شهد تاريخ فنون الأداء على اختلاف أشكالها على مرّ العصور العديد من المصطلحات، وفي بعض الأحيان يهتم المؤدون بالاستفادة من هذه المصطلحات فى إنماء وعيهم بفنهم أو من باب الثقافة والمعرفة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي أحيان أخرى يعتبرها البعض من هؤلاء المؤدين ليست ذات صلة بفنهم بشكل مباشر، وأنها فقط ترتبط بعلاقة وثيقة بفن كتابة المسرحية ، أو ربما بفن المخرج ، أو السينوغراف.
ولكن لما كان فن الأداء هو العنصر الرئيس في العملية المسرحية، فبدونه لاتقوم للعرض المسرحي قائمة، وفي الوقت الذي يمكن فيه أن يستغني العرض المسرحي عن المؤلف والمخرج والسينوغراف، لايمكن أن يستغنيعن الممثل والمتفرج والمكان الذي يجمعهما، ومن ثم، فهناك ضرورة تفرض على الممثل التعامل مع المفاهيم المتعلقة بالدراما والإخراج، على اعتبار أنه هو الذي يضطلع بمهمة تحقيقها، ومعظم هذه المصطلحات جرت العادة الحديث عنها ،لاسيما من قبل النقاد والمنظّرين، مع الحديث عن فن المسرحية من حيث هينص مكتوب وفق عدد من القواعد التي وضعها منظرون سابقون من الفيسلسوف اليوناني أرسطو وحتى الآن،
ومنها مصطلح (التطهير) Catharsis الذى ﹸيعد من أعقد المصطلحات التى نحتها أرسطو والتى أثقلت كاهل الممثل بمهامجسيمة، حيث قصد به أن التراجيديا تساعد المشاهد على التخلص من الانفعالات،عن طريق إثارة هذه الانفعالات الداخلية بمؤثر آخر، وهذا المؤثر هو الخوف والشفقة ، حيث من خلال مفهومه للمحاكاة حدد أرسطو ردود فعل المشاهدين في ثلاثة اتجاهات أولهماالخوف من الموت أو الهلاك،وثانيهما شفقة المتفرجين على البطل الضحية، وثالثهما تطهير المتفرج من مشاعر الخوف والشفقة عن طريق إثارتهما، ومن ثم، فإن أرسطو رأى أن تجسيد الصور المؤلمة من شأنه تغيير وضع المتفرجين، نحو الأفضل غالباﹰ.
فالتراجيديا تساعد على تطهير النفوس من الانفعالات المكبوتة، أو الكامنة، ألا وهي الخوف والشفقة، وذلك عن طريق إثارة هاتين العاطفتين عند المشاهد الذى يعيش التجربة التراجيدية التييجسدها الممثلون على المسرح، وتهتز عواطفه خوفاﹰ وشفقة أمام العواطف التي تعرض أمامه، عن طريق الشخصيات، إن هذه العواطف موجودة في نفس ذلك المشاهد، بل وموجودة فى الإنسانية كلها،وتختلف التفسيرات حول مفهوم التطهير على مر العصور، مما تفتقت عنها عدد من النظريات.
كما ذكر الدكتور إبراهيم حماده في مجمل تحقيقه وتعليقه على كتاب أرسطو فن الشعر، وأهم هذه التفسيرات التى تفيدنا في تدريب الممثل لكي يقوم بمهامه المنوطة به من وجهة نظر أرسطو، التفسير الذي تقدمه النظرية الإحلاليةالتي ترى أنه في العادة ما يتمثل المشاهد نفسه في إحدى الشخصيات المأساوية، التي تعاني الأزمة المعذبة، وبعد الإنتهاء من مشاهدته للمسرحيه يداخله نوع من السرور الذي ينتج عن شعورين أولهما أن الأحداث المفجعة لم تحدث له على المستوى الواقعي، والثاني هو أن متاعبه الذاتية لاتتشابه مع الكوارث المأساوية التي رآها، وأنها يمكن أن تحدث للآخرين، وهناك النظرية السادية التي ترى أن تطهيراﹰ يحدث في نفس المشاهد، عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه، وتتضاعف هذه المتعة حين يتحقق من أن مايراه فوق خشبة المسرح، ما هو إلا مجرد نوع من الأداء الفني، وليس الحياة الواقعية التي يعيشها، لتأتي النظرية التعليمية التي تقدم تفسيراﹰ مؤداه أن المتفرج عندما يرى معاناة البطل مجسدة على المسرح من جراء ميوله الشريرة التي أدت به إلى طريق الهلاك، فهو يتعلم كيف يتجنب الإتيان بسلوكيات أو تصرفات مشابهة في حياته الواقعية حتى لاينال نفس العقاب.
إلا أن النظرية التماثلية تفترض أن التطهير يحدث للمتفرج في حياته الواقعية بطريقة مماثلة لما حدث لشخصيات المسرحية، أما النظرية الطبية في هذا المجال فتقدم تفسيراﹰ يتوقع أن عملية إثارة عاطفتى الخوف والشفقة، عند بعض الناس، قد تؤدى إلى وصولهم إلى حالة مرضية.
ومن ثم، فهى تفترض، أنه عن طريق تقديم نفس كمية هاتين العاطفتين، أو بكمية أزيد، ينتج عنها نوع من الإرتياح، ربما يشعر معه الشخص المستشفى بنوع من المتعة تعيد إليه توازنه الإنفعالي الصحي، وهو ماتؤكده النظرية التجريبية التي رأت أن المتفرج سوف يستمتع بمجرد خوضه لتجربة الانفعالات التي تقدم له في شكل لعبة أدائية عن طريق الممثل، موضوعة في إطار من الصور المرعبة التي تثير الشفقة، دون أن يضار هذا المتفرج على المستوى الشخصي، وهو ما يفسره علم النفس المرضي الذي يرى أن التطهير ما هو وسيلة لإبعاد القلق، والتعقيدات التي تعتمل في نفس الإنسان المريض، وعملية الإبعاد هذه لايكون لها التأثير المطلوب إلا إذا تم التعرف عليها عن طريق الإثارة والإستبصار.
ولذا تم إستخدام أسلوب التحليل النفسي لعلاج بعض المرضى النفسيين، الذي يعتمد على القيام بعملية تطهير مشابهة للعرض المسرحي التراجيدي حسب تحليل أرسطو ، إلا أن عملية التطهير من جانب التحليل النفسي غالباﹰ ماتحدث لفرد واحد، وهو المريض، أما في حالة العرض المسرحي فمن المفترض أن تحدث عملية التطهير لعدد كبير من الناس، الذين يمثلون جموع المتفرجين في المسرح ، وما يهمنا في هذا المقام هو التطهير وفق تفسير النظرية الدرامية التي ترى أنه في الحياة الواقعية الكثير من الأحداث الحزينة التي تثير في نفوس الناس خوفاﹰ وشفقة، ولكن لأن هذه الأحداث لاتوحد بينها ولا منطق، فإنها تسبب للآخرين نوعاﹰ من الإحباط الذهني، يتركهم في حالة من الإضطراب والاختلال النفسي، أما الأحداث الدرامية فيتم اختيارها وترتيبها في تتابع يخضع للمنطق والحتمية والسببية، وبوسائل فنية هي عناصر العرض المسرحي المرئية والمسموعة، والتي يتصدرها الممثل، مما يبعث في نفوس المشاهدين اكتفاءاﹰ ذهنياﹰ، وراحة نفسية.
وفي مسرح القرن السابع عشر رأت الكلاسيكية الجديدة أن الغاية من عملية التطهير تكمن في الرسالة الأخلاقية للتراجيديا، والتى تتفق مع التعاليم المسيحية آنذاك، ومن ثم، فإن نظرية التطهير التي كان أرسطو قد وضعها لم تتحقق في التراجيديا الكلاسيكية الجديدة إبان عصر النهضة أو التنوير التي أخذت على عاتقها إثارة عواطف أخرى غير الخوف والشفقة، كالحب، والعواطف النبيلة مثل الإعجاب البطولي على سبيل المثال، وأن هذه الانفعالات لاتطهّر النفس فحسب، بل تأتي على هيئة عظات أخلاقية على لسان الأبطال أنفسهم، وغالباﹰ ماتكون متفقة مع التعاليم المسيحية، الأمر الذي جعل التراجيديا مقومة للأخلاق، ومنفرة من الأخلاق السيئة، وهو ماتطلب نقل مركز الصراع من القوى الخارجية المتمثلة في القدر-كما كان الحال في المسرح الإغريقي-إلى دخيلة النفس الإنسانية، وفي البطل ومسئوليته الواعية عن مصيره خلال القرن السابع عشر الميلادي.
ومما سبق يمكن أن نستخلص أن التطهير المرجو إحداثه في نفوس المتفرجين إنما يضع الممثل أمام عدد من المتطلبات التقنية التي تكفل له تحقيق فعل التطهير على هذا النحو الذي أراده أرسطو، أول هذه المتطلبات يكمن في ضرورة وعى الممثل بوضع يده على نوع الانفعالات والأحداث تتشكل في تداخل وتوازي، وهي الحبكة والشخصية، مع الوضع في الإعتبار أن التراجيديا تحاكي الأفعال وليس الشخصيات، وبمعنى آخر فهي تحاكي الحياة كلها بما فيها من سعادة وشقاء، ولما كان التعبير عن أفكار الشخصية بواسطة صوت الممثل وجسده وانفعاله، الذين يتضافرون من أجل تشكيل لغته التعبيرية، ففى ذات الوقت ينبغى على الممثل أن يدرس الأفكار الخاصة بالشخصية التي يؤديها جيداﹰ، حتى يستطيع أن يختار من لغته الصوتية والحركية والانفعالية ما يتناسب مع ظروفها، وطبيعتها ونواياها الداخلية.
وفي محاولة لتحقيق فكرة التطهير سواء تلك التي كان ينادي بها “أرسطو” من خلال تأكيده على ضرورة التطابق مع الشخصيات في تقديم المحاكاة، أو التطهير الذي سعي إليه عالم النفس “كارل جوستاف يونج” من خلال نظريته في “اللاوعي الجمعي”، والتي اعتبرت التطهير مجموعة من التفاعلات البشرية، والمماثلة لمواقف كونية للإنسان منذ العصور البدائية، ومن هذه التفاعلات الخوف والغضب والصراع مع القوي العظمي، والعلاقات بين الأجناس، وبين الأطفال وآبائهم، وبين الكراهية والحب، وبين الحياة والموت، وما إلى ذلك، مما يمكن معه القول إنه من خلال ذلك الصراع الكوني للإنسان تتكشف هذه الإنسانية والإجتماعية العميقة لفن الأداء، حيث أن علاقات التأثير المتبادلة بين الإنسان ومجتمعه ذات إرتباط وثيق بدوافعه الغريزية النفسية، وكذلك دوافعه المكتسبة اجتماعياﹰ، ولذا فإن عنصر الإتصال من وجهة نظر علم النفس يعني نقل إنطباع أو تأثير من منطقة إلى أخرى، دون النقل الفعلي لمادة ما، ويشير ذلك إلى إمكانية نقل إنطباعات من البيئة إلى الإنسان وبالعكس، أو من فرد إلى آخر، الأمر الذي يمكن معه أن يحقق الأداء التمثيلى هدفاً علاجياً على المستويين النفسي والاجتماعي، وهو ما يؤكده عالم النفس “جاكوب مورينو” بقوله إن إظهار الحوافز والتوترات الخاصة بالعلاقات بين الأشخاص، يؤدي إلى وعي الأشخاص لكوامن علاقاتهم بالآخرين، وبالتالي إلى شفائهم من أزماتهم ، ويتم ذلك عن طريق الميل الطبيعي للقيام بالفعل من لدن الممثل على خشبة المسرح، وهو ما يعرف بالحضور الذي يعني قدرة ذلك الممثل على أن يكون مؤثراً ومحسوساً بأفعاله وحركاته وصوته، وهو ما يعد في الأصل جوهر النشاط الإنساني قبل أن يصبح أساس العمل المسرحي.
ونجد أن هذا الميل من وجهة نظر بعض الدراسات النفسية هو استعداد انتقائي للفرد تجاه نشاط معين، يدفعه إلى المشاركة فيه، ويرتكز على حاجة عميقة وثابتة إليه، وعلى رغبته في تحسين المهارات والعادات الموجودة لديه، ووفقاً لذلك فإن الهدف الذي يرمي إليه الإنسان/ المؤدي على المسرح هو ما يعرف بالتوحد أو التقمص الوجداني عبر المحاكاة ، والذي يتحول إلى نوع من النشاط الإبداعي، الذي يفرز عدداً من العمليات المعرفية، والانفعالية، التي يتعرف بها الإنسان على ذاته من خلال التماثل أو المشابهة وهي العملية التي يتوحد بها الشخص لا شعورياً مع شخص آخر،أو مجموعة أخرى أو نموذج آخر، وهو أيضاً آلية يضع فيها المرء نفسه موضع شخص آخر، وهو ما يظهر على شكل استغراق، أى نقل أنا، شخص ما إلى مكان وزمان شخص آخر، وينتج عنه استيعاب المعاني ذات الصبغة الشخصية لذلك الآخر، حيث يتقاطع المجال المسرحي الإبداعي مع علم النفس، ويعني ذلك أن فعل المحاكاة يشغل حيزاً كبيراً في التاريخ الاجتماعي/ الدرامي للإنسان، ومن ثم، يري علم النفس أن الأداء في المسرح يعبر عن فكرة تحول الوعي، كما يعبر عن قدرة الإنسان على رؤية نفسه، والعالم في مرآة الخيال المركبة، المتعددة الأوجه .