تعد السينوغرافيا في واحدة من مسمياتها، هندسة الفضاء المسرحي، وتعود تلك التسمية إلى قدرة السينوغراف بوصفه الفاعل الجمالي؛ وبما يمتلك من صنعة جمالية تمكنه من توفير ايقاع بصري مسنجم ومؤتلف مع مقترحات الرؤية الاخراجية، الامر الذي تتبدى معه السينوغرافيا في بعض مهماتها إلى إعادة هندسة الفضاء المسرحي الذي تشكلت صورته ابتداءا في مخيلة المخرج، والعمل على خلق إرتباط مكاني بين الصورة المتخيلة ومقاربات تجسديها الجمالية عن طريق إنتاج مقترحات بصرية تسهم في إيصال المعنى إلى المتلقي، فضلا عن مساهمتها في بناء التكوينات والتراكيب والهيئات والاشكال التي تساهم في انتاج التعبير الدرامي، حيث يسعى السينوغرافي إلى تحقيق الاهتمام بالجوانب المكانية والفضاءات التي يشترط فيها أن تكون قادرة على خلق التعبير الموازي لفرضيات الرؤية الاخراجية، الأمر الذي يسمح بخلق التواصل مع المتلقي، على مستوى المتناقضات الحسية بين ما تمت رؤيته وما تم ادراكه من صور وأفكار عرضت بعدة وسائل وأدوات، بين ما يتجسد في الفضاء وما تشكل ابتداءاً في رؤية المخرج، مما يساعد على إعطاء معنى أكبر للإنتاج المسرحي والفاعل السينوغرافي.
لقد واكبت السينوغرافيا بمفهومها الحديث تطور الاخراج عبر تحويل المساحة المكانية للفضاءات المسرحية، حيث أصبح المكان وسيطًا مهما وفاعلا، واصبح كل عرض يتطلب إعدادًا خاصًا على خشبة المسرح، علاوة على ذلك، أصبحت السينوغرافيا الحديثة تعطي كياناً وهوية للعرض المسرحي، فهي ترتكز على مساحة بصرية تنبع مكوناتها وعناصرها من النص الدرامي للمؤلف ابتداءا، وللرؤية الاخراجية التي يقترحها المخرج لمعالجة النص الدرامي تالياً، إذ لم تعد المساحة في المسرح مساحة منبسطة، ولا مكاناً مبدئياً يتسم بالبساطة ولا امتدادا قائما على الانغماس في الخيال، بل اضحى فضاء ينقش فيها السينوغرافي افكاره وابداعاته الجمالية والبصرية معلنا تأسيسه وتأثيثه لفضاء العرض الفارغ بكل الوسائل التقنية المتاحة التي تتحول فيها ظروف العرض وماهيته المرئية، ومن هذا المنطلق، يلعب السينوغرافي دورا مهما في بناء خشبة المسرح وزخرفته وإعادة تشكيله معماريا، فضلا عن أن السينوغراف معني بتفعيل العراقة بين عناصر العرض على مستوى الإضاءة وتكويناتها، والإكسسوارات ونوعه والأزياء وخامتها والموسيقى والمؤثرات الصوتية وعلاقتها بالرؤية الاخراجية المقترحة، إذ تلعب هذه التنسيقات المختلفة دوراً أساسياً في تشكيل فضاء العرض المسرحي، لذلك من الضرورة دراسة وظائفها بشكل صحيح في العرض مع مراعاة الاختلافات التي تعتريها، وامكانية ضبط هذه المتغيرات طوال العرض، بحيث يمكن استخدام طريقة تنسيق وترميز معينة.
وبذلك يمكن أن يعد السينوغراف شريكاً في عملية الاخراج المسرحي بوصفه مشرفاً على إعداد وتنظيم وتشكيل المكان قبل بدء الأداء، وحتى بعد أن يبدأ، يستمر عمله مع المخرج عبر التنسيق والتشاور من أجل الوصول إلى صياغات جمالية تتفق مع الفرضيات الاخراجية عبر مقترحات سينوغرافية يمكن لها أن تختزل المخيلة الاخراجية وتعيد تنظيمها عبر مقاربات قابلة للتحقق على خشبة المسرح.
إذ أصبح فن المسرح بما ينتج من دلالات نقطة انطلاق لتأسيس الصورة المسرحية التي أنشأها المخرج، عبر تأسيس علاقة عضوية ومترابطة ومتناغمة مع عمل السينوغراف، ذلك أن جماليات السينوغرافيا هي ترجمة لرؤية المخرج وأفكاره لتأسيس هندسته المعمارية المسرحية، فاذا كان الخيال هو الفضاء الافتراضي للرؤية الاخراجية، فان السينوغرافيا هي الإناء الناقل لهذا الخيال، متجاوزة بذلك مستويات الوصول المادي الى هذا الخيال الذي يفسر المفهوم والمعنى عبر خلق مضمار بصري تتشابك فيه كل العوالم الجمالية لتحقيق اهداف المسرح السامية، وهو ما تسعى اليه السينوغرافيا.
وختاما يرى الباحث ان مفارقة السينوغرافيا تكمن في انها مرئية ومنسية في ان واحد، مرئية لأنها تصوغ المكان وتملاه ومنسية لأنها لا تكون حاضرة بدون الوسيط الذي هو أساس العملية المسرحية الا وهو الممثل – الانسان الذي يغطي المكان وان كان يستعمله ويتحرك في رحابه، إذ ان التركيز على تصميم سينوغرافيا العرض المسرحي، يسمح لنا بتطوير مجال واسع للبحث عن أسباب وضع السينوغرافي، مما يمنحه مكانا حقيقيا في سياق التشكيل البصري للعرض المسرحي،وكما تقول (آن أوبر سيفيلد): “أن الفنان السينوغرافي يرسم نصه البصري ويشكله بناء على سلسلة من الرموز التي تتكيف مع رؤيته وعمله، والصعوبات التي يواجهها الكاتب المسرحي المتجدد في تشكيل مساحة تناسب رؤيته الجديدة”، وبذلك يكون السينوغراف قادراً على كتابة نصه البصري وصياغته بحرية تمنحه شكلا جديدا يتماشى مع إبداعه في بناء صورة ذات مناظر خلابة، بوصفه قادرا على تنظيم أنماط العلاقات المكانية التي تغذيها الرموز البصرية التي يتم إنتاجها في العرض المسرحي بما فيه من مقاربات جمالية تتوافق بين مقترحات السينوغراف ورؤى المخرج المسرحي.