مما ينم عن فضول كبير للاكتشاف والمعرفة والرغبة في التواصل.
2- يوم حواري تسويقي التقينا فيه بفرق مسرحية كورية والملفت للانتباه ان اغلب الفرق والاعمال المقترحة والحاضرين كانوا من الشباب وهي اعمال مسرحية متنوعة تتراوح بين المعاصر والتجريبي والكوريغرافي والموندراما وغيرها.
3- يوم لزيارة المتاحف للتعرف عن تاريخ البلد داخل مباني مذهلة تكنولوجيا في كيفية حفظ وتقديم الاثار والموروث والتحف وحتى الهندسة المعمارية الحديثة للمتحف الوطني
4- حضور و مشاهدة لعروض مسرحية ( انتيجون و هاملت)، وزيارة الى اكاديمية مسرحية للشباب.
وحتى لا اسقط في الجانب التقريري لمدونتي هذه, اعطي بعض ملاحظاتي حول هاته التجربة الهامة:
– ان زيارة هذا البلد تعد خطوة وفرصة كبيرة جدا حتى تكتشف حجم الاختلاف والبون الحضاري الشاسع , في طرق العيش والتفكير والانضباط والمحافظة على البيئة والدقة في المواعيد والنظافة وحسن التنظيم والاستقبال وكرم الضيافة.
– لاحظت قبل السفر بأشهر حجم دقة التواصل واحترافيته عبر البريد الالكتروني للمتبعة والتنسيق
– لم يكن سهلا استيعاب طلب الفتاتين اللتان استقبلتانا بالمطار بامتطاء الحافلة الى مقر نزل الاقامة , والذي تلاه فهم ان اسهل و اسرع وسيلة للوصول انّا تريد هو استعمال الحافلات او القطارات , التي هي في اعلى درجات الفخامة والمكيفات تحاشيا لزحمة المواصلات مما يضيف كثيرا من الوقت , والتي لها بكل الطرق معبر خاص لا تسلكه السيارات .
– كان البرنامج دقيقا بعدد الدقائق و الثواني و لا ابالغ في هذا الامر , فلا مجال للتاخير والارتجال او تغيير اي فقرة من البرنامج العام.
– بعد رجوعنا تصلنا رسائل الكترونية من طرفهم للمتابعة والاطمئنان على وصولنا سالمين الى اوطاننا, ويدعوننا بكل ادب وهدوء الى مراسلتهم لموافاتهم بشروط ووضعيات المشاركة بمهرجاناتنا, وعنوان العمل المسرحي المختار ،ان وقع الاختيار ,و التزامهم بالمساعدة لاية مساعي من اجل انجاح التبادل على مستوى تشريك المسرح الكوري بمهرجاناتنا و لرفع تقرير لادارتهم كي يضمنوا التمويل اللازم لسفر هاته الفرق الشابة.
– 99% من العاملين و الموظفين و الادراة هي من الشباب و الشابات ,و هنا لا اقصد انه ملتقى او مهرجان شبابي ,بل ما اكتشفته ان نسبة العمر لديهم تختلف عما لدينا(علما و ان اعمارهم تحسب سنة منذ لحضة الولادة ), نتيجة الكثافة المعرفية بالدراسة و العمل التي تجعلهم سابقين في تجاربهم ووعيهم بما يقومون به من العمر المفروض ان يكون حسب وتيرة حياتنا و ايقاعها ,و خاصة هيمنة الشيوخ على كل تفاصيل و دواليب الدولة و الادارة العميقة و المسؤوليات و البرمجة و الفعل و التواصل و حتى الابداع و التسويق.
– هناك قوة تشبيب ملحوظة و ارادة قوية من السلطة السياسية و الثقافية لترويج الثقافة عموما و المسرح الكوري خصوصا ,و هي قوة ناعمة نجحت فيها كوريا الجنوبية بالوقت الحالي من خلال انتشار الموسيقى و المسلسلات بالنات فليكس و غيرها من المنصات العالمية و من خلال تصدّرها اعلى نسب المشاهدة و المتابعة.
– من خلال العروض التي شاهدناها هناك اتجاه ملحوظ نحو التجريب و توظيف قوة الامكانيات التقنية بمسارحهم المكتضة بالمشاهدين من الشباب ,و التي يحجر فيها استعمال الهاتف الجوال او حتى التصوير او حتى الوشوشة او الخروج .
– التقينا بمسؤولين سياسيين مثل عمدة سيول (بمثابة المحافظ او الوالي لدينا)و هو شاب متواضع و محب للمسرح و الثقافة, و كان تواصله معنا في غاية اللطف و الرقي.
– لاحظت نسبة كبيرة من تواجد التلاميذ و الاطفال بالمتاحف التي زرناها
– هاته الزيارة درس كبير في كيفية البرمجة و التواصل و تحديد الاهداف و تحقيق النتائج لاي معد او مدير لمهرجان, فالجدوي بالطرق و التجديد و التحديث و التنوع و سبل القرب و جلب الجمهور ,لا بالسيارات الخاصة و الاقامات الفخمة و الدعوات لشخصيات هاوية للسياحة المسرحية تحت مسمى وهمي “ضيف شرف”.
و بالاخير لا يفوتني طبعا اتحدث عن الحياة العامة للكوريين فالتدخين ممنوع حتى بالشوارع الا في بيوت خصصت لذلك, و لا ترى قمامة ,علاوة على تنوع اكلاتهم و ثراءهم المادي و المعنوي و طقسهم المداري الرطب الممطر ,و الذي جعل من شوارعهم تكسوها الخضرة في كل ناحية.
هناك كلمة كنت اسمعها يرددها الكثيرون عن كرويا الجنوبية ..انها كوكب.. نعم كوريا الجنوبية ليست بلدا بل كوكبا اخر..بلدا تتمنى ان تكون بلادك و لو لجزء بسيط شبيها له, خاصة على مستوى النظافة في الحياة و العقلية و الايمان ان بناء المستقبل لا يكون الا بالشباب و ان اكبر قوة لاي بلد ليس ماضيه او جيوشه ,بل القوة الناعمة المعتمدة على الثقافة .