تبدو الإجابةُ عن السؤال القائلِ أمامنا (ماهي فواعلُ الخبرةِ ومضمارُ التجربةِ في المسرحِ وما مقدارُ التلاقحِ بينهما؟) ماثلةً حين نتحرى عن المعطى العملي فنياً ومعرفياً وجمالياً الذي نضحتْ به التجربةُ الجديدةُ ضمن سلسلةِ محاولاتِ الفنانِ والمخرجِ (ياسر عبدالصاحب البراك) وعبر إشتغاله الجديد تحت عنوان “شالوم” من تأليف الكاتبة الواعدة (سميه ياسر البراك) وتقديم (فرقة تشرين المسرحية) والتي قُدِّمتْ في حديقة بهو بلدية الناصرية ولمدة يومين إعتباراً من 26-2-2024
فهذا السؤالُ سيقودُنا إلى التذكيرِ والتريثِ قليلاً أمام إعتباراتِ الخوضِ في تفاصيلَ مسيرةِ مسرحيةٍ يمتدُّ عمُرُها إلى أربعين عاماً لتشكلَ حصيلةً راهيةً تجوَّل خلالها (البراك) مابين الإخراجِ والتأليفِ والإعداد ومسرح الدمى ومسرح المقهورين وما بين النقدِ والدرسِ الأكاديمي ويشكل له مساحةً لها من الوضوحِ والإثرِ ضمن حركة المسرح في العراق ومنذ مرحلة التسعينيات تلك المرحلة التي شهدتْ على تنوعِ حركيةِ العرضِ المسرحي وفقَ إختياراتٍ فنيةٍ إتسمتْ بالجدةِ والتناولِ في إستثمارِ كلِّ ممكناتِ التحديثِ التي تساهمُ في إعطاءِ ذلكَ العرضِ من مميزاتِ التصورِ الجديدِ على صعيدِ الطرحِ والتداولِ والإشتغالِ المسرحي.
ويبدو (البراك) ماضياً في التواصلِ وعبرَ ما تتيحُ له ظروفُ التحصيلِ في الإنتاجِ المسرحي ليتبدى في تقديمِ عرضٍ مسرحي ليجربَ من خلاله في حيثياتِ المكانِ المسرحي والإستثمارِ في مدياته المفتوحةِ التي تتناسبُ وقيمةُ الإحتجاجِ والرفضِ التي جاءت من أجلها الأهدافُ الحقيقيةُ في تأسيس (فرقة تشرين المسرحية) لتشكل رافداً مضافاً إلى حصيلةِ الفرقِ المسرحية التي تعملُ على إنتاجِ العروضِ المسرحية في محافظة ذي قار ومركزُها الناصريةُ جنوب العراق.
ومن الثباتِ أنَّ (البرّاك) قد عملَ على تأسيس وتنشيط (فرقة تشرين المسرحية) منطلقاً من مبدأ أنَّ المسرحَ يعلو برسالتِه سواء كانتْ في الشارعِ أو على سطحِ الخشبةِ المغلقةِ أو في الساحاتِ والحدائقَ المفتوحةِ ومتسلحاً بقدرة الإيمان الراسخ لديه أنَّ المسرحَ هو لغةُ البوحِ والإعلانِ الصريحِ إزاء كلِّ ما يستجدُ من احداثٍ لها من الأثرِ في سياقاتِ ما نعيشه محلياً وعربياً وحتى يمتدُ بتصوراته فيما يتصل بما هو عالمي.
وفي عرضِه “شالوم” الذاهبِ فيه لإستحضارِ الحربِ والحصارِ والعدوانِ الذي تقومُ به إسرائيل ضد الشعبِ الفلسطيني في قطاع غزه نراه يتوخى الدقةَ والتصورَ الحصيفَ في رسمِ معالمَ وحدودِ عرضٍ مسرحي لنلمسَ مقدارَ الصنعةِ والخبرةِ التي صار يُصَرِّفُها في تبدياتِ هذا العرض التي تجسدتْ أمامنا وفي مساحةٍ دائرية من خلال الخطوط ذات اللون الاسود وذات اللون الأحمر ليعمق لدى المتفرج المغزى الذي يبعث على القلق والريبة فهذه الألوان وفي تقاطعها تعطي الإنطباع الأكيد على رجاحة الفعل التدميري الذي يغلف من تلك الدوائر وعبر البث الفعلي والحركي المتجسد بتواجد الشخصيتين المهرجتين الإسرائليتين وبلباسهما المزكش وبذات القناع الذي يعطي المرجعية التي تؤكدُ طلاءَ الفعلِ والنيّاتِ السيّالةَ بالخديعةِ وعدم التوقف في الهدف والمبتغى الرامي إلى مواصلةِ التدميرِ الشامل في البشر وفي خرابِ المكان.
وإذن فنحن أمام سياقاتِ عرضٍ رسالتُه تركزُ على تحفيز الذاكرةِ حيالَ الإنتماء الإنساني والديني مع شعبٍ يعيش محنة الوجود الآدمي في الأرض وفي العيش كبقية الشعوب التي نالتْ حريةَ وجودِها وإستقلالِها ويكون فيها الإنسانُ حاصلاً على مقدرات كرامته وآدميته.
وفي التدقيقِ عن أبجديةِ المكانِ التي تم إقتراحها من قبل (البراك) نلاحظُ أنَّها قد افاضتْ بالكثير من التداخلات التي صارتْ ملموسةً تشي بالفعل والأثر التراجيدي حتى صار المتلقون لهذا العرض يشعرون عن قرب ويستشفونها من خلاصات ما نتجت عنه من حركات الممثلين مع الحواجز وبلونها الأحمر والذي يشي بالدم وبفوران عملية طحن وإستهداف الجسد الفلسطيني المحاصر وأيضاً بحالاتِ الندب والآهات التي يطلقها من هم بتلك الدائرة المحاصرة أيضا فمنهم من يبحث عن اشلاء اجساد أبنائه ومنهم من يحاول كسر الحواجز لغرض الولادة ومنهم من يتماهى ويتوارى خلف فعل الطيش واللهو من أجل عبور الحواجز وهذا الأب الذي يتشاطر مع إبنته (الدمية) في طرح ما يعتلي بداخله من مشاعر القهر والخذلان من جراء ما فيه من حالة العزلة والإختناق وذاك الشيخ الذي راح يبتهل إلى الله ويشكو له ما جرى ويجري بحقهم من خذلان الاهل والإخوان في الدين والمصير قبل الأصدقاء وذاك المعلم الذي يعطي الدروس عن الأرض والإنتماء الحقيقي لها وفي هذه الأفعال والتجسيدات كلها نلمسُ أنَّ بنيةَ ( التبدد أو التلاشي) تبدو طاغية بل ولها تمظهراتٌ تكاد تشمل كلَّ مفاصلَ العرضِ.
وبالرجوعِ إلى تبديات الصنعة والخبرة التي تم تصريفُها في تشييد عرض “شالوم” فيمكن النظر إليها عبر الآتي:
ـ فإذا ما اجرينا مقارنةً في نسبةِ الحضور الفعلي ما بينَ نصِ التأليفِ ونصِ الإخراج فيظهرُ لنا الفارقُ الشاسعُ بين الإثنين فنص التأليف إتسم بالبساطة والتواضعِ وقد حظي بظهور محدود قياساً إلى هيمنة ممكنات الإخراج وقد كُتِبَ باللهجة الفلسطينية لمراعاة التواصل والتعاضد الإنساني والديني ولرفع درجة الإهتمام الكبير من قبل الشعب في العراق بقضية فلسطين في حين نجد أنَّ فاعلية الإخراج قد أخذت لها المساحةَ الكبرى حتى بدا من غير الممكن إجراء المقارنة بين الحالتين.
ـ بدتْ مهمةُ وخبرةُ (البراك) واضحةً بإشتغاله اولا مع نسقِ الاداء التمثيلي للممثلين لديه وأغلبهم من متظاهري ساحاتِ التظاهر والإحتجاج ولم يتسن لهم الدخولُ في معتركِ المسرحِ والتمثيلُ فيه.
ـ وقد كانتْ عنايةُ المخرجِ تتجلى من خلالِ تداركِ خصوصية النص واللغة المكتوب فيها فعمد إلى خاصية التركيز في طريقة الاداء لدى الممثلين فشاهدنا اداءً يتسمُ بإيقاعٍ يميلُ إلى التأني والبطء في تنفيذ الأفعال والحركات مع الميل الكبير إلى إستخدام الاناشيد والازجال الفلسطينية فكانت كثرةُ الأناشيد والاغنيات قد قربتنا في احيانٍ كثيرةٍ من أجواء وطريقة تنفيذ الأوبريت وربما يأتي هذا التنفيذ في عملية الإخراج لتدارك محدودية التأليف وطبيعة اللهجة ومحاولة تقريب الوضع الفلسطيني وجعله معاشاً بتفاصيل خصوصيته بين أحضان ومشاعر المتلقين في العراق.
ـ وتبدو مهمة (البراك) ايضا موغلة في التركيز حين أعطى لمفصل الاداء التمثيلي الدور الحاسم في عرض يكاد يتجرد من أغلب المكملات الأخرى الساندة بإستثناء التمثيل والازياء ومؤثرات الموسيقى فكان التركيز الأول على قيمة التجسيد الأدائي الذي اخذ مرحلتين ففي المشهد الإستهلالي بدا على الممثلين وهم يرتدون الملابس السود وكأنهم ظلال ويشتركون مع الزجال في الندب إتجاه غزه وحالهم يقول ويفصح لما هو قادم من خراب وحصار في حين كانت المرحلة الثانية من الاداء قد تمثلتْ بخروج واقعي من قبل كل ممثل وهو يؤدي الشخصية المناط بأدائها فقد تعرفنا على (بهاء الدين جعفر) بدور الزجال ومدير المدرسة ليُفصحَ عن مقدرةٍ في الحضور وفي التعامل مع (الدف) وطريقة العزف المتقن عليه وايضا مع (حيدر الطيب) بدور الأب وهو يتشاطر مع إبنته (الدميه) ويظهر تجسيداً مقبولاً لملامحِ الشخصيةِ الفلسطينيةِ في الرقص الشعبي المتعارف عليه وايضا التعرف على (نوّار جواد) بدور الرجل الأول والمرأة الحامل إذ يقدم الرجل الملهوف والباحث عن اشلاء اجساد اهله.
ونتعرف ايضا على (علي نعيم) بدور الرجل الثاني فكان لايكاد يختلف عن الرجل الثاني في إظهار لهفته وشوقه العارم لعبور الحواجز والدخول إلى أرض اهله ونتعرف ايضا على (رحيل أزهر) بدور الشاب والزوج ليقدم لنا الإضافة المثمرة التي قدمها لنا هذا العرض فكان بأدائه قد أظهر التلونَ والجرأةَ حين إنفتح العرض على التشارك الآني مع الجمهور.
ولنا ايضا أنْ نتوقف مع (نوّاف خالد) بدور الشيخ فنحن مع حضور مبهر وهو يؤدي دور رجل الدين الذي يشكو إلى الله جفاء اهله العرب وعدم إهتمامهم بما يجري في غزة من دمار وهلاك وفي حضور شيخ الدين في هذا العرض ليؤكد على أنَّ العامل الديني له جانبٌ كبيرٌ في قضية الصراع الدائر حالياً ويبقى لنا (بقايا أزهر وعلي حسن) وهما يؤديان دور الجنود الإسرائلين الذين حظيا بتواجد مؤثر ساعدهم في ذلك الزي الذي يرتديانه والفعل المريب وهما يقومان بالسد المنيع لمنع المحاصرين من عبور الحواجز.
وأيضاً لابد من ذكر الفنيين الذين ساهموا في إبراز معالم هذا العرض وهم (أحمد خضير) في تنفيذ السينوغرافيا و(حيدر حسين) في تنفيذ الموسيقى والمؤثرات الصوتية و(سهيله الموسوي) في تنفيذ الازياء و(حمود زهير) في تصميم الملصق والبروشور و(صادق كريم) في تنفيذ الصوت و(سجاد حسين – أحمد محسن) في التوثيق الفوتوغرافي والفيديوي…