حدود السينوغرافيا والدراماتورجيا عند عبد المجيد الهواس
أهم ما يميز تجربة عبد المجيد الهواس الإبداعية هو ملمح الشمولية وتنوع المنجز. إنه فنان شامل يجمع بين كتابة القصة القصيرة، والتشكيل، والإبداع السينوغرافي، والكتابة الركحية الشاملة. صدرت مجموعته القصصية “الليالي البيضاء” سنة 1993 ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب. غالبا ما يُختزل منجز الهواس في السينوغرافيا، وهو الحقل الذي أبدع فيه بقوة خلال 30 سنة الأخيرة مع فرق رائدة مثل (مسرح الشمس، مسرح اليوم…)، ورفقة مخرجين مرموقين: عبد الواحد عوزري، وفوزي بن سعيدي، وبوحسين مسعود، وعبد العاطي المباركي، وأسماء هوري، وأحمد حمود… والحال أن المتتبع لمسار الهواس المسرحي يلاحظ انعطافة الرجل أكثر فأكثر اتجاه الإخراج المسرحي، خلال السنوات العشر الأخيرة خاصة داخل فرقته وبيته الرمزي (مسرح أفروديت). ولعل مراجعة قائمة أعماله تؤكد بالملموس هذه الفرضية: (“امرأة وحيدة”، 2001)، (“شجر مر”، 2004)، (“شتاء ريتا الطويل”، 2005)، (“نوستالجيا”، 2006)، (“فيول أنسين”، 2007)، (“حديقة معلقة”، 2007)، (“آش بان ليك”، 2010)، (“لالة جميلا”، 2014)، (“شكون انت؟”، 2012)، (“سكيزوفرينيا”، 2013)، (“رجل الخبز الحافي”، 2015)، (“في انتظار عطيل”، 2017)… إلى (“ما تبقى لكم”، 2023)، وهو عرض يبسط القضية الفلسطينية وجعلها منطلقاً للتفكير في مآلات الفلسطيني وغربته على لسان الكاتب غسان كنفاني…
بالنظر إلى الهواس، يحمل المسرح لقب “أبو الفنون” بجدارة، لكنه لا يعرض فنونًا أخرى بشكلٍ مجرد، بل يوظفها في قالب درامي متماسك يخدم غاية محددة. تتحول الفنون المختلفة داخل العرض المسرحي إلى أدوات تساهم في بناء مادية الفرجة، فتنشأ لوحة بصرية وصوتية متكاملة يختبرها الجمهور لحظة العرض. إن المسرح عمل فني تركيبي تحكمه نفس المعايير التي توجه الفنون الأخرى في صياغة موضوعها الفني.
يغوص هذا الكتاب في أعماق التفاعل الديناميكي بين الفنون التشكيلية والسينوغرافيا، ويكشف النقاب عن الحوار المستمر بينهما. كما يتناول نقاط قوة السينوغرافيا وأهميتها في تحقيق التجريب والإبداع الفني المسرحي. يسعى الكتاب إلى إثراء المكتبة العربية بهذا المجال المتخصص، وإثارة النقاش حول العلاقة بين الفنون التشكيلية والمسرح، وتقديم رؤية نقدية للتجارب السينوغرافية العربية. ونأمل أن يكون هذا الكتاب مفيدًا للباحثين والمهتمين بالمسرح والفنون التشكيلية.
يركز الهواس على أهمية استكشاف العلاقة بين الفنون التشكيلية والمسرح من خلال منظور السينوغرافيا. فهناك جدل دائم بينهما، وتسعى الفنون التشكيلية باستمرار إلى تجديد وسائل تعبيرها لتعزيز قدرتها على إيصال المعنى. ويبرز هنا دور السينوغرافيا وما يحيط بها من مميزات، ومنها قدرتها على التكيف، وتنظيم الفضاء بين المؤدي والجمهور، وتصور هندسة المسرح، وابتكار مجالات أداء تستوعب عناصر بصرية وسمعية متعددة. من خلال عملية امتزاج هذه اللغات الفنية المختلفة، تصوغ السينوغرافيا رسالتها الدرامية، لتخلق سردًا متعدد الأوجه يتجاوز قيود النص الأدبي البحت.
ما هي معالم انعطافة الهواس نحو مفهوم السينوغرافيا الموسعة؟ وهل يمكن تفسيرها من حيث هي رغبة دفينة لدى الهواس للانعتاق من جلباب “السينوغراف”، بهدف استشراف آفاق الدراماتورجيا الركحية بشكل أرحب. قد يقرأ البعض منا هذه الانعطافة بأنها رغبة في قتل السينوغراف بداخل الهواس. لكن، حسب اعتقادي المتواضع، فهي أيضا تمرد على وظيفة السينوغرافيا وتوسيع مجالها لتصبح كتابة شاملة وغير قابلة للاختزال أو الخضوع لرؤية إخراجية أحادية. وقد عبر عن هذا الأفق عبد المجيد بتوصيفه للسينوغراف من حيث هو مخرج سري…. فحتى حينما شاهدنا الهواس السينوغراف في تجربة “ها بنادم” (عن مسرحية “رجل برجل” للكاتب المسرحي الألماني بيرتولد بريشت) مع المخرج محمد زهير والفرقة الجهوية لجهة الرباط الزعير، فقد بدت سينوغرافية الهواس مشاكسة وأحيانا مستفزة لاختيارات المخرج، وذلك من خلال المنحى العمودي vertical الذي فرضته السينوغرافيا عكس اللعب الأفقي الذي اختاره المخرج. إنه استفزاز خلاق يمنح السينوغرافيا مكانة خاصة في سيرورة الكتابة الركحية الشاملة. ومن تم، يجعلها تتبوء مكانة مرموقة ضمن صيرورة الإنتاج المسرحي.
وقد بلغ هذا الاستفزاز الخلاق ذروته في تجربة “دموع بالكحول” للمخرجة أسماء هوري. ونظرا لإيمان هوري بمنطق إلغاء التراتبية بين مكونات العرض المسرحي، فقد تم توظيف كل من النص الدرامي، والممثل، والفضاء، والزمن، والإضاءة، والملابس، والموسيقى الحية، والمنجز السينوغرافي… بطريقة متزامنة ومتساوية وبمعزل عن مركزية أحد المكونات وهيمنتها على الأخرى… وهذا في حد ذاته اختيار ذكي من طرف المخرجة. إنه أسلوب ما بعد درامي فيما يخص دراماتورجيا الفرجة وتعاطيها مع مكونات العرض المسرحي، دون التخلي عن الدور الريادي للمخرج بوصفه قائدا لكل أعضاء الجوقة…
وهنا أيضا، لاحظنا تألق الهواس في إبداع سينوغرافيا متفجرة تنطلق من انسداد الأفق، من خلال إبراز حالة “اللا مخرج” No Exit، وخشبة شبه فارغة، وجدار خلفي يعكس صدى تصدع الشخصيات وهي تثوق إلى البوح في تدافع للإمساك بميكروفون مثبت في مقدمة الخشبة نحو الجمهور. لقد ساهمت سينوغرافية الهواس – بما فيها إضاءة العرض التي نعدها جزءا لا يتجزأ من السينوغرافيا- ضمن تجربة “دموع بالكحول” في إلغاء الحدود ليس فقط بين مكونات العرض المسرحي، والركح والصالة، بل أيضا بين المسرح وباقي فنون الأداء. فقد لاحظنا تدافع المؤدين نحو الميكروفون من أجل تحقيق وهم ذلك التدفق المفاجئ لدواخل الذات ومعاناتها وانكساراتها. وهنا تحديدا يصبح الميكروفون الآلية التي تمكن من تحقيق عملية البوح، من جهة، ووسيلة الانفتاح على الآخر (الجمهور)، من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. فاستعمال الهواس للميكروفون ينم عن إدراك عميق لأهمية توظيف ممكناته بوصفه جهازا إلكترونيا يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للممثل. وهنا أيضا نكون إزاء قطيعة مع التمثيل المصطنع والاندماج مع الشخصية. كما أن نص المونولوج، غالبا ما يقدمه الممثلون/ المؤدون وهم في وضعية جسدية ثابتة لا تعكس تعبيرا معينا، وهي وضعية أشبه بالقناع المحايد لدى جاك لوكوك؛ وهذا القناع يزيح الاندماج الكلي في الشخصية…
اشتهر عبد المجيد الهواس في المشهد المسرحي المغربي، كما أشرت في البداية، بوصفه سينوغرافا أولا وأخيرا؛ وذلك بالنظر إلى تراكم إبداعه في المجال، ورئاسته لشعبة السينوغرافيا داخل المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط لسنين طويلة. وهو اليوم أيضا الرئيس المؤسس للجمعية المغربية للسينوغرافيين التي أنشئت سنة 2018. لذلك أجدني مضطرا لإبراز هذا الملمح في تجربة الرجل قبل التطرق للدراماتورجيا الركحية، وهو أفق اشتغال الهواس في الآونة الأخيرة والذي سبق أن أسميته بـ: “الانعطافة”. رفقة الهواس والثلة الكريمة من فرسان البحث السينوغرافي بالمغرب، أمثال يوسف العرقوبي وعبد الحي السغروشني، نلحظ ازدهارا لم يسبق له مثيل للسينوغرافيا في المنجز المسرحي المغربي المعاصر. ولعل أهم ما يميز تجربة الهواس السينوغرافية هو ذلك الترابط القوي بين النص والصورة التي تصبح امتدادا مشهديا وتمظهرا لأحد جوانب النص الخفية بأسلوب شاعري ماتع. في أغلب الأحيان تتبلور سينوغرافية الهواس بموازاة مع النص في أفق التعليق عليه واستفزازه من خلال تفجير صور شعرية مشهدية.. إنه مدرك لقدرة الصور غير المعتادة على إضفاء شعرية خاصة فوق الركح. ففي مسرح الهواس، لا يعيد البصري إنتاج ما هو لفظي؛ كما لا يحتل البعد البصري الدرجة الثانية بعد اللغة، وذلك لكونه يمتلك لغة خاصة به.
يسعى الهواس لابتكار صور بصرية متناغمة مع روح النص، صور إيحائية أكثر منها توضيحية لكلمات الكاتب. يؤكد الهواس ذلك في دراسته الموسومة بـ: “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، إذ يقول: “فبروز السينوغرافيا بوصفها كتابة في الفضاء ولدت أبعادا درامية تجاوزت المنطوق، مستفيدة وبشكل مميز من تنافي الحدود بين الفنون”. لقد أدرك الهواس التغيرات العميقة على مستوى بنيات إنتاج الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة بسبب مجموعة من العوامل. ولعل أبرزها تفاعل المسرحيين مع الفنون الأخرى المجاورة مثل فن الأداء performance art والفرجة الخاصة بالمواقع site specific performance ، والفنون التشكيلية، والتنصيبات الفنية الأخرى، بالإضافة إلى اعتماد وسائط وتقنيات رقمية جديدة أثناء صناعة الفرجة. من هنا أصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة دراماتورجيا بصرية، ومؤثراتٌ رقميةٌ (قلّما أمكن إخضاعها للنّص الدرامي).
من خلال تجربة “سكيزوفرينيا” (إبداع مسرح أفروديت 2013) نلاحظ تعدد مستوات الحكي وتحكم دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية في إنتاج العرض المسرحي وتلقيه. وهي دراماتورجيا قلّما يمكن إخضاعها للنّص الدرامي. تضع الصيرورة الوسائطية اللغات الواصفة موضع تساؤل، كما تستلزم الدفع بالجمهور إلى اختبار هاوية التمثيل representation باستحضار وسيط معين ضمن وسيط آخر. ورغم أن التراتبيات والاختلافات بين الحضور الحي والنسخة المسجلة (كالإحداثيات المكانية والزمنية، والفروقات بين الأصل والنسخة) هي متداخلة فيما بينها، فإنها تزحزح الافتراضات المسبقة حول الحضور والتمثيل؛ وتعمل على تغيير إدراك المتلقي التائه وسط زخم من التشظي والتصدع المؤديان إلى انزلاق الدوال وتأجيل القبض على المعنى. وهذا التحول في الإدراك لا يقلل من جودة العرض، وإنما يؤكد – كما ترى الباحثة الألمانية إريكا فيشر ليشته- أن الأداء المباشر والأداء الوسائطي لا يختلفان كثيرا عن بعضهما البعض.
لقد تعمد الهواس منح شهادة الأم العازبة ومعاناتها مستويات عدة تقرب المتفرج من مآسيها: “المرأة التي تحكي قصتها حاضرة على الركح مرة تجالس شخصا وهميا ومرة في حكي مباشر مع الجمهور… هي بين حالات من الفتور تارة ومرة في تصعيد ساخر يشبه الهيجان. وفي الخلف شاشة تعرض امرأة قد تكون هي ذاتها. موصد عليها داخل مصحة عقلية في غرفة انفرادية موثقة بشرائط وتعيش حالات متناقضة مرة داخل السهو ومرة في حدة الهذيان. وعلى يمين الركح دمية توحي الى المرأة وهي طفلة، تقف على كرسي لتصل إلى حوض غسل الأواني. وبدل صوت قرقعة الصحون وتدفق الماء تتدفق عبر أناملها نوتات البيانو. فتصير هي العازفة التي ترسم الأجواء عبر دفق الموسيقى.” إنها حالة امتلاء تفرض نوعا خاصا من التلقي، إذ يصعب والحالة هاته تتبع مسار واحد وذلك بالنظر إلى تعدد المشاهد داخل المشهد الواحد. إنه اختيار جمالي يربك التلقي السلبي بإصراره على إرباك الحياكة الخطية لصيرورة الأحداث.
وفي ختام هذا التقديم الموجز أجدد امتناني للمبدع الباحث الحصيف عبد المجيد الهواس على تقاسم هذا الزخم الهائل من الأفكار النابعة من صلب ممارسته الإبداعية… تابعت مشروع الهواس عن قرب –بل أكاد أقول من الداخل- خلال العشر سنوات الأخيرة… إنه باحث ومبدع استثنائي، متواضع بحجم تواضع الكبار، باحث نهم يقرأ ويقرأ كل ما له علاقة بموضوع الدراماتوجيا البديلة، يمعن الإنصات ويتحاور بهدوء الكبار… لذلك يحق له أن يدافع عن طروحاته المنسجمة مع مشروعه الفني والبحثي بوصفه باحثا مبدعا…”