يقول ديستوفيسكي: “شدة الإدراك لعنة”، وبنفس المعنى أو ما يحذوه نجد الكثير منا ينعت نفسه بأنه عليل بالغوص بالتفاصيل الدقيقة وشدة الانتباه المفرط، والإدراك هنا معني بالمنظومة المنطقية التي يشتغل عليها الإنسان في بناء مفاهيمه ورؤاه الحياتية، واي فعل لتهشيم الصورة الذهنية كانت او الحسية تستدعي التأمل عميقا في دهاليز هذا الفعل اسبابه نتائجه رؤيته الفلسفية، بمعنى لا يمكن القبول بكسر المتلازمات المنطقية او ضرب التابوات او الخروج عن السياقات المعرفية دون أن يكون ثمة مراجعة فاحصة لهذا الشيء، والذي يقرأ نص “كي” للكاتب حيدر حسين ناصر يلزمه أن يقف ويتامل في الفرضية التي ساقاها لتأسيس بنيتة النصية بأسلوب كوميدي سوداوي وباطار ايروتيكي مبطن، وهو وبتقديري اي هذا النمط من الاشتغال في المتلازمات النصية حمالا للاوجه، كما سناتي تباعا لنفكك النص وفق المنهج الذي أشرنا إليه في المقدمة…
فمن العنوان الرئيس وهو “الكي” يقودك للبحث عن جوهر الفرضية او الفكرة الفلسفية فالكي كما هو مفهوم في الطب.
هو (ممارسة استخدام الحرارة لحرق جزء من الجسم لإيقاف نزيف أو إزالة أنسجة، وهو معروف أيضاً باسم إنقاذ حراري. يوقف الكي النزيف لأن مصدر الحرارة الشديد يقوم بإذابة أو إغلاق الجرح والأوعية الدموية داخل الجرح وحوله أيضاً.)، فمن سردية النص نفهم أن ثمة شخص عليل وهو في غرفة النوم ينتظر موته، ولكنه يبحث قبل أن يرحل عن هذا العالم عن حسنات علها تخلصه من نار جهنم، ومن خلال السياق يستيقظ هذا الشخص مرعوبا من حلم يراوده يوميا ليدخل عليه شخصا آخر وهو الحاجب بعد أن يسمع أصواتا من الغرفة،
الحاجب : ( يدخل مسرعا )، ماذا هناك يا سيدي؟
الرجل : لاشيء غير الكوابيس
الحاجب : كفاك تفكر بذات الموضوع.
بهذا المدخل ولج الكاتب لينثر ثيمه الثانوية ويعضد من الثيمة المركزية، ولكنه في بناءه لا يعتمد على البناء التقليدي للفعل، وإنما يحاول ان يغربه ثم يصدم القارئ بفعل غير متوقع اي كسر افق التوقع، بمعنى حين تقرا لتصل إلى معنى او نتيجة فإنه بنهاية الحدث سيقودك إلى نتيجة أخرى، وهذه متلازمه نصية تشمل مجمل النص، ثم اننا بعد ذلك نكتشف بان الرجل قد ارسل الحاجب إلى مهمة وهي البحث عن من يتبرع بالحسنات لأجل أن يدخله الجنة، وهذا يعني أن الجنة حتمية للفضلاء وبالتأكيد تحتاج إلى فعل فضيل وهذا هو السياق المنطقي لها، وكما موضح في القرآن والحديث والسير وغيرها، وقبل أن يوصلنا الى صدمات مرجعية أخرى فإنه يؤسس مع الحاجب عقبات فيها اسقاطات معاصرة، حيث يوضح الحاجب بانه لا احد يتبرع لهذا الرجل بحسنة واحدة وهذه دلاله على سوء خلق الرجل وطريقة تعامله مع رعيته كونه ملكا او رئيسا عبر ما شئت.
الرجل : وهل يملكون الحق بالرفض انا سيدهم من يكونوا حتى يعصوا اوامري، هم من غيري لا شيء، ربما انك لم تبحث جيدا، من المستحيل أن الجميع يرفض
الحاجب : اقسم لك بأني طرقت أبواب المدينة كلها، عندما يسمعون اسمك ينفجرون علي ويطردونني.
ثم يستمر الحدث الصاعد ليوضح ان شرائح المجتمع كلها ترفض المساعدة وهذه إشارة علاماتية حول الراهن الذي تعيشه الشخصيات السياسية المتصدية التي لم تستطع كسب الرعية لتكون الأخيرة داعمة لهم.. ثم يبدأ الرجل بالشعور بالعد التنازلي للموت بحسب فرضية الكاتب وان أجل الرجل يستدعي ان يسرع أكثر بغية الحصول على الحسنات للدخول إلى الجنة، هنا تحدث الصدمة من خلال دخول إحدى النساء الغواني التي كان يرتاد لها في ليالي السمر، وهي تشير له بقدرته على حل الإشكالية والاتيان بالحسنات.
الرجل : هيا تحدث مالذي جاء بك إلى هنا
المراة: جئت اعمل معك معروفا
الرجل : ههههه ماذا لم أسمع جيدا
المراة: معروف ..معروف لماذا تضحك، لابد أن المرض قد اخذ النصف الآخر من عقلك.
وبهذا السجال لم يوافق الرجل بمقترح المرأة وطلب منها مغادرة المكان كونها تكسر أفق التوقع والمنطق، إذ كيف بغانية وابنت ليل تاتي بالحسنات وتخلص شخص فاسق من نار جهنم، ثم تعاد الكوابيس لتحيط بالرجل مرة أخرى دلالة على ما تعيشه الشخصية من خوف ورعب وقلق ، حتى يلج الى المشهد الحلمي الذي جاء منساقا مع النص وهو ينقل الرجل إلى جهنم وحوار مع خازن النار ..
الرجل : ما رايك ان تعقد اتفاق؟
لازم النار : انا وانت؟
الرجل : نعم انا وانت
خازن النار : لا لا يمكن هذا
الرجل : لماذا؟
خازن النار : الاتفاق يجب ان يكون بين المتشابهين، اما انت فسيتم شويك قريبا هههه.
بهذه العبارات يظل الرجل متوسلا ويصرخ بأصوات عاليه ذاكرا “جهنم سقر سعير ” ليستيقظ من حلمه مرعوبا، وهو تصوير كامل لحجم الضغوطات النفسية التي وصلت لها الشخصية وهي تنتظر مغادرتها هذا العالم وهي بهذه الكيفية وفي ذات الوقت تنتظر العلاج النهائي لها، ليقوم الكاتب بصدمة غير متوقعه اذ يعود لمقترح المرأة التي طلبت منه في ان يتداوى بماء الرجال ليكسب الحسنة، ولأنه رفض في اول الأمر الا ان الوقت قد قرب وهو يبحث عن مخلص ايا كان، لكن ثمن ذلك رجولته.
الرجل: نسرع في التخلص من رجولتي
الحاجب: سنعطيها اجازة
الرجل: ( يفكر ) اعتقد الدخول إلى الفردوس يحتاج إلى تضحية.
في هذا النسق كسر الكاتب السياق المنطقي للحدث وادخلنا في نسق فانتازي ايروتيكي لا يمكن أن نتوقعه، فالبحث عن الجنان يستدعي عمل الفضيلة وليست الرذيلة، اذا مالذي يريد أن بصورة الكاتب لنا من هذه التغريبة ؟؟!، في تقديري أراد أن يوصل امرين..
الأول : هو ان بعض النماذج البشرية من شدة أنغماسها في الرذيلة فإنهم يعتقدون كل ما يقومون به مبرر للخلاص وانه عين الحقيقية وهم بهذا صورة حية للمنافقين.
والأمر الثاني: هل من المعقول بمكان ان يصل بعض البشر إلى هذه المرحلة ليبيع نفسه للشيطان كي ينقذ نفسه من وسواس الشيطان، واعتقد الغانية هي رمز للشيطان، والحاجب رمز للدنيا الفانية التي تهلل وتصفق لأصحابها، ثم نكتشف فيما بعد وبمشهد ساخن ان الرجل يذهب إلى غرفة صغيرة في داخل غرفة النوم ليدخل عليه الرجال المتبرعين بالحسنى مقابل المضاجعة واحدا تلو الآخر.
الحاجب : ما مجموع الحسنات المطلوبة ؟
المرأة : انت ومجهودك، ولكن خمسون تعتبر درجة نجاح.
ويتابع ذلك صراخ وانين ليتوسع الفعل الدرامي الداخلي حتى يصل إلى 49 متبرع
والرجل : next ..next
ليجيبه الحاجب : لا next
وهنا تحدث المفارقة في العدد إلى أن يكتمل بشخص اخير ليتم الجدل حوله كون العدد انتهى ..فيتم الاقتراح ان يؤتى بحيوان لإكمال العدد المطلوب، لكن المرأة طلبت منه أن تقوم هي بإعطائه الحسنة الأخيرة بشرط :
المرأة : حصلت على حسنة على معروفي لك لذلك ساعطيها لك
الرجل : القشعريرة في كل جسدي
المرأة : ولكن بشرط
الرجل: انا موافق أيها الحاجب اعطيها الجائزة المالية..
لكنها ترفض وتطلب منه ما فعله التسع وأربعون رغم انه تعلم ليس له تلك الإمكانية .. لكنه وافق على ذلك ..
وبتقديري هذا المشهد كشف جنون الكاتب في تصوير الحالات الافتراضية الخارجة عن السياق او انها قد تضرب التابوات المجتمعية، كما أن المشهد أراد تعرية مثل هكذا شخصيات بهكذا حال تقود امم ولها سطوة كبيرة عليها وعلى مر التاريخ صنعت جرائم مدمرة بحق الانسانية، كما أنها رسالة للذين يسيؤون بهكذا اتجاه فإن نتيجتكم كهذه او ربما اسوء، وبالنهاية هي فرضية ليس الا اذ لم يمت الرجل لكنه أصبح محترفا ومتلذذا بماء الرجال.. تركه الكاتب ان يعيش لكن ببصمت علر في جبينه ستلاحقه إلى أن النهاية.
ويمكن إجمال بعض المؤشرات على النحو الآتي :
اولا : بني النص على فرضية كسر السياقات المنطقي للحدث والفعل الدرامي.
ثانيا : احتمل النص عبر شخصياته وافكاره علامات مركزية واخرى خارجة عن المركز لتعضيد الفانتازيا في النص ولضرب التابوات بشتى انواعها . .
ثالثا: اعتمد النص على متلازمة الصدمة المرجعية وتعزيز الدهشة والاغتراب في النسق الدلالي للمشاهد، وهو بذلك شدد من الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصية المتسمة بالعزلة والانهزام ..
رابعا: عبثية الحدث الدرامي، ورشاقة الحوار، والكوميديا السوداوية للحدث، والتطور الأفقي والعمودي للصراع، وايروتيكية المعالجة الدرامية، والجراة في الطرح، هي أهم السمات الرئيسة التي اتصف بها النص ..
نستطيع أن نقول أن بناء هكذا نص ومايكل من العلامات والأفكار وخطورة الحدث ينبا بكاتب ذو ذهنية متقدة سيكون واستشرافا لنا رافدا من روافد التأليف المسرحي في العراق وفي الوطن العربي ان شاء الله تعالى..
وفي الختام أتذكر قول برتراند راسل بهذا الشأن: “من المفيد في كل الشؤون أن تقوم من حين لآخر بوضع علامة استفهام على الأشياء التي طالما اعتبرتها من المسلمات”.
ملاحظــــة: النص حصل على الجائزة الثالثة لفئة الشباب ضمن مسابقة جماعة الناصرية للتمثيل في التأليف المسرحي دورة الفنان المرحوم حسين الهلالي 2023.
** حيدر جبر الاسدي / ناقد عراقي