قراءة في كتاب “المسرح المغربي أسئلة و رهانات ” للدكتور محمد محبوب
لا شك أن كتاب الدكتور محمد محبوب ” المسرح المغربي أسئلة و رهانات” يندرج في سياق المتابعة الدقيقة و البحث الرصين و العميق في قضايا المسرح المغربي، و تشخيص سيرورته و مساره، والوقوف على مرجعياته، و إدراك الشروط الاجتماعية التي أفرزت الظاهرة المسرحية المغربية التي تبدو جديرة بالمساءلة و التقييم بالنظر إلى ما راكمته عبر ما يربو عن تسعة عقود من الإنجاز و العطاء المتميز و المتواصل. و ذلك بحثا عن تأسيس و صياغة القالب المسرحي المغربي الخاص، و الانخراط في نفس الوقت في الحداثة عبر مستوياتها الفنية و تجلياتها الثقافية و الاجتماعية. و في سياق البحث عن جذور هذه الظاهرة المسرحية و كيفية تشكلها يلاحظ الباحث أن تكوينها شابته اختلالات و اكراهات متعددة حالت دون فاعلية هذا الفن و تطوره، حيث تميزت مرحلة ما بعد الاستقلال بمميزات الصدام الأيديولوجي، و غياب الشرط الديمقراطي و مصادرة الحريات النقابية و السياسية الأمر الذي انعكس سلبا على الممارسة الركحية و حال دون ارتقاء المسرح المغربي و تطوره الفني و التنظيمي. غير أن هذه المعيقات و إن شكلت عناصر كابحة فإنها بالمقابل منحت شحنة ايديولجية و طاقة فكرية، و نزوعا صداميا و ثوريا جعل الممارسة المسرحية تخرج من طابعها الكلاسيكي و البوليفاري البسيط إلى تثوير المضامين و مساءلة الصيغ الفنية و محاولة تثوير الأشكال و الفضاءات بحثا عن المسرح المناسب و اللغة المناسبة. و قد تجسدت هذه الممارسة من خلال ما يعرف بالمسرح الهاوي. ذلك أن المؤلف يعتبر الهواية مكسبا جماليا جسد دلالة التجديد و الخروج من سلطة النموذج المسرحي الكلاسيكي على مستوى النص الدرامي الذي انفلت من سلطة الكتابة الدرامية التقليدية، و ذلك بتفجير القوالب الجاهزة لبناء نص درامي، و الانفتاح على التراث، و استشراف المدى الشعري ..وعلى مستوى بناء الحدث، و ذلك باعتماد أسلوب التغريب البريختي ( نسبة لبريخت )، و الالتجاء إلى التضخيم و الغرابة و العجائبية، وتوظيف تقنية التقعير التي تستهدف توظيف نصوص دخيلة تلعب دورا تحريضيا، و غير ذلك من الآليات و الأدوات الفنية التي أفضت إلى انتاج فرجة مسرحية تركيبية ناهضة على ثراء النص الدرامي من جهة، و تعدد الأنساق و العلامات الحركية و الصوتية و السمعية من جهة ثانية. و هذا هو الذي جعل الفرجة المسرحية تتخلص من أحادية النسق اللغوي لتنفتح على فرجة تركيبية تتعالق فيها الجماليات النصية بالأنساق و المقومات الركحية.
و إذا كانت الهواية المسرحية شكلت مكتسبا جماليا – حسب المؤلف – فإن الممارسة الاحترافية راكمت هي الأخرى قيما جمالية و إنجازات فنية رغم الحنين الذي ظل يراودها نحو الممارسة التجارية القائمة على الاضحاك المجاني و سطحية المواضيع، و استعمال خطابات انتقادية بسيطة لدغدغة شعور الجمهور.
و هكذا استطاع المسرح الاحترافي بفضل مجهودات أقطابه مثل : الطيب الصديقي و أحمد الطيب لعلج و غيرهم من الانفتاح على فضاء الريبرتوار العالمي من خلال استيحاء الأجواء المولييرية، و توظيف مقومات المسرح الطليعي، و تقنيات المسرح التسجيلي.
و إذا كان الانفتاح اتخذ صبغة استكشافية، فإن المسرح الاحترافي ما لبث أن تنبه إلى قيمة التراث و راهن على انتاج مسرح مغربي بديل للصيغة الغربية من خلال المزاوجة بين الأدوات الاخراجية الغربية و تقنيات انتاج الفرجة الشعبية كما هو الحال بالنسبة لفن الحلقة و البساط و سلطان الطلبة و غير ذلك من الأشكال الفرجوية و المسرحية التراثية المغربية. و بذلك انخرط المسرح الاحترافي في تجربة تأصيل الكتابة المسرحية، و ترسيخ الفعل الدرامي من خلال ربط الممارسة المسرحية بالشرط الاجتماعي عبر فضح مجموعة من السلبيات و الاختلالات الاجتماعية كالظلم الاجتماعي والرشوة وغياب الرقيب الأخلاقي و غير ذلك من الموضوعات ذات الحس النقدي.
و بعد القراءة التشخيصية لواقع المسرح المغربي يحدد الكاتب مكامن الهشاشة في الممارسة المسرحية التي يجسدها في غياب مشروع تنظيمي يحكم الممارسة الأمر الذي يجعلها تعيش تحت رحمة الفوضى و التسيب داعيا إلى فك الارتباط مع منطق الهواية والانخراط في ترسيخ الفكر المؤسساتي على أسس قانونية صارمة. و يخلص إلى أن رهانات المسرح المغربي تتمثل في استقطاب جمهور أوسع، و إعادة تشكيل انتظارات الجمهور أي القيم الجمالية التي يلتقى بمقتضاها هذا الجمهور الفرجة. داعيا إلى تخليص هذه الانتظارات من شوائب المسرح التجاري، و تأثيثها بقيم جمالية جديدة تراعي شروط التمسرح، و تسعف في التفاعل مع الفرجة في مقوماتها الفنية و دلالتها الحداثية.
و بالموازاة مع تشخيص و قراء الظاهرة المسرحية يتابع المؤلف التجربة النقدية معتبرا أنها تتأسس على منظومة شاملة تستحضر المكونات النصية والعناصر والأنساق الركحية المرتبطة بخصوصية العرض ومكوناته السمعية والبصرية والفرجوية. وهي تجربة سعت إلى استكمال شروط نضجها بعد الخروج من دائرة التقليد القائمة على الوظيفة التلخيصية والتعليقية لامتلاك جرأة مقاربة الظاهرة المسرحية في ابعادها النصية ومكوناتها السينوغرافية والفرجوية. غير أن مكمن الضعف في هذه التجربة يتحدد في إعادة انتاج نفس المفاهيم، و اسقاطها على النصوص والعروض المسرحية دون امتلاك الجرأة والقدرة على المغامرة العلمية التي تفضي إلى الكشف عن أسرار العمل الفني والوقوف على عناصره وآليات اشتغاله. هذا فضلا عن نزوع الخطاب النقدي المسرحي إلى التساهل والمجاملة، وطغيان النزعة الوثوقية والدوغمائية. غير أن هذه النقائص لا تحجب تطور الممارسة النقدية مع بروز جيل من النقاد الشباب الذي يؤشر إلى ولادة حساسية نقدية جديدة تحمل وعيا نظريا ومنهجيا جديدا يبشر بنهضة مسرحية و نقدية واعدة.
وبعيدا عن متابعة مسارات الممارسة المسرحية وتشخيص سيرورتها حاول الكاتب طرح مجموعة من القضايا تتعلق بالبحث الجنيالوجي والانثروبولوجي وغير ذلك من الخطابات التي تفصح عن ثراء الكتاب وعمق تحليله، حيث تجاوز الأطر المنهجية التقليدية في مقاربة الظواهر المسرحية منفتحا على أطر معرفية ومنهجية مغايرة تستجيب لتطور التجربة المسرحية المغربية وخصوصيتها التي أفرزتها طبيعة تشكلها مما يستوجب الانزياح عن الرؤية المنهجية التقليدية بغاية تأسيس قراءة مختلفة تلاءم خصوصية الفرجة المغربية وطبيعة اللعب المسرحي في ظواهرها المسرحية التراثية، وتستجيب لمشروع نقدي متجدد يؤسس لمبدإ الاختلاف والتنوع الثقافي، و يرسي دعائم المغايرة والابداع النقدي للخروج من دائرة التبعية النقدية للطروحات والتصورات التقليدية الغربية.
كما أن الكاتب أفرد حيزا مهما للمتلقي باعتبار مركزيته في تحقق الفرجة و إنجازها ساعيا لرصد أشكال الاستقبال والميكانيزمات النفسية والسوسيولوجية والجمالية المتحكمة في تلقي الفرجة لدى الجمهور المغربي. و قد لاحظ الكاتب هيمنة شكل من التلقي البسيط مؤكدا على ضرورة إعادة تشكيل انتظارات الجمهور وفق قيم جمالية جديدة تراعي شروط التمسرح وعناصر التجديد على مستوى الكتابة النصية والركحية، كما دعا إلى اخراج المتلقي من وضعه السكوني للانخراط في سيرورة مساءلة العرض ومجادلته بدل التماهي والانجذاب إليه.
أما الجزء الثاني فقد جاء عبارة عن مقاربة لمجموعة من العروض والنصوص المسرحية، وذلك بأدوات سيميولوجية تسعى لالتقاط مقومات الكتابة الدرامية وعناصر التمسرح أي المقومات الجمالية والسينوغرافية التي تؤسس جمالية وشعرية الركح/ الخشبة. و بذلك نزعت المقاربات إلى رصد الخصوصيات الدرامية ومكونات الإنجاز الركحي من موسيقى وحركة وإنارة وأدوات ركحية وتأثيثات فضائية وسينوغرافية و غير ذلك من العناصر التي تساهم في تسنين الفضاء وتشفيره من جهة وإضفاء طابع جمالي عليه، مما يخلق جاذبية العرض وشعريته. بيد أن هذه المقاربة التركيبية العميقة لم تشتغل على نصوص تنتمي إلى فضاء المركز أو إلى ما يعرف بالمسرح الاحترافي، بل إن الكاتب حاول إعادة الاعتبار إلى الهامش و قارب مسرحيات تنتمي إلى فضاء جغرافي هامشي” مشرع بلقصيري مثلا” ساعيا للوقوف على القيمة الإبداعية للمسرح الهاوي من خلال القيمة الدرامية للنصوص ومستوى الإنجاز الركحي وجمالية الكتابة السينوغرافية لتجارب امتلكت ناصية الابداع والتفرد والاثارة المشهدية والدرامية المتميزة. و اجمالا يمكن القول مع الكاتب أن قراءة الكتاب تشكل مغامرة جميلة تقود إلى تفكيك مغالق الابداع المسرحي المغربي نصوصا وفرجة ونقدا وتنظيرا، كما تهيء القارئ لإعادة قراءة القضايا والإشكاليات التي رافقت سيرورة تشكل الفرجة بالمغرب وادراك حمولتها الجمالية وخلفياتها الاجتماعية، وأبعادها في اثراء المخيال المغربي، وترسيخ الوعي الجمالي، والارتقاء بالذوق والجمال و غيرها من القيم التي تؤسس طبيعة الهوية الثقافية المغربية القائمة على الانفتاح والتعدد والنزوع إلى التجاور بما هو فعل ابداع وتجدد.