تقديم أول:
أقامت دائرة السينما والمسرح بالتعاون مع نقابة الفنانين العراقيين احتفالا بمناسبة يوم المسرح العالمي، تحت عنوان أيام مسرحية عراقية للفترة من 25 ولغاية 28 / 3 /2024 في مسرح الرشيد، تم تكريم العديد من الفنانين والاحتفاء بجهودهم في دعم وتحصين المشهد المسرحي العراقي، قدمت ثلاث عروض مسرحية مميزة هي (عرض مسرحية عزرائيل – عرض مسرحية حياة سعيده – عرض مسرحية لعنه بيضاء) وجميعها عروض تستحق الوقوف عندها، وتأمل ما تفردت به من خصائص، تستوجب تناولها بالدرس والتحليل.
تقديم ثان:
أول عرض أخرجه د.محمد حسين حبيب عام 1986 – مسرحية “أهمس في أذني السليمة” شاهدته في منتدى المسرح، وشاهدت يوم الخميس 2024/3/28 الساعة التاسعة مساء على مسرح الرشيد – بغداد عرض مسرحية “لعنة بيضاء” من إخراجه وتأليف أحمد عباس، عن قصة للكاتب (الإيطالي ايتاليو كالفينو) بعنوان “شاة سوداء”، بين العرضين ثمان وثلاثون سنة قدم خلالها ثمان وعشرون عرضا مسرحيا، لقد تمرس د. محمد حسين حبيب في العمل المسرحي والدرس الأكاديمي بصفته استاذاً في كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل.
عرض مسرحية “لعنة بيضاء“
عنوان العرض “لعنة بيضاء” الشفرة الاولى في العرض، ولا يمكن كشف مداها وعمقها ما لم يكتمل العرض، انها ليست لعنة فردية، هي لعنة أصابت المجتمع الذي يعمل على تبييضها، رغم أنه يدرك ان سلوكه مضاد للقيم النبيلة والاخلاق الحميدة، ويبدو أن النجاة من اللعنة ليس سهلا ، يقرر المؤلف لا نجاة من اللعنة بدلالة أن الشخصية الوحيدة المتمسكة بالفضيلة يتم التخلص منها.
انطوى نص المؤلف (احمد عباس) على فكرة مركزية واحدة، لم يغادرها إلى طرح أفكار ثانوية، في حين تعددت الأحداث التي لا رابط بينها سوى أنها تصب في ذات الفكرة، تبلورت فكرة المسرحية بالمقولة التالية :
“حتى إن عمّ الفساد وشاعت السرقة وخربت شرائح اجتماعية كثيرة لابد من وجود شخصية ترفض ان تكون جزء من نظام الرذيلة وتنأى عن المشاركة فيه”.
اتضح فساد الجميع من خلال ثلاث مشاهد قدمت باللهجة والروح المحلية:
مشهد السرقة: بدأ مع الموسيقى بحركة معبرة بوضوح واستبعد لغة الكلام، تذهب الشخصيات تحمل سلة مهملات إلى بيت الجار لتفرغ سلته مما فيها، وفي الوقت نفسه هناك شخصية ثانية تفرغ سلة الذي أفرغ سلة جاره في سلتها، وتوجد شخصية ثالثة تفرغ سلة اخرى جار آخر وهكذا تبدو عملية السرقة متوالية، انها حالة طبيعية في هذا المجتمع، ومن لا يسرق هو استثناء من قاعدة السرقة التي عمت المجتمع.
مشهد السوق: رجل يبيع الخضار الفاسد، يأتي رجل ليشتري مع علمه ان هذا الخضار فاسد، يدفع مبلغ الشراء بعملة مزيفة، يقبلها البائع مع علمه بانها مزيفة لأنه سيدفعها إلى آخر يعلم أنها مزيفة، وهكذا تدور عمليات البيع والشراء.
مشهد العيادة : الطبيب والأستاذ الجامعي المريض، الطبيب يبالغ بفحوصات المريض من حيث عددها وأسعارها الباهظة وكلف العلاج والدواء، يبحث الأستاذ الجامعي/المريض في كيفية توفير المبلغ اللازم، لا يجد سوى الاحتيال على طلاب الجامعة وابتزازهم سبيلا لتوفير مبلغ علاجه.
كل مشهد من المشاهد الثلاثة مستقل بحكايته وشخصيّاته، ولا يرتبط بالمشهد الآخر عضويا كجزء من الحدث، بل يرتبط بصفته أحد محاور الفكرة، المشاهد الثلاثة قالت بصيغة مباشرة المتداول في بعض الأوساط الإعلامية وتطبيقات التواصل والحوار السياسي، وما يتداوله الشارع بنقمة وازدراء، وقد عمل المؤلف (احمد عباس) على تكييف المتداول على وفق عناصر الدراما غير التقليدية، بدأ خط البنية هرمية للأحداث يتضح وصولا الى الصراع صاعد وثم إلى الذروة حالما اتضحت اطراف الصراع، وكانت الغلبة محسومة من البداية لطرف الفساد، وقد استسلم (الرجل الأمين) بسهولة لقوة المجموعة المهيمنة بقيادة المختار وزمرة السراق، ولم يفعل شيئاً يوازي قوة الطغاة سوى تعلقه – اي الرجل الأمين – بكتبه حتى النهاية والارتقاء على الجسر، عسى ان تنظف الكتب المياه القذرة الجارية تحت الجسر، أسقطوه من الجسر فاشتعلت النيران، انها صورة شعرية كتبها المؤلف وعمل المخرج على تنفيذها حين جعل النيران تشتعل على السايك الخلفي وملأ الفضاء المسرحي بركام البيوت والحواجز وبسطات الباعة، وبعدها جاء المايسترو ليعزف موسيقى النهاية.
جاء الإخراج لنقل القول المباشر وتقديمه بمعالجة درامية ورؤية جمالية، والضرورة الجمالية تستلزم بناء أنساق مشفرة يتفرد بها، من خلال إنشاء لغةٍ تواصلية بين العرض ومتلقيه، تكفل جعل المتلقي شغوفا بما تقدمه الشخصيات، منتظرا للآتي من الأحداث.
بدأت مسرحية “لعنة بيضاء” بقائد (مايسترو) فرقة موسيقية منسجمة وانتهى العرض بالمايسترو نفسه ولكنه يقود وسط خراب وركام هياكل البيوت التي سكنها الفاسدون والمفسدون، ولم يظهر بينهم سوى (رجل امين) واحد قتلوه او اجبروه على الموت، ولم يشفع لظاهرة اللا أمل التي تمت بها المعالجة الاخراجية سوى أمرين :
الأول: أن الراقصين الذين استهلّوا العرض وختموه بحركاتهم الإيقاعيّة هم شباب يرسمون صورة تدعو للتفاؤل وإن كانوا جزء من منظومة القيم المتدهورة بصورة ما.
الثآني: أن مخرج العرض وضع وشاح الرجل الأمين على كتفيه في نهاية العرض وتقدم لتحية الجمهور بدلالة قصدية واضحة تعني أنه وفريق العمل تصدوا إلى ظاهرة الفساد والمفسدين من خلال العرض وسيستمرون بهذا.
من جماليات العرض وجود امتدادات على السايك الخلفي (الشاشة) لما يجري على الخشبة، إذ عرض عمليات سرقة لا متناهية، مشهد السرقة (الجميع يسرق من الجميع ) ومشهد السوق (الجميع يغش الجميع) ومشهد العيادة (الجميع يبتز الجميع)
قدم المخرج معالجة للساكن الجديد في أحد هياكل البيوت، عبر منحه صورة المصلح/المثقف، وسماه المؤلف (الرجل الأمين) الذي لا يقبل أن يَسرق ولا يتقبل أن يُسرق، كل ما يريده هو أن يعيش في مجتمع من الأسوياء، بمعنى أن يتمتع الأفراد بالأخلاق الحميدة التي فطر الإنسان عليها، وان تسود القيم وتلفظ الانحرافات بعيدا، ومن خلاله اتضحت مفارقة العرض لأنه (وحده) مَثّلَ الطرف الثاني في الصراع، أما الطرف الأول فهو المجتمع الغارق بالرذيلة بدرجات متفاوتة وبأعمارهم المتباينة، مع الإشارة إلى أنه مجتمع ذكوري بامتياز فلا وجود للمرأة في هذا العرض.
دفع المخرجُ الممثلون إلى ابتكار بنية شخصياتهم وإظهارها بترجيعات واقعية عبر إنشاء ملامح مأخوذة من شخصيات متواجدة في المجتمع، الممثل (علي حسن علوان) جسد شخصية (رجل النظام) الذي لا يقبل أن يتواجد رجل لا يسرق في مجتمعه، فهو ينادي بالنظام ويعمل على تطبيق اللا نظام، اما (علي عدنان التويجري) الذي جسد شخصية بائع البضاعة الفاسدة بصوته العالي وملامحه غير المستقرة، انه البائع الصلف الفظ، وهو نموذج يتواجد عادة في الأسواق، وقدم (فقدان طاهر) شخصية الطبيب الجشع الذي يبتز المرضى بالمبالغة بسبل العلاج بالتواطؤ مع ضعاف النفوس من ذوي المهن الطبية الأخرى، وانعكس ذلك على الأداء المبالغ به بالصوت والانفعالات وعدم الاستقرار الحركي، وظهرت شخصية الأستاذ الجامعي هزيلة وبلا قرار صائب، جسدها الممثل (علاء القره غولي) فبعد تفكير توصلت الشخصية إلى أن الوسيلة الوحيدة لدفع تكاليف علاجها هي ابتزاز طلبة الدراسات العليا، وهكذا الحال مع شخصية (المختار) المسندة للممثل (مخلد الجبوري) تجسدت بلمسة العباءة العربية وصفة القيادة الجوفاء.
الديكور بمفهومه التقليدي يعني عمارة ثابتة -غالبا- وصناعة مشهدية يوحي ببيئة الأحداث بالإفصاح عن الزمان والمكان، ويساعد على تعرف المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه الشخصيات وتنمو فيه الأحداث، في عرض “لعنة بيضاء” استخدمت مفردات ديكورية شكلت مناظر العرض المتعددة، وهي: هياكل بشكل متوازي مستطيلات وكراسي مصنوعة من خامة واحدة وبلون واحد بأحجام مختلفة، هذه المفردات شكلت البيوت، والحواجز بين الناس، وبسطات السوق، وأدوات لمهاجمة العدو (الرجل الأمين) وتتركب فوق بعضها لتكون ركام نهاية العرض.
كان تصميم الأزياء نفسه للجميع الشخصيات (بدلة سوداء وقميص ابيض وفيونكه حمراء) عدا شخصية الرجل الأمين فهو يرتدي بنطلون وقميص اسود ويضع على كتفه قماش ابيض يلفه على رقبته، وشخصية المختار الذي تميز بوضع العباءة العربية على كتفيه
للإضاءة في هذا العرض دور جمالي فضلا عن مهمتها الأساسية في صنع الجو النفسي العام وتيسير الرؤية، فكان مصمم الاضاءة علي المطيري منسقا للمنظر ومضيئا لما خفي من بواطن الشخصيات والأحداث بفاعلية الضوء والظل واشعال الحرائق اظهار فعل السرقة الممتد إلى ما لا نهاية.
ثلاث خصائص في هذا العرض:
- حفل العرض بالتنوع: أداء تمثيلي (صوت وحركة وانفعال) وحركات جماعية تعبيرية إيقاعية (كوريوغراف Choreograhg) ، وشغل حركي صامت.
- المعتاد في رؤى المؤلفين تقديم الجماعة الخيرة قبالة طغيان فرد مع بعض الأعوان لتحصل المواجهة بين طرفي الصراع، وغالبا ما تنتهي بالقضاء على الفرد وأعوانه، كما في مسرحية مكبث وغيرها، قدم مؤلف مسرحية “لعنة بيضاء” رؤية -ربما- فريدة من نوعها، بأن جعل الجماعة باغية طاغية سادرة بعالم بلا قيم، وجعل الفرد المثقف يتعرض إلى هذا البغي والطغيان لا لشيء إلا لانه لم يشترك مع الجماعة ومنصرف إلى قراءة الكتب، وفي هذا تغريب واضح للواقع الاجتماعي الذي يتمسك بالأخلاقيات السامية والشواذ فيه قلة، وان بدت الكثرة عليهم فهي بسبب مسارات النشاز التي يسلكونها.
- تناول العرض موضوعة موغلة بالمحلية: رصد العرضُ مشكلة/ ظاهرةً واقعية وعالجها بأسلوب غير واقعي يدركه المتلقي بوضوح ، وهذا امر غير يسير.
يقال ان الفنان يرى ما لا يراه الآخرون، قدم عرض “لعنة بيضاء” ما يراه الآخرون ويسكتون عنه، لقد كسر الصمت الدرامي بتقديم المشكلات الواضحة بأسلوب متفرد، لقد تصدى المؤلف (احمد عباس) وجميع فريق العمل من فنانين وفنيين بقيادة المخرج (محمد حسين حبيب) لإيضاح الواضحات – وهذا من أشكل المشكلات – بأسلوب جمالي امسك بالمتلقي حتى النهاية.