منذ زمن ليس بالبعيد ظهرت العديد من الكتابات والتعليقات والصرخات التي تتناول دور الوسائل الإعلامية وخطورتها في التأثير على المجتمعات المختلفة، وعلى خطاباتها الثقافية والمعرفية، ليس فقط في الترسيخ والترويج للآراء والمفاهيم السائدة في مجتمع ما، ولكن أيضاﹰ على الطريقة التي يمكن بها أن يرى الفرد ويدرك العالم الذي يعيشه، حيث إنه بفضل تلك الطفرة التي حدثت في جميع وسائل الإتصالات والإعلام، أصبحنا نتلقى كل لحظة سيلاﹰ لا ينقطع من المعلومات والأفكار والآراء والأخبار والدعايات المختلفة، لاسيما مع انتشار برامج التوك شو منها ما هو علمي ومفيد ومنها ما هو هزيل ويندرج تحت تفريغ الذهن من مجرد التفكير السليم وهو ما تجلى ولا يزال يتجلى في التيك توك الذي انتشر كسرطان لا ينتهي في مواقع شبكة الانترنت، تطل علينا من خلاله وجوه غير مسؤولة عما تبثه لنا، ولا تنطلق من أيديولوجية أو سياق ثقافي عام ، اللهم إلا الترسيخ لعالم عشوائي ينشر البذاءات على الهواء مباشرة دون ضابط أو رابط، حتى انفرط معه عقد الحياء، ومع هذا التطور المضطرد لهذه الوسائل، والذي نشهده في التطور التكنولوجي الذي يعتمد في معظمه على عنصر الصورة الأشد تأثيراﹰ دون أدنى شك ظهرت أشكال جديدة ذات علاقة بالوعى وبالقيم الإنسانية، وما صاحبها من تغيرات في البنى والقيم والتقاليد الاجتماعية، الأمر الذي كشف عن الدور المهم الذي تلعبه وسائل الإعلام في حياة الفرد وتوجيه فكره بل وفي سلوكيات حياته اليومية، وفي أساليب إدراكه للنشاطات الإبداعية التي تقدم في مجتمعه، ومنها المسرح الذي يرنو فقط إلى التسلية ودغدغة الحواس وتفريغ الرؤوس من أى محتوى يرتقي بها، والسينما بتوجهاتها التي تتسم بالضبابية والتليفزيون بقنواته ومنصاته وموضوعاته الدرامية التي ترسخ لأفكار تهزم المجتمع وتدفعه إلى تيه لا ينتهي، وهو يلهث في ذات الوقت عن لقمة عيشه ومجريات حياته اليومية، وهو يبحث من بين ثنايا وسائل الاعلام عن بريق أمل ينتشله من ضغوطاته النفسية والاقتصادية، فيصطدم بآراء المحللين في البرامج المختلفة التي تزيده تيها وتزج به في متاهات أكثر تعقيدا، ويقع أسيرا وسط شبكة معقدة من الدلالات الخالية من المعاني المتعلقة بحياته، الأمر الذي يجعل من وسائل الاعلام
نوعاﹰ من الممارسة الإجتماعية المتغيرة والمتعددة الأوجه،حيث تعتمل في أى مجتمع مجموعة من الخطابات الإعلامية المتعارضة أو المتعاونة، وبالتالي فهناك نوع من الإمتزاج والتعايش وربما التداخل بين أكثر من خطاب إعلامي في كل مجتمع، وتعكس هذه الخطابات المتداخلة حقائق إجتماعية متباينة وأيضاﹰ مصالح متعارضة، ولذا فقد تحدث إستعارات بالمفاهيم والأطروحات في إطار محاولة كل خطاب مواكبة الواقع ليحظى بقدر أكبر من التأثير الإجتماعي، ولاشك أن تعدد الخطابات الإعلامية يرجع إلى إختلاف وتباين التخصصات والمجالات والمنطلقات الفكرية والمعرفية.
إن هذا التعدد في الخطابات الإعلامية داخل النسيج الاجتماعي الواحد ﹸيطلق عليه “الممارسة الخطابية” والتي يعرفّها الناقد الفرنسي المعاصر”ميشيل فوكوه” بقوله: “إنها مجموعة من القواعد الموضوعية والتاريخية المعينة والمحددة دوماً في الزمان والمكان، والتي حددت في فترة زمنية بعينها وفي نطاق اجتماعي واقتصادي وجغرافي محدد”، ومن خلال هذا المنظور أصبح تعريف الخطاب مقترناً بالواقع وأصبح يترجم الصراعات التي تدور في المجتمع ووسيلة من وسائل سيطرة الأنظمة في المجتمع وهو ما يؤكده بقوله: “إن إنتاج الخطاب في كل مجتمع هو في نفس الوقت إنتاج مراقب منتقى ومنظم ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورهـا هو الحدّ من سلطة مخاطره والتحكم في حدوثه المحتمل وإخفاء ماديتــه الثقيلة والرهيبة”، وفي أغلب الأحوال نجد أن جميع الخطابات تقوم على أساس اجتماعي على المستوى الظاهري، أما على المستوى الداخلي فقد يتضمن الخطاب بعض الأفكار والتوجهات بعضها سياسي أو ديني أو إقتصادي أو غير ذلك، عندئذٍ يتسع مفهوم الخطاب لدرجة تتعدد معها مجموعة من الصور الجديدة حول الثقافة والمجتمع يشملها هذا الخطاب، ومن ثم، تلعب الأفكار السائدة – والتي تعرف بالأيدلوجيا_ دورًا مهمًا في بلورته، مما يمكن معه القول إن الخطاب الإعلامي هو نوع من الممارسة ذات الطابع الأيديولوجي من حيث التكوين والتأثير، الذي يصل إلى حدّ الهيمنة على كافة مناحي الحياة وذلك عن طريق الإقناع وتحقيق اجماع وتعدد شكلي داخل المجتمع بكافة فئاته وأنشطته.
ففي عالمنا المعاصر نجد أنه في ظل تغير الأيديولوجيات التى ساهمت في إعادة صياغة الخطابات الفكرية في المجتمعات تطورت الوسائل الإعلامية المتعددة بكافة أشكالها المسموعة والمرئية والمقروءة، والتى اخترقت حياة الإنسان وشغلت جزءاﹰ كبيراً من حيزه اليومي، وشكلت المنظور الذي يرى من خلاله العالم، بل وقامت بتدعيم الخطاب المعرفي السائد، وساهمت في ترويج أفكاره وصوره، وباتت وسائط ترسخ لكل ما هو متطابق مع ذلك الخطاب السائد، كما سعت إلى قولبة الذوق، وتوحيد الاختيارات، وأقامت حاجزاً فكرياﹰ أغلق الحوار بين أفراد المجتمع، كما ساهمت في توسيع الفجوة بين المتلقي والإبداعات الفنية المختلفة، عندما جعلته ﹸيفضل الأعمال التى تدغدغ عواطفه وأحاسيسه، فيتحول إلى منبع اقتباسات لآراء سلطوية مسبقة، وما عليه إلا أن يفتش فيها ليصدر أحكاماﹰ قيمية على العمل الإبداعي، ومن ثم، أخذ دور الخطاب النقدي المتخصص فى التكلس والإنزواء أو السير في طريق الخطاب المعرفي السائد بنفس أدواته التقليدية، عن هذا وذاك أثر ذلك الخطاب الإعلامي على جماليات تلقي الأعمال الإبداعية بما تقدمه من صور سواء من خلال المسرح أو الدراما التليفزيونية، التي كانت تستمد حضورها من قدرتها على إعادة تكوين الواقع من خلال عناصر فنية وفكرية، ليولد علاقات جديدة مع العالم، وأن قراءة الخطاب النقدي المتخصص لهذا الإبداع لابد أن تولد تناصاً جديداً، يحاول استكشاف رؤى جديدة، تنهض عن طريق صياغته لمساحات ومستويات وطرق منهجية متعددة للفهم تتجاوز الخطاب الفكري السائد في المجتمع والذي تروج له الوسائط الإعلامية المختلفة الأشكال والتوجهات المنظمة منها والعشوائية.