ظهرت السوداوية في العروض المسرحية العالمية والمحلية واخذت مدياتها بشكل كبير، حتى باتت الخطابات المسرحية تتشكل بناءا على هكذا رؤية متشائمة للعالم، اوصلت رسائل مشوهة للراهن المعاصر واوقفت سيلان التدفق الجمالي نحو الأفق القادم، هذا ما جعل كاتب متمرس مثل الكاتب (علي العبادي) ان ينظر إلى العالم بهكذا سوداوية لأسبابه الخاصة من ان يقوم بفرضية فانتازية مفادها : هو ان تقوم العين بمغادرة صاحبها ليشكل النص وفق هذه الرؤية المعتمة، حيث يبحث الرجل عن عينه ليجدها وليأمرها ان تعود إليه مرة أخرى ثانية، وبعد جدل كبير بينهما لم تقبل العين بالعودة فتعطي السبب، العين/ ماذا تريد مني
الرجل / ان تعودي الي كي اتمتع برؤية هذه الحياة
فتجيبة العين وهي توضح سبب المغادرة
انها لا تريد أن تحيا في هكذا عالم
العين / عالم سيء
الرجل/ اسوء منا
العين / نحن اطهر منه بكثير
ويستمر الحال إلى أن يضع الرجل راسه في حجر العين وينام ..ودلالات هذه الفكرة واضحة بوصفها تعبير جازم من قبل المؤلف عن رؤيته لهذا العالم وانه أققل ما يقال عنه انه عالم سيء، وسوء العالم بالتأكيد متأتي من كل ما يحيط به من سلوكيات وأفعال وتصرفات وقواعد وأنظمة. وما يدور هذا العالم على مستوى الفعل الجواني…. الخ، وما أوصله إلى هذا الركام القذر، الذي بات لا يطاق. حيث فضل الكاتب ان يعيش في ظلام وأن يناى بنفسه عن هكذا عالم فيه الخطيئة منقبة والحسنة مثلبة..
النص قراءة واعية واحتجاج كبير لسوء ما يحدث في هذا العالم على جميع الأصعدة بلا استثناء، لكننا نسجل ثمة إشكاليتان، الاولى تتمثل على مستوى سوداوية النص حيث لم يدع الكاتب مجال لبصيص من امل قادم، وهذا عكس المنطق، لابد للقيد أن ينكسر، ولابد أن تتغير الموجودات بتغير وجودها الداخلي، وهذا يحتاج إلى تحفيز وعمل، لا ان نتخلى عن مسؤولياتنا اتجاه العالم، لأننا جزء منه وبالتالي نحن جزء مهم في التغيير. والإشكالية الثانية المعالجة الإخراجية، إذ جاءت متساوقة مع النص بمعنى الإخراج هو توأمة النص وكلاهما يمثلان رؤية واحدة، فالمكان غرفة مغلقة او مكان أشبه بالسجن يميل إلى العتمة، وكما مثبت في النص، نفس هذه الإشارات وجدناها في فضاء العرض، حيث قام ( المخرج / المؤلف ) من إيجاد مكانا خاصا للعرض ضمن هذه التوصيفات، رغم اني اجدها ظاهرا تقابل النص اما ضمن البنيات العميقة تخالف النص فلقد وجدت المكان غرفة تحقيق وكذلك قاعدة لقطع الشطرنج وكذلك استوديو مغلق له نافدة خاصة بها كانها الكنترول الذي يحرك الحدث، وكنت اامل ان يأخذ المكان بهكذا دلالات حتى يؤسس على ذات الانساق لتدوير فعاليات الخطاب باتجاه نظم توليدية وتحويلية أخرى سواء على مستوى النص او على مستوى الإخراج او كليهما، سيما وأن الرؤية الإخراجية فرضت جلسة رباعية للمتلقي كجزء من قوانين اللعبة التي فرضتها فرضية ( المؤلف / المخرج )، ومن هنا حركت الرؤية إنشائياتها الدرامية عبر حركة دائرية او ذات الاتجاهات الأربعة، فجعلت حركة الممثل الأول يتحرك ضمن المربع الواحد. ذات الأضلاع الأربعة. اما الممثل الثاني الذي يؤدي دور العين فجعلت حركته حرة وإن قيدته جلوسا مع المتلقي، وهذه إشارة إلى أنها اي العين مازالت مع العالم لاتنفك منه عكس الرجل الذي يتحرك بموازات العالم وليس في داخله كما العين، واستمر الحدث بالتصاعد عبر توزيع جغرافي للمكان لم يخرج عن إطار الاتجاهات التي حددتها الرؤية بل اكاد اجزم ان البناء العام للمكان هو الاساس الذي اعتمدته الرؤية الإخراجية بل هو رهانها الاساسي في معالجة النص.
اما الاداء فقد مال إلى تثوير الجانب العاطفي واستجلاء مشاعر المتلقي وخصوصا في بعض الموارد الإنسانية الخاصة، وملامح التأثير واضح، فقد اتصف الاداء بالحيوية عند الممثلين خصوصا شخصية العين كان أكثر في الإقناع من شخصية الرجل الذي اعتمد على البكائيات والشحن العاطفي أكثر من اعتماده على اداوات ادائية اخرى.
اما على مستوى التقنيات، فيمكن القول ان الموسيقى كانت بتقديري هي المحرك الأقوى في العرض حيث كان الاختيار والتنفيذ متماسكان صورا الفعل الدرامي بشكل ينسجم مع حركية المعالجة بشكل عام، اما الاضاءة فقد اعتمدت الرؤية على اضاءة النافذة الجانبية وهي مقصودة حتى عززت العتمة التي احاطت بالمكان، فلم تكن الاضاءة بمستوياتها الدلالية المعروفة بحسب تمثلاته في العرض الا انها أدت غرض الرؤية من وجودها …
ومما تقدم يمكن اجمال بعض المؤشرات العامة للعرض وهي على النحو الآتي:
اولا.. استطاع الكاتب ان يجسد الفرضية الفانتازيا بشكل يقنع القارئ او المتلقي ان ثمة بوح يمكن قبوله لقراءة الراهن في العالم.
ثانيا ..ثمة تطابق واضح ما بين الرؤيتين ( النصية / والاخراجية )، وهذه من الإشكاليات التي يقع فيها المؤلف/ المخرج.
ثالثا..بقي الخطاب محافظا على سوداويته ولم يعطي منتج العرض ثمة بارقة أمل للقادم، وهذه مخالفة للسنن الحضارية والمنطقية والفلسفية .الخ
رابعا..استثمر منتج العرض المكان بشكل كبير وبنى رؤيته الإخراجية عليه واصبح المكان هو الرهان الاساس في عملية التلقي..
اخيرا نشد على الجهود الكبيرة التي بذلت في إنتاج هكذا عرض مميزة بدون دعم من الجهات ذات العلاقة، وفي ظروف صعبة ضمن النشاطات اللاصفية في معهد فنون كربلاء ونتوسم بهم خيرا في ان يقدموا اعمالا اكثر جمالا وتجريبا..
ويمكن أن نذكر ما قاله رولان بارت في المسرح لنتعلم منه كيف يصيغ لنا ذلك المتحف الجمالي ويقراءة واعية .
إذ يصوغ بارت هذه الرؤية عندما يكتب عن المسرح، بلغة قوامها عدد من التعارضات الأساسية السطح مقابل العمق، الخارج مقابل الداخل، الخفة مقابل الثقل، العلامة مقابل الواقع، المسافة النقدية مقابل التوحد العاطفي، القناع مقابل الشخصية، الانقطاع مقابل الاستمرارية، الخواء أو الغموض مقابل امتلاء المعنى، الاصطناعية مقابل الطبيعية…وبهذا نبتعد عن ما ذكره بارت وتقترب عن ما جسده في المقابل ، لنحصل على عرض مسرحي متكامل العناصر.
* حيدر جبر الاسدي / ناقد عراقي