دون مقدمة تعريفية، سألج عوالم نص مسرحية “نزهة في الجحيم” للكاتبة العراقية (نهاوند عبد الأمير الكندي)؛ لكونه يعرض لنا نماذج بشرية حملت انماطاً سلوكية واخلاقية وطرقاً متعددة في التفكير، لم تحدد بزمن او مكان.
ثلاث شخصيات وخادم وصوت امرأة، صراع في عالم تجريدي ترفع منه النفعية، لذلك تصبح تلك الشخوص عبارة عن رؤى تكشف هوياتها، تطرح من خلالها الكاتبة نهاوند ادانتها لتلك الشخصيات، بتعريتها وتعرية الواقع الفكري الذي عاشته، وتعمل على تحويل الكون بكل ما يمتلك من سعة الى مجرد غرفة صغيرة بثلاث كنبات، تعرض عليها سمات سلوكية تسهم في ترسيخ معالم البنية الداخلية للنص والخارجية للواقع الحياتي العام، تصبح تلك الشخصيات جزءاً من المقومات الاساسية التي تكون مرتكز المتعة الفنية لمخاطبة ذهنية المتلقي عبر حبكة النص التي كانت اقوى مميزات التمكن الاسلوبي في عملية تقديم الشخصيات وصفاً وحواراً.
(شخصية 1: هذا المكان الوحيد الذي لا يحتاج الى جواز سفر) موائمة رائعة بين العقدة والجو النفسي العام، بين الفكرة والشخصيات التي اعدتها لها، وتمكن الحوار بكشف ابعاد الواقع لتوصيل رؤية ومفهوم الشخصيات، نجد مثلاً شخصية 2 يفضح سمات شخصية 1 (غول قذر تفوح من فمك رائحة السحت والسرقة) هذا الكشف الذي هو تشخيص فاعل لسمات تلك الشخصيات.
هذه المرونة قدمت الكاتبة مضامين اجتماعية واقعية وازنت بها التأثيرات الحسية والفكرية والجمالية؛ لأن متلقي النص يمسرح النص بالمؤثرات النفسية التي يمكن أن تختلف عن المؤثرات النفسية للكاتبة:
(الخادم:ـ بلا خيال، بلا ظل، بلا اسم، هناك كانوا اشباحاً يسيرون في الأرض كالسكارى، يترنحون، يخبطون رؤوسهم بعضهم ببعض، أما هنا، فهم الحقيقة المرة التي كانوا يهربون منها).
وهذه الحوارات أغنت الفكرة وأكسبتها جوهرها الفلسفي، رسمت الكاتبة عوالم شخصياتها بحرفة عالية، الاريكة الاولى بيضاء مخصصة لـ(فرعون) الذي هو شخصية 1، والكنبة الثانية لونها احمر مكتوب عليها (عازف المزمار) شخصية2، والكنبة الثالثة خضراء اللون مكتوب عليها (الفأر) شخصية 3.
الغرفة تمثل انتظار الحساب والخادم يمثل عزرائيل قابض الأرواح، وهذا تبرير ذكي لاختيار جميع شخوصها سلبيين استحقوا بأعمالهم في الدنيا اشد العذاب الإلهي، وهم بانتظار سحلهم الى الجحيم، يعرف احد الشخوص معنى محتواهم (القاتل والمقتول) و(الخادع والمخدوع) و(الصياد والفريسة) هذا المعنى الذي ارادت الكاتبة نهاوند ان تعبر عنه، افكار واحاسيس، رغم البعد التخيلي في هذه النزهة التي هي الى الجحيم، ومعرفتنا اليقينية بتلك البؤر التخيلية، لكننا نقتنع بأنها قدمت تفاعلها مع مجتمعها عبر هذه المساحة التي مكنتها من طرح هموم الانسان والتعبير عن آمال الناس وطموحاتهم عبر أدوات ووسائل فنية اظهرت فاعليتها الذهنية المتوقدة المضمون، وركائز الأثر الأدبي، ليرتقي النص المسرحي ويرسم واقع كل شخصية وبيئتها واختلاف ثقافتها، وشبكة من العلاقات والصراعات تحدد مسيرة كل شخصية، وجميع شخوص هذه المسرحية طاغوتية منهم: فرعون، وعازف الناي صاحب فتاوى القتل والتدمير، والقناص الارهابي.
(شخصية 1:ـ كان لي مركزي الذي لا ينضب قوة وسلطة مطلقة، امر ونهي، سلطان لا حدود له بمداد الارض الرحبة، السلطان والنفوذ على البشر والحجر والشجر، عالم زاخر بالملذات، الطرب والغانيات، الخدم والحشم، الطعام والشراب، الضحك والرقص على اوتار).
الصراع هو الذي يبرز خصائص الشخصيات المحركة للفعل الاساسي، جوهر الصراع الانساني الذي يبلور مكانة تلك الشخصيات ويكشف سمات وجودها للعالم، بين معطى ومتخيل بين وجود في الواقع وبين وجود نصي.
اجادت الكاتبة نهاوند الكندي في تفجير الرؤى الفكرية، معايشة كل شخصية بواقعها وبمخاوفها، ثلاثة طواغيت في غرفة ومجتمعات مبتلية بهم خرجوا معاً الى الحساب في غرفة انتظار، وامامها مهمة كشف مشاعرها ومشاعر ناسها لأمثال هذه الشخصيات وصب تلك الرؤى المتناقضة في عوالم نص ممتع.
(شخصية 2:ـ كنت اعلم اني سأسقط في يوم ما، ارى جميع الارواح البريئة المسافرة الى عليين بصدور وجباه مثقوبة من اثر الرصاصات الخبيثة اطلقتها عليهم بحقد، على غفلة من امرهم، اشعر بوجودهم في ساحة الاعدام يتفرجون ويتشفون بي).
يتوضح البعد الدرامي في عمليات تعرية معنوية لكل شخص من الشخصيات اما بالإقرار الطوعي او بالمجادلة الحوارية، واشتغلت الكاتبة على المحورين لكل شخصية اقرارها الشخصي ولكل شخص اقرار ثان تحاوري، وفي الحالتين ليس هناك ما يصل الى توبة وغفران؛ لأن اليأس سيد الموقف، ربما هي حكمة ان نعرف بأنه لا ينفع الندم بعد فوات الفرصة، جميع شخصيات المسرحية هم شخوص محوريون لهم اهمية كبيرة في سياقات النص درامي، لهم اهمية في بلورة الرأي.
(شخصية 1:ـ حين تبدأ بخسارة نفسك فستكون خسارة ضميرك شيئاً سهلاً جداً، قلبك يتوقف عن الشعور بالندم، وبما ان ضميرك ميت وقلبك لا يشعر فمن السهل عليك القتل).
منحتنا الكاتبة نهاوند الكندي قيماً درامية ناضجة، ورؤى انسانية فاعلة، ولا نملك إلا أن نقول بما نملك من وعي: بوركت.