في سردٍ لغوي لاتكادُ محمولاتُه المضمونيةُ تبتعدُ كثيراً عن مساحةِ الخطابِ المباشر تمَ عرضُ مسرحية (c4گلواذا) من تأليف (ماجد درندش) ومن إخراج الفنان (إبراهيم حنون) ومن إنتاج وتقديم الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة لدائرة السينما والمسرح في بغداد وعلى مسرح الرشيد ولمدة ثلاثة أيام إعتباراً من يوم الجمعة: 10-11-2023
وفي تصورِنا لحيثياتِ هذا الخطاب ومبرراتِ مباشرتِه فهذا يحيلنا إلى ممكناتِ الخطابِ المسرحي المقدم في السنواتِ الأخيرةِ من قبل العديد من الفرق المسرحية في العراق ومنها التابعة لدائرة السينما والمسرح في بغداد بوصفها الراعيَ والمسؤولَ المباشرَ عن شؤونِ المسرحِ ومدياتِ إنتاجِه في بغداد وفي بقيةِ محافظات العراق
فهذه الدائرةُ كانتْ وماتزالُ تقدمُ العديدَ من العروضِ المسرحيةِ بمستوياتٍ ورؤىً مختلفة وفي التصدي لمصاديقَ التواصلِ والتفاعلِ المقابلِ من قبل الجمهور الواجبِ توفرُه لمشاهدةِ تلك العروض والتلذذِ والإستمتاعِ فنياً وفكرياً وجمالياً من مناخاتِ ما تقدمُه من موضوعاتٍ ووفقَ طرقِ عرضٍ يتبناها القائمون على إخراجِها ينبزُ أمامَنا السؤالُ الذي يذهبُ إلى مدى الحصيلةِ المتحققةِ من وراء تقديمِ هذه العروض المسرحية بعيداً عن أُطرِ التوجهِ النخبوي الخالصِ الذاهبِ نحو التحصن بين جدران قاعةِ العرضِ المسرحي وبعيداً أيضاً عن مراداتِ التوجهِ في المسرح عبرَ فضاءاتٍ من التلاقحِ والتواشجِ الجماهيري الاعمِّ
فتبدو تلك النخبويةُ والمغالاتُ في التبني لها قد ساعدتْ في ظهورِ عديدِ الأسئلةِ التي صارت تتكررُ وصرنا نسمعُها ونقرأُها والتي مؤداها أنَّ المسرحَ في العراق صار يبتعدُ كثيراً عن جمهورِه وأنَّ رسالةَ المسرحِ الحقيقي صارتْ تتلاشى في فعلِها القيمي في المجتمع فنياً ومعرفياً ثقافياً، وهذا التصورُ وجد له من التحقق في الكثير من العروض المسرحية التي بالغتْ بل وتطرفتْ في تبنيها وتقديمها لموضوعاتٍ مسرحيةٍ ذابتْ وتلاشتْ بفعل مغالاتِها في الشكلِ والجسدِ على حساب المضامين وهذا ما يظهر في الأغلبِ والاعظم عند محاولاتِ الفنانين الشباب للحد الذي يدفع بتواتر السؤال عن مدى المراد الذي طرحه هذا العرض أو ذاك ومن دون أنْ يُصارَ إلى تحقيق تلك الموازنةِ المعقولةِ التي ينبغي فيها الوقوفُ على ملامحِ محاولاتٍ إخراجيةٍ تُسهمُ في إعادةِ ما يمكن إعادتُه من ممكناتِ التواصلِ والتفاعلِ الثر مع جمهورٍ لاتترسمُ معالمُ حضورِه على النخبويةِ والتخصصِ الفني والمسرحي فقط.
ومن هذا التصور يبدو أنَّ المؤلفَ (ماجد درندش) ومعه المخرجُ (إبراهيم حنون) قد راهنا على تقديمِ عرضٍ مسرحي يذهبُ كثيراً بالذاكرة العراقية وبذلك الزمن الممتد كثيرا وبعيدا ماضيا وحاضراً ليجعل من تلك الذاكرة شريطاً تحفل به محمولاتُ الملفوظ الحواري لغويا فضلا عن ممكنات التصور الإخراجي عبر ما نضحت به قدرة الإخراج لتكون على قدر من التواصل واللحاق قدر الممكن بما فاض به خطاب التأليف الذي راهن على حدودِ المباشرةِ والخوضِ الصائلِ عبر سياقاتِ التذكيرِ والوقوفِ عند عتبات ِالعاطفةِ والمشاعرَ الإنسانيةِ والوطنيةِ وكذلك عبرَ الإعتمادِ على فروضاتِ ومتصيراتِ الكتابةِ الإفتراضيةِ التي تتماهى ما بين الحقيقةِ والحلمِ وما بين الواقعِ اللاواقعِ وكذلك في التركيزِ على عالمِ الموتِ وإعطائه الحضورِ المادي المعلنِ وعبرَ السلوك المهمِ لشخصيةِ الموتِ والتي إضطلعَ بادائها المؤلفُ نفسُه وكأننا به يتسيدُ كلَّ مخاضاتِ اللعبةِ المسرحيةِ التي قُدمتْ أمامنا بعنوان (c4 گلواذا) بل والماسكُ المستبدُ بخطوطِ مفاعيلَ البوحِ والإعلانِ من خلال اللغةِ التي راهنَ عليها حين جعلها تتصيَّرُ وفقَ المنطوقِ العامي الدارجِ ليكونَ أكثرَ حضوراً عند المتلقي وبالذات الجمهور في العراق لأنَّه الأولى الذي إستهدفه خطابُ هذا العرض، فذاكرةُ هذا الجمهور لم تكن بعيدةً عن هذا الشريط والمسح المقدم أمامه عن تلك الويلاتِ وعتباتِ الثبورِ التي نالتْ من اجسادِ الناسِ وأُمنياتِهم التي تبددَ الكثيرُ منها عبرَ الحروبِ والإرهابِ والقتلِ العمدِ بفعلِ طغيانِ السلطةِ التي تفننتْ بوسائلَ تنكيلِها ما بينَ الرصاصِ الحيِّ والصجمِ كما حدث مع إنتفاضة شباب العراق 2019 إ وإلى ستخدامِ كاتمِ الصوتِ ورميِّ الجثثِ المغدورةِ في الطرقات والانهار وفي سلوك يُعدُ الأسوءَ والاشنعَ بحقِ قيمة الإنسان كوجود آدمي.
وفي حدود المساحة التي هيمن فيها خطاب التأليف نحى المخرج (إبراهيم حنون) في تصيّرِ التعاملِ الفني ويقدمُ المعادلَ الصوريَ فيبدأ عرضه بمشهد الأم وهي تأتي من طريق طويل نحو قبر إبنها (القتيل، الضحية، المغدور، المدهوس،المحترق بسيفور التفجيرات، وغيرها) يتبعها صوته البعيد (يمه) ليظفي هذا المشهد من مثابات العاطفة والمشاعر المؤلمة لنذهب بعدها مع مشاهد تأطرت بإستدعاء الحلم وتداخلاته المركبة ما بين الحقيقة والواقع وما بين تكرار السؤال الذي تردد كثيراً على لسان الإبن الميت بحضور إفتراضي (إحنا لوين رايحين) وهو يدخل في حوار وصراع مرير مع والدته التي داهمته في عالم الموت وتظهر لنا تلك الجملة التي تكررت ايضا (الحقيقة لاتقبل الحلم والحلم لايقبل الحقيقة) وهنا مؤشر على سوداوية الواقع المعاش وعدم ضمان الرؤية الراجحة لأنْ يكون في وضوح تام يبعث على الطمأنينة والنظر إلى الحياة بهدوء وإستقرار فلعبة التداخل المركبة ما بين ما هو واقع وبين ما هو من الحلم والخيال صارت تهيمن عبر مشاهد منها (بإستدعاء الموتى الأربعة وباكفانهم البيض وهم ينفضون بغبار واتربة سجلات الموت حول الإبن وكذلك (الموتى) وهه يرتقون فوق القبر لينهشوا ويمزقوا في جسد الإبن ايضا في واحد من المشاهد المؤثرة فنيا ضمن إشتغالات الإخراج وكذلك الأمر مع المشهد الذي تتدلى فيه الجثث عاريةً ووصولا إلى المشهد الختامي وفيه تخفت مفاعيلُ الموجودات داخل العرض ليبقى ذلك الضوء الذي يوحي لنا بشيء ربما يحمل من الأمل لنرى ثمة حياة بديلة قادمة توازي وتقدم مفعولها الذي يحاول إلغاء هذه الحياة التي قدمتْ فنياً أمامنا والتي تسيدتها حالات الإظلام المتكرر وبإستبداد رجل الموت حين صار يُخرِجُ من خزانة القبر العديدَ من سجلات الوفيات وينفشها أمام الإبن ولا يتورع لان يصب عليه من سطل الماء بحقيقة تفسخه أمام امه وبهذا الفعل من قبل المخرج (إبراهيم حنون) صار يراهن على أنْ يقف حيال تدفق خطاب التأليف المباشر والتذليل من مبالغته في القصدية الواضحة والتي حفلت بنيّاتِ القصد والرفض والإحتجاج والطعن المباشر فكان أنْ جاءت فاعلية الإخراج عبر مشاهد كان بعض منها مؤثراً وبعضها الآخر إتسم بالبساطة والوضوح وفي مفاصل أخرى من العرض قد شابها التواضع والفتور وتبدو فاعلية التمثيل والأداء الجسدي هي الركن والعتبة المهيمنة في هذا العرض فالفنان (سعد محسن) وهو يقدم دور الإبن لينجح في تشخيص (الضحية، القتيل، المضحي من أجل وطن لايجد فيه مَنْ يُثَمِنُ تضحيته من أجله كوطن ينتمي إليه، الإبن الذي يدخل بين أحضان امه بكل مشاعر الحب والحنان) وأثناء حالة الشهيق والإختناق وأمه تداري من وضعه وتُربتُ على ظهره وشاهدناه أيضاً يتميز ما بين مشاهد الحلم وما بين مشاهد الواقع المرير بكل ما يحمله من اوزار الألم والنكران تقابله الفنانة (أسراء رفعت) لتقدم دور الام بمراحل فرضتها متبنيات العرض لتكون عند مشاهد من الحضور المؤثر وهي تُظْهِرُ عاطفة الام المنهكة بفعل فقدان الإبن وفي حالة الرفض والوقوف بشدة بوجه رجل الموت، في حين نقف عند الفنان (ماجد درندش) بدور رجل الموت لنراه مستبداً ساخراً بهؤلاء الموتى رامزا بهذا الإستبداد إلى ما يحيلنا إلى راهن الواقع وما فيه من الإستبداد السياسي والإجتماعي فكان أنْ يميل بادائه إلى ما هو شعبي ساخر وكأننا مع ماجد درندش الذي يكون بيننا خارج حدود اللعبة المسرحية وعند الوصول إلى مجموعة الكيروغراف (فكرت حسين، مهتدى باسم، علي جواد، أحمد عدنان) وتصميم مشاهد حضورهم الجسدي من قبل (مرتضى علي) فقد أعطوا إضافة تعزز من فاعلية الأثر البصري لهذا العرض في حين لم يتعد جهد مصمم الديكور (محمد النقاش) سوى بوجود ذلك المدرج الذي أضحى مع تقدم العرض كقبر وخزّان لحفظ سجلات الموتى ومنصة يدلي ويبوح عليها الإبن ما يمور بدواخله من هموم ومشاعر وكذلك الحبال المتدلية إذ تدلت منها جثث الضحايا (بالساتر الأمامي في الحروب، بحروق السيفور، بكاتم الصوت، بالصجم، وغيرها من فنون وألوان الوسائل التي تؤدي إلى الموت) والحال يكون مع مصمم الإضاءة (عباس قاسم) إذ يكتفي بمساقط الضوء الكاشفة لوجه واجساد الممثلين مع الإعتماد على حالات الإظلام التي تدرجت مع حالات وفواصل العرض والأمر أيضاً مع المؤثرات الصوتية من قبل(كامل تتر) فلم تحضر مؤثراته كثيرا سوى بصوت الإبن وعزف العود وأغنية المطرب داخل حسن(يمه يا يمه) ذات الشجن المؤلم والحين. وأخيراً لابد من التنويه للآتي:
1- كان من الأفضل أنْ يُدَّونَ في دليل العرض التعريف بعنوان العرض فكلمة (گلواذا) هي الإسم التاريخي الذي يحيل لمعنى الكرادة أو الكرادة الشرقية تلك المنطقة المهمة من أحياء مدينة بعداد التي شهدت أرضُها تفجيراتٍ إرهابيةً مروعةً اودت بحياة المئات من الناس القاطنين والعاملين في هذه المنطقة ومعنى(c4) يحيل إلى معنيين فالاول يعني مادة التفجيرات التي إستخدمها الإرهابيون والثاني في اللغة الإنكليزية بمعنى (أُنظرْ) فيكون عنوان العرض متحولاً مابين (حريق الكرادة أو كلواذا) وما بين (إنظر إلى الكرادة أو كلواذا).
2-كان لابد من الإهتمام والعناية باللغة العربية وخاصة حين تُدون في دليل العرض وبوجود الرقيب اللغوي فمن غير المعقول أنْ يكتبَ المخرجُ كلمته في هذا الدليل بحدود سطرين ومن دون أنْ يراعي وجود الأخطاء اللغوية النحوية في هذين السطرين اللذين ينصان (نسعى إلى تقديم عرضاً مسرحياً تتداخلُ فيه رؤيه عوالم الموتِ كيفيه أن الشهاده خياراً عظيماً في إعلاء القيم الإنسانية) والصحيح (نسعى إلى تقديمِ عرضٍ مسرحيٍّ تتداخلُ فيه رؤيةُ عوالمَ الموتِ وَكيف أنَّ الشهادةَ تكونُ خياراً عظيماً في إعلاء القيمِ الإنسانية)