*****************************
مات المسرح …عاش المسرح
مرتجلة مسرحية
بين احتفالية الموت والحياة
يعتبر الكاتب والمبدع المسرحي رضوان احدادو كاتبا متعددا، ورائدا مجددا، وناقدا مدققا، وباحثا طلائعيا، ومنظرا مسرحيا استثنائيا، بل ورمزا من الرموز المشرقة والدالة في المشهد السردي المغربي بكل أصنافه وطروزه، وهو أيضا من الأسماء المؤثرة في النقد والتنظير المسرحي، وعَلَما من أعلامه الشامخة والمؤرخة لحركية المسرح في المغرب خصوصا في منطقة الشمال، فببحوثه الجادة ـ قراءة وتتبعا وتمحيصا ـ استطاع هذا المبدع الكبير أن يغير من مسار تاريخ مسرحنا في المغرب، وقَلَب كل موازينه ومفاهيمه التي ظلت سائدة في نقدنا الحديث حول توثيق حركية هذا المسرح، وذلك بإظهار معطيات جديدة وتقديم وثائق نادرة، أعادت للمسرح المغربي اعتباره واعطت للباحثين رؤى وتصورات ومفاهيم جديدة أعادت من خلالها النظر في تأسيس اللبنات الاولى لظهور المسرح في المغرب والذي يعود إلى القرن التاسع عشر بدل ما كان معروفا وسائدا وموثقا عند نقادنا في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين، فالمعطيات الجديدة لرضوان احدادو تثبت أن منشأ المسرح كان في مدينة تطوان سنة 1860 بدل مدينة فاس سنة 1923، وقد نشر كاتبنا احدادو كثيرا من الدراسات والأبحاث عن ” ذاكرة الشمال المسرحي” بجريدة الشمال في أكثر من سبع مائة حلقة، فجَّرَ خلالها موضوع التوثيق المسرحي المغربي برؤية جديدة، وتصور جديد، وبمعطيات جديدة، أماطت اللثام عن التاريخ الحقيقي للمسرح المغربي، مما جعلنه يدعونا الى كثير من التأمل لهذا المسرح الذي عانى بؤس الخصاص في البحث عن الوثيقة التي تثبت ريادته في معانقة خشبات المسرح، وقد انتهج رضوان احدادو في مجرى توثيقه على كثير من الدقة في التوصيف والتصنيف والتحليل، مسترشدا بأعلام وأعمال وصور ووثائق مسرحية اعتبرها الباحثون والنقاد كنزا ثمينا لمسرحنا المغربي، خصوصا وأنه قد توقف فيه على مسح شامل لظاهرة هذا المسرح برواده وكتابه ومخرجيه وممثليه في حقبة منفلتة من زمننا المسرحي المنفلت.
يعتبر رضوان احدادو من جيل العاشقين المتيمين والمخلصين لأبي الفنون، حبه الجارف جعله يصقل مواهبه المسرحية في البدايات الأولى لشبابه، وذلك في إطار جمعيات مسرح الهواة بالشمال خصوصا بمنطقة الشمال، واستفاد مع جيل ما بعد الاستقلال من حلقات التكوين الأولى التي كانت تشرف عليها وزارة الشبيبة والرياضة كل سنة ضمن مشروع مسرح المعمورة، اذ شارك في ثلاث دورات تكوينية متتالية ضمن ورشة معمل التأليف التي كان يؤطرها حينئذ أطر فرنسية ومغربية أمثال أندري فوازان وبيير لوكا وفريد بنمبارك…
لا شك أن هذا التكوين قد ساهم في توجيه كاتبنا للانخراط في عوالم الكتابة للمسرح بكل حب وشغف واستطاع أن يراكم تجربته في هذا الميدان بشكل متواصل فألف العديد من النصوص والدراسات النقدية بدأت تعرف حضورها على خشبات المسرح في عقد الستينات، بينما انخرطت في عوالم الطباعة منذ نهاية السبعينيات فنشرها حسب السنوات: (ـ الأرض والزيتون (1979) ـ في انتظار زمن الجنون ـ ليبيا (1985) ـ أهل المدينة الفاضلة (1998) ـ زمن مضى ولم يمض (1999) ـ البحث عن متغيب (2001) ـ الحافلة رقم 3 (2002) ـ طارق الذي لم يعبر (2011) ـ المتنبي يخطئ زمانه) (2012) ـ الباب والراس (2014) ـ تيرينا والملاك الصغير (2015) ـ المشاء أو الأراجيح تحلق عاليا (2018) ـ الاعمال المسرحية ـ الجزء الأول و الجزء الثاني (2020) ـ مات المسرح… عاش المسرح (احتفالية الموت ـ احتفالية الحياة (2021)، كما نشر أيضا مجموعة من الكتب النقدية و التوثيقية المسرحية نذكر من بين مؤلفاته: ـ “مسرح عبد الخالق الطريس” (1988)، و”الحركة المسرحية بمدينة طنجة” (1992)، و”كتابات على جدران مدينة منسية” (2001)،و”ثريا حسن- رائدة مسرحية من شموخ” (2005)، و”محمد الدحروش- مسيرة مسرحية متوهجة” (2008)، و”محمد النشناش- الظل الآخر” (2009)، “فرجات مسرح (البساط) في شمال المغرب” (2021) ـ “أحمد المروش أيام من حياتي ( تقديم وإعداد رضوان احدادو” (2021) دون أن نذكر ما نشره من قصص بعضها في مجلات وملاحق ثقافية وبعضها الاخر في مجموعة قصصية (ـ البحر يحترق (1979).
إن المتأمل في كتابات رضوان احدادو المسرحية الإبداعية، يجد أنها تنتمي الى تيار المسرح الاحتفالي، الذي انخرط الكاتب في مشروعه منذ تأسيسه الأول، ووقّع على بياناته، ومنذ ذلك الحين، ظلّ وَفيّا لمنهجه، ومخلصا لرؤاه، ومجدا في طروحاته، يكتب من عمق فلسفته المتعددة، ويبدع من كُنْهه متجدد، ويستشرف من أفقه المنفتح على الحياة، فكتابة أي مشروع نص مسرحي احتفالي لا بد وأن يتضمن حمولة مختلفة، وطرحا جديدا.
في كل مسرحية من مسرحياته يبحر إبحار عميقا ليسبح داخل فضاءات وعوالم فسيحة لا حدود لها، ولا تكرر نفسها، وقد ساعفه في ذلك ثقافته الموسوعية الواسعة ورؤيته الشمولية الثاقبة واسلوبه السلس وحواره الممتع، مما جعله يجدد مشروعه باستمرار، وألا يشرب من نبع واحد، ولا تجتر المآسي بشكل سلبي، كل أعماله يصممها بدقة وإتقان، يبدعها بتفان للتأمل والمساءلة، لأنها تفتح افقا للمتلقي للمشاركة والتأويل، ولأنها تشركه في إعادة بناء المعنى وتجدد الإنتاج.
كتب رضوان احدادو ما يزيد عن ثلاثين نصا مسرحيا، كل نص يختلف عن غيره، في بناء المعنى وتناول المواضيع ومعالجة المبنى، وجرب العديد من التجارب بأسلوبه الممتع، وحواره الدافئ، الذي يتمتع بفيض من الشاعرية وباختيار لغة عالمة وواصفة، تجذب القارئ قبل أن تَأسَره لمشاهدة العرض، صدقه في الكتابة جعل تجربته تنخرط في مسرح القضية بانفتاحها على التحولات الاجتماعية لكن برؤى نقدية وطرح فني جمالي، مسرحياته تعيد تشكيل الواقع بتركيبة درامية جديدة، قد تستلهم من التراث ما يثري مواضيعه المطروحة، لكن بشحنات دلالية مغايرة ومستبدلة تستند الى واقعنا وتتماهى فيه بما هو كائن وموجود بكل جرأة وموضوعية، بعيدا عن الخطاب التقريري والمباشر، وقريبا من سلطة لغوية عالمة تنبني على الاختيار اللغوي الحالم بكل دقة وتوصيف.
اعتمد رضوان احدادو في كتابته لمسرحيته الجديدة هذه: مات المسرح… عاش المسرح (احتفالية الموت ـ احتفالية الحياة) على رؤية مختلفة من حيث الشكل والمضمون، ذلك أن موضوعها اتخذ طابعا جديدا، وطرحا مختلفا، لأنها تنتمي الى جنس مسرحي قلما يكتب فيه المغاربة والعرب على حد سواء، وهو ما يسمى ” بمسرح المرتجلة” التي تستمد حضورها من تقنية (الميتا مسرح) أو المسرح داخل المسرح، والتي بموجبها تختلف في شكل كتابتها: اذ يعتمد اسلوبها على بناء صورة فنية درامية تتأسس على تيمة المسرح وطرح قضاياه، ومشاكله، ورؤاه، وذلك في سياق فني وجمالي، ومن خلال تقديم عرض/ احتفالي مسرحي يعالج قضايا أبي الفنون من بعض زواياه العالقة، بل واحيانا يناقشه مع جهور القاعة بشكل مباشر ليكون الحوار مفتوحا داخل العرض المسرحي الأساسي.
وتعالج هذه المسرحية أزمة المسرح في شقين مختلفين، وفي سياق زمنين متناقضين: الاول تتسلط فيه الرقابة والمنع وتضايق حريته في التعبير، والثاني يتقنن نشر الرداءة وتصريف السخافة، وتشجيع أبشع صور الانحطاط على حساب أي فن راق وملتزم بقضايا الانسان، ليبقى الفنان المسرحي في آخر المطاف يصارع ذاته وواقعه ومحيطه، يواجه هذه الأزمنة المرتدة والمتردية وحيدا بكثير من المعاناة وقليل من الدعم والحق في الاعتراف من طرف الدولة والمجتمع بمؤسساته وأفراده.
يتأسس عنوان المسرحية في وصلتين متناقضين ومتقاطعتين لأبي الفنون، الوصلة الأولى تجسد احتفالية الموت وترصد أبشع صورها للمسرح، رسم فيه الكاتب فضاءه موحشا ومظلما فارغا وقاتما بجدرانه المتصدعة وبابه المهترئ، وبرودة أجوائه المميتة، يسكنه الصمت الرهيب، ويحكمه الوعيد وتخنقه الرقابة، ويترقبه المنع والخوف في كل لحظة وحين، يجسد أحداثَه ثلاثةُ ممثلين اثنان فوق الخشبة هما: ممثل 2 والممثلة من جهة في مواجهة طرف ثالث ومناقض وهو ممثل 1 حارس المعبد المتواجد داخل القاعة من جهة أخرى، والذي يمثل سلطة المنع والقمع، يتقاطع الحوار في صراع بين الطرفين بكثير من التشنج والاتهامات. في تكسير للجدار الرابع إيذانا بهذا الخرق، وتجسيدا لسلطة الرقابة وتكميم الافواه.
الوصلة الثانية تتمثل في الشق الثاني من عنوان المسرحية (عاش المسرح) وتجسد لحظة الأمل في استشراف لاحتفالية الحياة لهذا مسرح، الذي تحولت فيه السلطة من خارج المسرح (الرقيب/ حارس المعبد) الى سلطة جديدة ومقننة داخل المسرح وتتمثل في (مدير المسرح) والذي تقلد هذا المنصب ليكون عنصرا شاذا ومعاكسا للمسرحيين، مشاكسا لما يقدمه المسرح والمسرحيون من طروحات ومواقف.
وعلى الرغم من أن هذه المرتجلة تنتمي الى المسرح الحديث، فإن الكاتب قد حافظ فيها على ثوابت الفلسفة والمنهج الاحتفالي، فكان ذكيا في استلهامه للتراث من خلال استحضار مجموعة من الشخصيات التراثية المؤثرة في النص كـ 🙁 طرتيف وأرسطو عنترة وعبلة) وأسماء أخرى عابرة في النص كنيرون وصلاح الدين، ليوظفهم في سياق احتفالي ممتع، فأعطى لكل شخصية حمولتها ووضعها الاعتباري ضمن سياق جديد مشروط بواقع يمتح من الحضور التاريخي رمزيته ومن الواقع الآني حركيته وتجدده وصراعه، من هنا ينبني الحدث برؤية منفلتة تتخذ من الموقف مشروعَ رؤية جديدة قابلة للتماهي مع كل مكونات المجتمع في صراعه المرير مع واقعه الجديد المتفاعل، فينفتح القارئ/ المشاهد للعرض على بناء تصورات جديدة قابلة للتأويل، يتفاعل فيها ومعها بناء على حمولته الثقافية ووعيه الجمعي، وعلى قدرته في بناء تصورات تحكمها المعرفة والبعد الايديولوجي لهذا القارئ/ هو قارئٌ ومشاهدٌ واعِ ومدركٌ لما يجري بالضرورة، والا فلا مكان له داخل زمن الاحتفالية.
من هنا يمكن للمتلقي الامتطاء الى صهوة التأويل فيصبح المشهد قابلا لإعادة البناء لحمولة كل شخصية من شخصيات هذه مسرحية: (فالمرأة دلالة عن المسرح بكل معاناته واحباطاته، والابن مستقبل هذا المسرح وأمله الضائع الذي يحمل في عمقه الحياة والتغيير والعطاء والهروب من اليأس، والجوقة للدلالة على الضمير الجمعي والمدير للدلالة على السلطة المزيفة. في حين يبقى الراوي شاهدا على العصر ـ (وكأنه كاتب هذه المسرحية) ـ، يُدَوّن كل لحظة من لحظاته الهاربة بنبل وصدق، يطل على أزمنة المسرح بوجه مكشوف وحقيقي ويبوح بما في عمقه ألما وأملا للبحث عن بزوغ يوم مشرق آت من بعيد، يربط فيه قوة المسرح بالكرامة، الراوي في المسرحية يسجل في ديوانه تواريخ وأحداث وأقوام عرفها هذا المسرح كنيرون وفرعون وقارون والنمرود وكسرى وجنكزخان ونابليون وقلب الأسد… هي نماذج وأبطال لإبراز الأزمنة والامكنة في سياق تتجسد فيه السخرية لكنها بمرارة واقعنا المهترئ والمتعفن.
إن استلهام بعض هذه الشخصيات التراثية كان لتوظيفه من طرف الكاتب الاثر الإيجابي في النص، فكان الاستلهام ذكيا حين بنى شخصية عنترة وعبلة ضمن منظومة جديدة، فجردها من واقعها، ليلبسها ثوبا جديدا، وجعلها تصارع الآخر بعيدا عن موقفها وحضورها وواقعها التاريخي الثابت، الى اعادة بنائها كشخصيات جديدة تنغمس في واقعنا وحاضرنا بمرارة وتلبس معطفا آخر يناسبنا نحن رغم أنه يشوه فيها كل شيء جميل، فعنترة التاريخ يحمل صفات البطولة والقوة والشهامة، ليصبح اليوم في المسرحية يجسد صفات الخنوع والاستسلام والمؤامرة، يصبح تابعا ومتآمرا، يتحول من شاعر للقبيلة الى مرتزق لمدير المسرح، والتبرير في ذلك هو أننا فقدنا في واقنا الرجولة والشهامة، ولأن زمننا تفشى فيه المسخ ولم تعد النساء تلدن فيه الفرسان، فإن عبلة القوية تصبح ضعيفة لأن صوت فارسها أصبح مهزوما ويعيش في سراب خادع و ويتأبط سيفا من خشب، ويمتطي فرسا من قصب.
هكذا نسج الكاتب رضوان احدادو في هذه المسرحية قضية أبي الفنون فحبك فصولها من زاوية إبداعية / نقدية، فسافر بنا بجموح خياله الواسع واسلوبه الشيق وحواره الممتع عبر محطتين عاش فيهما المسرح غبنا داخل منظومة مقنعة بالزيف والخداع.
د. عبد اللطيف ندير