في الحياة عموما، تعلمتُ -من أخطائي- أن لا أتكلّم عن شيءٍ (مدحًا أو ذمًا) قبل أن أخبره، وليست هذه فلسفة تنظيرية بقدر ما هي تجربة عملية، فقد وقعتُ بأخطاء من هذا القبيل لم أسامح نفسي بعدها بسهولة.
قرأتُ قبل أيام تعليقًا لما يبدو أنه مختص بالمسرح، يسأل كيف يمكن للعتبة الحسينية تخريج ألف كاتب كلّ سنة!! ويشكك عن قدرة هؤلاء وتأثيرهم على الساحة المسرحية؟!
وهي -بهذه الصورة- التي ذكرها الكاتب تمثل علامة سؤال كبيرة فعلا. فالعدد هائل، ويقترب من أن يكون خياليًا.
لكن المسرحي المختص كان مخطئًا للأسف، ويكفيه -لو أراد الحقيقة- نقرة صغيرة على موقع المشروع على الفيسبوك ليتبين الأمر. فالعدد المتأهل لهذه السنة 65 مشروع كاتب. هل يبدو هذا العدد كبيرًا؟ لا تعتقد الدول المتقدمة ذلك، ففي أمريكا مثلا يولد 304,912 عنوان جديد كلّ سنة، في فرنسا 77,986، وهكذا دواليك حسب عدد السكان والحرية المتاحة لدور النشر، والأكيد أن نسبة لا بأس بها من هذه العناوين تذهب لكتب الأطفال.
تنثر العتبة المقدسة بذارها، كلّ سنة، وتتعهد أن تحتضن المواهب في المحافظات، لأكبر عدد راغب في المشاركة، ثم تسقي البذرة من يد زارعة ومختصة، ومن تتوسم فيهم حب المتابعة، والطموح للوصول لرتبة كاتب، تستدعيهم لكربلاء، في حلقات متتالية يلتقون بكتّاب كبار، مع أكاديميين كبار، لتختلط الحرفة بالأكاديمية، وفي جو عصف ذهني مذهل يسمح لك أن تنتج عوالمك القريبة للأحلام.
لماذا تكون الكتابة للطفل بهذه الأهمية؟
ولكن لماذا هذا الاهتمام بالكتابة للطفل، يمكن أن أضع إجابتين عن هذا السؤال الكبير، ولكلّ مختص رأيه وإجابته التي قد تختلف، أو تتفق معي..
أولا:
إننا -معشر الحكائين- يجب أن نتخذ دور الجدات، ينبغي أن نخلق التراث الشعبي للأطفال. فالدور الذي كانت تؤديه الجدات، والأمهات من قبل، اندثر ولم يعد له وجود، خاصة مع احتلال الانترنت بيوتنا، كمحتل مرحب به.
حين أحكي لأطفالي عن حلقات الحكي الليلية المعقودة حول الجدة فيما سبق، يبدو الأمر لهم ضربٌ من الخيال.
يُضيّق الموبايل من أهم صفة ينبغي أن يمتلكها الطفل، وهي الخيال، وقد اختبرت كثيرا من الأطفال، في أن يحكي لي قصة، فأجده يعيد لي قصصا شاهدها من اليوتيوب، وحين أطلب منه قصة من خياله، يتوقف، ولا يعرف كيف يكمل. لأن الجوالات سرقت خيالهم.
أما فيما سبق، في عالم بلا انترنت، فكان لكل طفل خياله، وحكاياه الخاصة، ويمكن أن يسرد الطفل لوقت ممدود، ما تشاء من القصص.
ماذا لو أعدنا لحلقات الحكي إثارتها وتأثيرها؟! إن خلق التراث الشعبي للجيل الحالي والقادم هي أهم مسؤوليات كاتب الطفل، ولا شك أننا نحتاج لأجل هذا أعدادًا كبيرة من الحكائين، في كل مجالات الكتابة للطفل، ولا سيما مسرح الطفل.
ثانيا:
إننا نحتاج حكاءً – على الأقل- في كلّ مدرسة.
فيما يرتبط في الفقرة الأولى، وأقصد صناعة التراث الشعبي، يجب أن تؤدي المدرسة دورها الإيجابي في ذلك، فالأطفال في المدارس، يقلدون ويتأثرون بمعلميهم، ويحاولون محاكاتهم لا شعوريا حتى خارج المدرسة، كما إن المدرسة هي الحصن الذي يخاف الجوال أن يدخله، فالطفل في جو المدرسة بعيدٌ عنه. وهذا أكثر جو ملائم للحكاية. ولكن من حكائين يعرفون على الأقل أبجديات القص.
ولك أن تتخيل العدد الذي نحتاجه لبلد مثل العراق، بمدارسه وتلاميذه، لو أحصينا حكاءً واحدًا لكلّ مدرسة!
المشروع المبارك
غالبا ما أسمي الكتابة للطفل، بأنها كتابة للملائكة، فهي على قدر بساطتها -كما قد يتخيل البعض ممن لم يمارس الحرفة- فإنها حرفة مليئة بالخطوط الحمر، التي لا يمكنك تجاوزها، وتحتاج لتعلمها. لا تكتب عن القتل، الجنس، العنصرية… ومئات من الحواجز التي لا نجدها في الكتابة للكبار، كما ينبغي لكل كاتب طفل، أن يمتلك ولو قدرا يسيرا من المعرفة لسيكولوجيات كل مرحلة عمرية من الطفولة.
وهذه المسائل ليست إثرائية، بقدر ما هي في صميم الحرفة، فأنت في هذا المجال تعمل مربيًا وحكاءً في ذات الوقت. وغالبا ما ينبّه الكتّاب الكبار للطفل، في أن قصتك قد تكون أول قصة يقرأها الطفل، والتي من بعدها سيقرر الطفل أن يستمر بهواية القراءة، أو يتركها للأبد.
أخيرًا
أجد أن مساندة العتبة في مشروعها، ومدّ أيادي التعاون إليها، خاصة أن مشروعها مدارٌ من أهل الاختصاص، وكبار الاختصاصيين في المجال، هي مساندة للطفل العراقي، والعربي عموما، وأي مشروع يقف مع الطفل لينقذه -ولو قليلًا- من مساوئ الإليكترونيات التي تختطف أبنائنا، هو مشروع مرحب به.
ولأني ذكرت في الفقرة الأولى من مقالتي هذه، أن الحصيف يجب أن يخبر قبل أن يتكلم، فإن كل ماذكرته قد عشته، في مشروع الكتابة للطفل الأول، كطالب في صفوفها، وقد غرست الدروس فيّ حب الكتابة للطفل وأتطلع لاحترافها.
لا زلت أكتب مسرحيات الطفل بشغف كبير، ولا زال بعض أصدقائي من الورشة الأولى، يعملون بجد لنيل شرف إخراج مسرحية طفل، وبعضهم صاروا أعضاء في فرق مسرحية مختصة بالطفل. رغم العوائق التي لا تعدّ ولا تحصى.
ونفخر أن من أدخلنا عالم الكتابة للملائكة، هي ورش العتبة الحسينية المقدسة، المشروع الذي أطلق عليه حقا: أبو المواهب…