يضعنا العرض العرائسي “ما يراوش” ومنذ البداية أمام شاعريّة ووحشيّة عراء الطبيعة في آن ليجعلنا شاهدين على تقلباتها، فمن الوهلة الأولى وقبل ظهور الشخصيات يحلّ الضباب ويصنع الممثلون برقصة هوجاء غابة بأوراق جافة صفراء متساقطة كست الأرض، وجذوع أشجار متكأه كأن ليس لها من مأرب للشخصيات العميان سوى الجلوس عليها في حالة من الضياع وفقدان الوجهة وغياب قائدهم المبصر الوحيد الذين يبحثون عنه منذ البداية وهو ميت بينهم. لا يعرفون زمانهم ولا مكانهم، تائهون بجزيرة يحيط بها البحر لا همّ لهم ولا أمنية سوى العودة إلى ملجئهم الّذي تعوّدوه وكأنه المأمن والخيار الوحيد، هذا الملجأ “تكيّة” وكما جاء وصفه على لسان شخصيّة العجوز: “يقولو قصر قديم متاع البي خربة محسوب… موحش ظلام… ضو ربي ما يدخلوش.. الا البرج وين يبات سيدنا الشيخ”. صورة شاعريّة مشحونة ببلاغة دراميّة تضعنا في إطار المدرسة الرمزيّة.
لعلّ اختيار نص “العميان” لموريس ماترلينك Maurice Maeterlink ليكون أرضيّة بحث مخبري لدراماتورجيا العرض العرائسي “ما يراوش” إختيارا صائبا لانتماء هذا النص إلى المدرسة الرمزيّة من ناحية، ولرمزيّة العروسة la marionnette من ناحية أخرى، فـ”الدخول في عالم مسرح العرائس، هو معرفة أن الإنسان أثبت دائما حاجته الملحّة في تقديم نفسه، ورغباته وتخيلاته عبر أجساد متخيّلة خلّابة: دمى، تماثيل، عرائس، يحقق كبار الخرافات، والرؤى الشاعريّة المطلقة المتعددة التي كوّنت أسس كل شيء فني”، أولم تعد بنا المدرسة الرمزيّة إلى عالم الرمز برؤيتها الشاعريّة كحركة فنيّة معارضة للواقعيّة والطبيعيّة. أو لم يحلم العديد من المؤلفين الطليعيين من بينهم موريس ماترلينك بممثل يمكنه استيعاب الدراما الرمزية وتمثيلها، أو بخطوط ومنحوتات، أو ربما ظلال أو أشكال رمزيّة، إذ يمكن لأي كائن حي أن يسكن قصيدة أو نصا دراميا، حيث يصبح الدور الأساسي للمؤلف هو التخيل وإشباع رغبة الموتى، وقد تكون العروسة هي المترجم المثالي لهذه النوعية من النصوص الدرامية حيث تكون حياتها الوهميّة استعارة لإسقاط المواقف والمشاعر والأحاسيس البشريّة. صنف درامي يستدعي نوعيّة خاصّة في معالجة تمثيله ولّد ثلاثة مفاهيم لأشكال دراميّة: الدراما ستاتيك la drame Statique حيث الشخصيّات جامدة ليس لها أي ردّة فعل ومتقبّلة للمجهول. وقد تجلّى هذا الشكل في شخصيات العجائز الجالسات قبالة البحر تاركين الغابة بأهوالها وأزماتها خلف ظهورهن في مسرحيّة “ما نراوش” فلا دور لهن سوى التسبيح وذكر الله والحضور الغائب أمام وضع متأزم متقلب. أما المفهوم الثاني فيتمثل في الإنسان الأسمى la personne suprême الّذي غالبا ما يمتصه القدر أو الموت أو شيء آخر أكثر قساوة من الموت، وليس أشد قساوة من الموت غير التيه في دراما “العميان”. والشكل الثالث والأخير التراجيديا اليوميّة la tragédie quotidienne فمجرّد العيش هو أمر مأساوي في حدّ ذاته وهذا ما نلتمسه في جميع شخصيّات المسرحيّة التي تنفي مفهوم البطل أمام الضّياع اللانهائي الّذي تعيشه يوميّا. مفاهيم لشكل درامي خاص يتطلّب معالجة خاصّة في الأداء من أبرز المنظّرين له المخرج أدوارد غوردن غريغ الّذي دعى الممثّل أن يكون sur-marionnette حيث يعيد إنشاء طريقة جديدة للأداء تتكوّن إلى حدّ ما من إيماءات رمزيّة. فالدمية تتحدّى مبدأ الواقع ووجودها ليس من هذا الواقع الّذي اهترأ بالسطحيّة في رؤية الأشياء وفي تفسير دلالاته، إذ هي تتوافق مع الرمزيّة في استعاراتها المجازيّة وشحنها بالمعنى في التفاصيل الدقيقة لحركتهما وترابطهما العميق بالأساطير والشعر والطقوس القديمة والجمال حتى في وحشيّته.
خطاب جمالي يجعل من الدراما الرمزيّة على أتم الاستعداد لإخراجها في شكل عرض عرائسي، فاقتران هذا الشكل المسرحي بالدراما الرمزيّة ليس بإسقاط بقدر ما هو إعادة نظر في مفاهيم وإعادة التفكير فيها بالجمع بين مرجعيّات ومحاولة اختبارها ركحيّا في شكل عرائسي يعتبر حديثا، حيث لم تعد العروسة وحدها هي البارزة في العرض بل الممثّل الّذي يحرّكها أيضا بمحور ثقله يسترجع منها أنفاسه وأحاسيسه وحركاته ويظهر كمؤدي أحيانا ثمّ يغيب وراءها، وأحيانا أخرى يدخل معها في حوار حيث “يتطوّر جدل خفي ثمّ يتزايد جرأة بين العرائس والمحركين. حتى نستكشف بدقة ما نسميه اليوم بالعلاقات الجديدة بين الجسد المتلاعب والجسم المتلاعب به” . صورة حيّة لعروسة تأخذ أبعادها من جسد وأحاسيس محرّكها، ثمّ صورة حيّة لممثّل يظهر وهو في حالة أداء من وراء عروسته، ثمّ صورة حيّة لحوار بين الممثّل والعروسة الّتي يحرّكها، إذ سنة من التمارين والبحث كفيلة بأن تبعث في العروسة حياة موازية لحياة محرّكها وربّما تكون في جدليّة معارضة له، فمحرّكي العرائس في العالم يقودون “صراعا ضد القصور الذاتي والتصلّب، وهي معركة ضد قوى الشلل لنظام لا يثق في الجرأة بجميع مظاهرها” . فعرض مسرحيّة “ما نراوش” قدم على جرأة جماليّة بإعادة جمع وإحياء مفاهيم نظريّة نشأت عن الممارسة الفنيّة الميدانيّة وإدخالها مختبر التجربة لتكون النتيجة مصطفاة بشاعريّة الرمزيّة، جرأة جماليّة استبطنت جرأة فكريّة تحاكي واقعا تاريخيّا دون السقوط في هاوية الخطاب المباشر وإن كانت في بعض الطيرادات les tirades تحيلنا إلى واقعنا بطريقة مباشرة وإن تجملت بالرمز، ربما كان ذلك بسبب الامتداد التاريخي القصير الّذي عشنا رحى أحداثه بطريقة سريعة على امتداد ما يقارب عقد من الزمن، مثل حادثة الرش بسليانة وما نجم عنها من ضحايا فقدوا حتى بصرهم، كذلك على قدر جرأة خطاب الاغتصاب الحيواني من شيخ لطفلة عمياء يتيمة وحبلى، وتهجم المجتمع عليها بأكثر النعوت الوحشية “عمياء قحبة وجايبة فرخ في الحرام” مسمات خضراء، لتنهي شخصيّة المرأة هناء آخر كلمات المسرحيّة “شفت الغول عريان نا الخضراء العمياء”. تحيلنا المرأة المغتصبة والمسمات خضراء في المسرحيّة مباشرة إلى تونس في وصفها بالخضراء. جاءت خطابات المسرحيّة مستبطنة لرمزها برمزيّة أعمق مفادها أنّ الشخصيّات عندما تروي تفاصيل الأحداث المؤلمة إلى حد البشاعة الّتي عاشتها، تسردها بتفاصيل دقيقة جدّا، برائحتها واحساسها وألوانها وكأن الشخصيات عند سرد الألم تبصر تفاصيله بوضوح يتفتح بصرها أمام الألم الذي عاشته والوحش الذي جثم على أنفاسها، رمزيّة نبشت في كينونة الإنسان وامتزجت بخطاب يسرد معاناة لواقع تاريخي لا يزال يغرس أنيابه الضارية فينا لأن شمس الحقيقة لم تشرق بعد.
أصوات الطبيعة، بحر، وطيور، ورياح، ناقوس الكنائس مع همس تسبيح العجائز “فيما تبقى من كلام الله فوق الصخر نتلو كلمات الشكر في اللّيل وفي الفجر فقد يسمعنا الغيب ويوحي لفتى منا بسطر من نشيد الأبديّة” ، نجوم همست إلى الشخصيات يوما، انتظار غائب ميت لإنقاذهم، انتظار العدم، الفضاء المفتوح أصبح مغلقا كالسجن نتيجة انعدام الرؤية. لعلّ “انتظار غودو” لصمويل بيكيت Samuel Beckett هو في حد ذاته انتظار الأمل لأن “غودو” لم نراه ولم يأتي لكن ربما يوما ما يأتي، بينما في عرضنا هذا لا أمل لأنّ المنقذ ومنذ البداية ميّت، بات في العدم، ربما هو انتظار العدم؟ لكن “الآن لا يكترث التاريخ بالأشجار والموتى” كما جاء على لسان شاعر المقاومة محمود درويش.
شخصيات تائهة في الظلام لم يبقى لها غير الحدس وربّما حتى هو اندثر ليحلّ محلّه الشك بعبارة ربّما “يظهرلي” الّتي تكررت كثيرا على لسان الشخصيات والّتي ربّما أملها الوحيد الّذي تبقى هو انتظار شخصيّة الرضيع المبصر حتى يكبر، وربما يفقد بصره هو الآخر كشخصية الصغيرة التي كانت ترى ثمّ فقدت بصرها. فالأمل هنا ضعيف عليل كالزهرة الوحيدة الموجودة في الفضاء ذابلة ومريضة عليلة، وكأنها زهرة من “أزهار الشر” للشاعر الرمزي بودلير Baudelaire، أو زهرة الموتى كما جاء على لسان شخصية صغيرة التي لم ترتعب منها وجمّلت بها شعرها وكأنها استأنست الى الرعب لأنها اعتادت به الى درجة انها باتت تتزين به، وهذا ما تبوح به شخصيّة القصير في طيرادة tirade “كيف تبدى ضرير عايش في الظلام تستانس وتنسى…” طيرادة طويلة مشبعة برموز رتابة تعوّد الفواجع إلى حد الاغتراب عن الواقع والغياب الكلي عنه.
بالنظر في رمزيّة فقدان البصر أو العمي أو انعدام الرؤيا، نجده يعني أن يتجاهل البعض حقيقة الأشياء، نكران ما هو واضح، مما يدفع الى الغضب وتقلب المزاج، وانعدام تحمل المسؤولية، تجاهل المظاهر الخادعة في الحياة، وحجب معرفة المرء لحقيقته الدفينة والعميقة والممنوعة عن البشر العاديين. في الخرافات القديمة يشترك العميان في شيء إلهي، حيث يكون الغيب ملهمهم، صانع المعجزات، كما أن العمى هو رمز لحكمة المسنين، الكهنة أيضا هم في الغالب عميان، فكأنما أعينهم مغلقة عن النور المادي لتنفتح على النور الإلهي. فكثيرا ما يكون الاعمى كاهنا أو عرّافا مثل عراف تيبا في مسرحية “أوديب”. ربما هي رمزيّة إيجابية لكن رمزية الأعمى تتذبذب أمامها جميع التقاليد، والميثيولوجيات، حيث العمي غالبا ما يكون عقوبة إلهيّة وهو ليس بمعزله عن اختبار البدء، عقوبة ناتجة عن إفشاء الأسرار الغامضة، فالعراف “تيرزياس” تم حرمانه من بصره من قبل “أثينا” لأنه شاهدها عارية وهي تستحم. “أوديب” أيضا فقع عينيه بإرادته ليكفر عن ذنبه. كذلك الموسيقيون والشعراء والمغنون الذين زخر بهم التاريخ هم أناس ذوي وحي والهام في جميع التقاليد الشعبية. فهومروس Homère شاعر “الألياذة” و”الأوديسا” ويعني اسمه في في اليونان القديمة “ذلك الذي مجبر على أن يتبع” أو يكون تابعا، حيث عملت التقاليد أيضا على أن يكون الأعمى شاعرا متجولا. ربما الرؤية الداخلية هي تخلي عن رؤية الأشياء الخارجية والعابرة. فالأعمى يثير صورة الذي يرى شيئا آخر بعيون أخرى ليست من هذا العالم المادي . لذلك كان ولازال العمي وجهة رمزيّة للعديد من الأعمال الفنيّة على مرّ العصور لنذكر مثلا رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو José Saramago، أو فيلم “عطر أمرأة” للمخرج مارتن بريست Martin Brest والّذي قام بدور البطولة فيه الممثل آل باتشينو Al Pcino، أو لوحة “عميان قادة عميان” للرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر Pieter Brueghel l’Ancien.
لم تكن وجهة الفن للعمي وجهة تصويريّة للكفيف بقدر ما هي وجهة رمزيّة لطرح إشكاليّة تاريخيّة سياسيّة أو إنسانيّة وجوديّة، ففي مسرحيّة “ما نراوش” المقتبسة عن مسرحيّة “العميان” نجد الشخصيات تسبر أغوار ذاتها وعلاقاتها بتاريخها الاجتماعي والسياسي، فقد جاء على لسان شخصية المرأة هناء واصفة شخصيّة القائد قبل موته: ” متحير… المطرة الآخرة فيضت الوديان والسدود للفم… البحر يرعبو يظهرلو البحر يهيج من غير سبب وجبال ما هاش عالية… يحب يشوف… أما عمرو ما قاللنا آش شاف… يظهرلي مشى يجيب في الخبز”. رموز فلسفية وبشر مثل القطيع المذعن المستسلم إلى قائدهم الّذي لا يستأنس إلى وعيهم حتى بإخبارهم عما يراه خوفا من ثورتهم عليه، فخوفه من هيجان البحر هو رمز لخوف القائد من تقلبات الأوضاع وتغيّرها فمن رموز البحر حركيّة الحياة، مكان ولادات وتحوّلات وعبور . لم تقف وظيفة البحر في المسرحيّة عند هذه الرمزيّة لنجده في خطاب شخصيّة الشايب حاضرا بمعناه المادّي، فعندما تبدي الشخصيّة رغبتها في تولّي القيادة تقول حرفيّا “الي ما يحبنيش يمشي على روحوا، هو حر ربي يواجهو خير… ما عليه كان يشق البحر… أنا نعاونو… نشوفلو حراق ثيقة…” تعلو مع كلماته صوت عاصفة وزوبعة وموج يضرب على الحجر. ماديّة البحر هنا تتجلّى في دفع المعارضين الرافضين لسيادته إلى خطر الموت، أولم يكن للبحر نصيبا في القرابين من البشر منذ العصور القديمة والقادة تقدم له العذارى والشباب خوفا من غضبه، أوليس هذا قربانا معاصرا للتخلّص من كلّ صوت حر بإمكانه أن يهدّد كيان السيادة الجامدة الّتي لا تحرّك ساكنا أمام الواقع المتأزّم، فالقائد الميّت في مسرحيّة “ما نراوش” “مات مربع يديه… ما يعمل في شي”.
شخصيات المسرحيّة التي لا تستطيع حتى استبصار القليل من أشعّة الشمس، أي استبصار القليل من الحقيقة، ظلامهم ليس مادي بقدر ما هو ظلام فكر ووعي وحكمة. خرجوا من ملجأهم في رحلة إلى البحر اعتقدوا أن بإمكانهم العودة مسلّمين ثقتهم الى قائدهم، اعتقدوا أنه سيعود بهم الى ديارهم وحياتهم التي اعتادوا عليها والتي هي في الأصل خرابة قديمة مظلمة. تنازلوا عن حريتهم ومسؤوليتهم في المجازفة باختيار وجهتهم والتحكم في مصائرهم، فعندما يسود الجهل وتنزل غشاوة على العقول يحل الخراب. عميهم ليس في البصر إنما في البصيرة، دجّنوا في فكرة القائد والزعيم المنقذ، فكر استسلامي خاضع وخانع أمام سياسة الفرد، خضوع وتبعية لنظام درّبوا عليه دون تفكير، نظام يصعب التحرر من قبضته لأنهم لم يتدرّبوا على التفكير في وجهتهم بقدر ما انساقوا نحو الوجهة التي يريدها قائدهم، فلا مخرج من المتاهة ولا تغيير للواقع ولا حتى محاولة لحلحلته دون وضع وسائل لبناء الوعي.
عبرت المسرحيّة بالرمز عن الحاضر الغير مفهوم والمستقبل المجهول. فالعمى في هذا الأثر هو كشف الخراب التاريخي المحيط بنا من خلال شخصيات تشكوا من الضياع في الحاضر وتحن خوفا من المستقبل إلى ماضيها القاهر في حالة حزن وإحباط، فملجأهم الذي يودون العودة اليه هو ماضيهم الموحش المظلم. أولم تئن أصواتا في واقعنا اليوم حسرة وحنينا إلى زمن الدكتاتوريّة خوفا من متاهة الحاضر المتأزم على جميع الأصعدة ورعبا من المستقبل المجهول؟ تدور الأحداث في المسرحيّة أمام أعيننا كرحى واقعنا التاريخي إلى أن يدبّ الرعب في شخوص المسرحيّة. ربما نحن كشخوص المسرحيّة لسنا بحاجة إلى قائد يوجهنا كالقطيع الخانع بقدر ما نحن في حاجة إلى فلسفة وعي تجتاح الشوارع والطرقات وجميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مناديه فينا مناداة سقراط بين المواطنين مثيرا وعيهم بنقد الراهن والموجود، أوبقدر حاجتنا أيضا إلى مطرقة نيتشه لنضرب بها القيم والأخلاق التي تبقي عليها السلطة كآلية قوية للتدجين.
لفّت العرض طقسيّة روحانيّة بالهمهمات والدعوات والصلوات إلى الغيب وطقوس الدفن على صوت الطبيعة إن كانت هادئة أو مزمجره، ففي الأزمات الوجوديّة كالموت يترك خطاب العقل جانبا ويعلو صوت الإنسان في صراعه الأزلي مع الموت ليرجو امتدادا غيبي. إذ يأتي على لسان شخصيّة الحنين في إحدى تدخلاته العقلانيّة “موش وقت صلاة” لنجده في طقوس دفن شخصيّة الشيخ يحمل التابوت مع الشخصيات الأخرى داعيا الغيب معهم بصوت جوق في كامل طقسيته وروحانيّته “يا رحمان يا رحمان هذا عبدك واليوم يا رحمان طالب فضلك”. فعبر شخصية الحنين يتجلى خطاب إيديولوجي أنهك التونسيون بعد الثورة صنفهم إلى مذاهب وأديان وأنزل بينهم صراع واهي بين مسلم وغير مسلم، ولنذكر على سبيل الذكر وليس الحصر ما حدث على إثر ثورة 14 جانفي يوم عرض فيلم نادية الفاني “لا ربي لا سيدي” أو حادثة “المنقالة” التي شهدت التهجم على الفنانين يوم عيد المسرح العالمي من قبل المتطرفين دينيا، تكرّر نفس التهجّم المادّي في حادثة “العبدلية”، كما تعرّض المخرج والممثّل والكوريغرافي نجيب خلف الله للعنف من قبلهم إثر عرضه لمسرحيّته “ألهاكم التكاثر”.
كل هذه الأحداث وغيرها تؤكّد تاريخيّا هذا الانقسام الإيديولوجي الّذي أشعله فينا الخطاب السياسي الديني. فشخصيّة الحنين وإن دعت إلى تفكير عقلاني فلأن الأزمة بحاجة إلى تفكير عقلاني وليس لأنها تتهكّم على مرجعيّة دينيّة أو ثقافيّة، وإن كانت نبرة دعوتها العقلانيّة في ذلك الحين حادّة وحاسمة فهذا لا ينفي عنها ممارستها لطقس ديني ثقافي جمعي وانغماسها فيه بروحانيّة، تركيبة الشخصيّة تبعث لنا برسالة لعلّ مفادها “الدّين للّه والوطن للجميع” وأنّ الأزمات التاريخيّة تحلّ بحكمة وعي معرفي وتاريخي مدني، إذ لا يجب أن ندع الأزمة الحقيقيّة جانبا ونمسك بفرع زئبقي لا يمسك ويبعدنا عن القضيّة، وربّما هذا ما حدث في إحدى وضعيات المسرحيّة حيث كانت جميع الشخصيات الفاعلة منشغلة في التساؤل والتباحث عن مخرج من أزمتهم وصرخت إحدى الشخصيات فيهم مدعية أن أحدا لطمها على ذراعها، حوار جانبي جعل الشخصيات تنزاح عن التباحث في الأزمة لجدال حول من لطم ذراع الآخر أنساهم أزمتهم الحقيقيّة.
عند غياب الوعي المعرفي والفكري في مجتمع ما تحلّ أكثر الأزمات تعقيدا، وقد تطرقت المسرحيّة إلى عدد من القضايا التاريخيّة والإجتماعيّة بما فيها العلاقات الإنسانيّة الباهتة الّتي نعيشها في تاريخنا الراهن، إن كانت عبر الحوار ذا الإيقاع الخفيف والسريع بين الشخصيات أو عبر طيرادات des tirades لبعض الشخصيات واضعة تحت مجهر المختبر الفني العديد من المسائل المعقدة والتي تبدو في ظاهرها متفككة إلّا أنها مرتبطة ببعضها البعض كتأثير سقوط قطعة الدومينو على باقي القطع التي ترتص في صف واحد لتليها بالسقوط الواحدة تلوه الأخرى، بين أزمة تاريخيّة سياسيّة واجتماعيّة وإيتيقيّة وإنسانيّة حيث تقول شخصيّة الشايب: “عمرنا ما شفنا بعضنا نسألوا ونجاوبوا ونعيشوا مع بعضنا وما نعرفوش بعضنا نمسوا بعضنا بيدينا الزوز… وشي… العنين يعرفو أكثر من اليدين”. أزمات متداخلة متشابكة لا يمكن معالجة واحدة دون النظر في البقيّة.
هذه الصّورة الفنيّة السمعيّة البصريّة الحيّة التي عرضت أمامنا لا تفك شيفرتها التي تقدمها لنا بقراءة عموديّة، لأنّ خطابها الرّمزي يستبطن بين ثناياه جملة من القضايا التاريخيّة فالعميان في مسرحيّة “ما يراوش” تطرقوا عبر حوار مرن مفرداته مشحونة برمزيّة تعبّر عن الأفكار بعلامات توحي لنا بتحليل وتفكيك الواقع الّذي نعيش، وجماليّة العرض العجائبيّة المفعمة بطقسيّة فنيّة تعبّر عن المعاني بالرموز والإيحاء داعية ذهن المتفرّج وإدراكه ووعيه إلى فهم ما تلقى من الصّورة المرئيّة أو المسموعة أو إكمال تصويرها بما يضيف إليها من توليد خياله حيث يصبح المتلقي مشاركا في إنجاز عمليّة الخلق الفني.
البيبليوغرافيا
• CHANTRAINE Pierre, Dictionnaire étymologique de la langue grecque, Tom II, French Edit, Paris, 1999.
• CHEVAlIER Jean, Alain CHEERBRANT, Dictionnaire des symboles, Edit Robert Laffont/ Jupiter, Paris, 1982.
• CHARBONNER Marie-Anne, Esthétique du théâtre moderne, Edit Armand Colin, Paris, 1998.
• ADAM Marthe, « Le théâtre de marionnettes actuel : Ambiguïté, provocation, recherche », (in) Jeu : Revue de théâtre, n° 51, Marionnette, Edit Cahiers de théâtre jeu inc, 1989. Pp (70-89).