يقول الفريد نورث وايتهيد :”في المغامرة حيويةٌ وحياة”
وبالطبع هي مغامرةٌ فيها تبعاتٌ تتعلقُ أو تتصفُ بعنوناتٍ منها (الإجتهاد، المثابرة، الدهشة) وقد تتبعُها عنوناتٌ تركسُ في (الوهن، الضعف، الإهتراء) وغيرها أنَّكَ تجتهدُ لِتتُقدمَ، تجتهدُ لِتُضيفَ، وتجتهدُ لِتُثيرَ الدهشةَ
وفي هذه التوصيفاتِ ما يدعونا لِقراءةِ مسرحية “ليلةُ أل٠٠٠” من تأليف (عمار سيف) وإعداد (عباس القصاب) وإخراج (محسن حيدر) وتقديم فرقة (غانم حميد) المسرحية في محافظة النجف ضمن مهرجان الطف المسرحي الثاني /دورة الفنان الراحل (علي المطبعي) والمقدم عرضها على مسرح التربية الأساسية في جامعة الكوفة بتاريخ: 30/07/2022
إزاحة التأليف وهجانة الإعداد:
نجدُ في نص المؤلف (عمار سيف) متناً حكائياً يتسمُ بالبساطة والتواضع والوضوح حيث الاحداثُ تسيرُ وفق تراتبيةٍ قوامُها (الشيخ – الرجل) ويُعضدُ من تفاعلهما ثمة صوتٌ واصواتٌ ستُعطي زخماً لِرفد النص بشحناتٍ من العاطفةِ والتعاطفِ ذالك أنَّ أغلبَ النصوصِ المُؤَلَفَةِ في هكذا مهرجانات تستوحي من واقعةِ الطف موضوعاً لها لا يكادُ يبتعدُ أو ينأى عما تمورُ به الأنفسُ من مشاعرَ وعواطفَ وخلجاتٍ كثيرةٍ وفي تقصٍ لما جاء به المُعِدُّ (عباس القصاب) يُلاحظُ الآتي :
ـ لقد حوَّلَ شخصيةَ (الشيخ) إلى دور عامل في محطة وكان هذا التحولُ غيرَ واضحٍ وغابتْ ملامحُه أثناء مجريات العرض,
ـ أبقى على الرجل المخمور ليجعلَ منه شخصيةً تنوي الذهاب إلى كربلاء.
ـ ومن المشهد الثالث في نص المؤلف (عمار سيف) جاء بشخصية (المغسلجي) والذي ظهر على هيئة رجل أحدب لا يرفعُ رأسَه ويقوم بعملية الغسيل ومخاطبة الرجل المسجى على دكةِ التغسيل.
ـ أضاف شخصيةً رابعةً هي الشاهد والذي ظهر في مجريات العرض أيضاً بلباس ابيض وتُسندُ إليه أفعالٌ منها القيام بحرق الخيام وأيضاً حامل جرس الإنذار في المشهد الأخير للعرض المسرحي.
وبعد هذا العمل من قبل المعد (عباس القصاب) فنحن أمام نص قصير يكاد يلغي النص الأصلي ويأخذ منه نتفاً مما جعل من النص الجديد يقع في الإرباك وغياب الهُوية الحقيقية لشخصية الشيخ وهي شخصية راكزة عند (عمار سيف) وذات أبعاد فكرية وهي شخصية محددة في حين غابت أبعادها في نص الإعداد، إذ نحن مع دور عامل في محطة لم تتضح معلمها فاقد للملامح التي تجعل منه شخصيةً ذات تأثير في الفعل والتناظر المطلوب مع الشخصيات الأخرى فلم نرَ ذلك التفريق بين الرجل الذاهب إلى كربلاء وبين الرجل العامل ولم نميز بينهما ففي بعض من الحوارات يشتركان معاً في القول والحركة حيث يقولان في حوار لهما سويةً :” هي كل أرض في هذه الدنيا وكل يوم يومه”.
وإذا ما أمعنا النظر في شخصية ( الرجل الشاهد) فقد جيء بها لتشكل ثقلا وإستفهاماً عن جدوى حضورها غير المبرر بعد أن ظهرت في سياق العرض ولا نراها قد شكلت إضافةً لمسار الأحداث وفي مدى إنسجامها في الحضور المؤثر وسياق تدفق الحدث المسرحي على العكس من وجود شخصية (المغسلجي) والتي وفرت بفعلها إشتغالاً فنياً يُعد إضافةً مائزةً لحالات الإلتماع التي توفرت في هذا العرض.
فعل الإخراج /طغيان الشكل:
منذ اللحظات الأولى نجد المخرج الشاب (محسن حيدر) وفي أول خطواته في الإخراج ينحو بإتجاه المغامرة الشكلية في تَصَيُّرِه لطريقة العرض المسرحي وربما المبالغة الشديدة التي تعضدها الرغبة الجامحة والطامحة في الإندفاع لما هو أقصى وربما المغالاة التي لا تحسب نتائجها بشكل صحيح وقد تُخشى عواقبها وبدت تلك المغامرةُ والمشاكسةُ على الشكل التالي :
ـ أخذ من عنوان المؤلف الأصلي ليقترحَ من سيمياء العنوان ليكون باعثاً على التأمل من قبل المشاهد او القارئ ويأخذ له مساحةً في التبصر وإعادة القراءة له وفق رؤية تنسجم مع ما جاءت به مجريات شكل الإخراج المقترح.
ـ جرَّدَ العنوان الأصلي (ليلة التغسيل) من ممكنات التجسيد المعنوي بحذف المضاف إليه (التغسيل) لِيُبقي على عنوان مقترح، وفي تدبرنا للنقاط الثلاث التي ألحقها بعد (أل) ومحاولة ملئها لنكون مع عنوان جديد يمكن أنْ يخضع لعملية التأويل والفحص اللغوي لينتج لنا عنوان قد يكون (ليلة الطف أوليلة الغسل أو ليلة الحرق) وربما نذهب إلى عنونات مرادفة أخرى بحسب ما تكون عليه شهية التأويل وما تأخذه مديات القراءة الفاحصة.
ـ إقترح المخرج (محسن حيدر) شكلاً إخراجياً سيكون ذا تأثير في أسماع وابصار الجمهور حين جعل من أحداث العرض تدور في وسط المسرح وعبر مفردات بصرية راكزة في تواجدها الشكلي (مصطبة جلوس، دكة تغسيل الموتى، حوض تخرج منه نافورة ماء، خيم، سطول ماء، شجرة)
فضلاً عن وجود الشخصيات الأربعة التي مارست بفعلها مساراً فنياً أنتج لنا مشاهد مسرحية تشي بالتنويه والإخبار عما حصل وما سيحصل وبما يأتي به متن العرض من تفاصيل وإشتغالات مشهدية كمشهد تغسيل الجثة المسجاة على دكة التغسيل وكيفية رشقها بالماء وكذلك مشهد خروج الماء ليشكل نافورةً في مشهدية جميلة وأيضا مشاهد التصفح التسعة التي إبتدأ بها العرض وبعد أن برزت لنا إضاءة حمراء,
وهذه المشاهد وكأنها تقليب في صفحات التاريخ تبدأ بصوت (حمزه الصغير وياسين الرميثي والصغير في ردة أخرى وصوت هاي الدنيا ايام وصولا إلى الصوت التاسع بصوت الشيخ الوائلي) ثم تنتهي الأصوات بحدوث وشوشة صوتية لنكون بعدها بمواجهة ما تمخض به متن العرض والذي يتميز بإبراز الشكل المهيمن سمعيا وبصرياً ليذهب بتاثيره إلى حواس أخرى كالشم حين تمثل بإستخدام مادة البخور إذ لعب لون الدخان المتصاعد ليتزامن مع الرائحة كشاهد إدانة وتنويه لما يدور من تفاصيل واحداث ليصل أثرها ويعم في أوصال قاعة جلوس الجمهور,
وسمعياً فإنَّ المخرجَ يدفع بكمية من المسامع الإذاعية والأناشيد والأحاديث تمثلت بموسيقى تم تجميعها وإختيارها من قبل (علي الجراح) و تنفيذها بواسطة (حيدر عنوز) إضافة إلى أصوات (الشيخ الوائلي وحمزه الصغير و باسم الكربلائي) يرافقها بعض من مقاطع الشعر الشعبي باداء الرجل العامل (عباس القصاب) وبعض من مقاطع قصيدة للجواهري بأداء الرجل الذاهب إلى كربلاء (محسن حيدر),
وكل هذا التعزيز والتحشيد السمعي ليكون من الفواعل المساندة لإبراز هُوية ومرامات العرض. فضلا عن التعويل على مساهمة المرئي والذي حاز له بحصة مائزة تمثلت بإحضار تلك المفردة المركزية (مصطبة الجلوس) والتي تَصَيَّرَتْ بإشتغال الممثلين معها إلى (دِكة لتغسيل الموتى، حوض ماء) وبحركة خروج الماء كنافورة ماء تشكلت لنا مشهدية بصرية مؤثرة تُحسبُ من أهم وألمع إجتهادات المخرج الشاب (محسن حيدر) وتعزز ما يصبو إليه.
فهذه المشهدية البصرية من خلال ممكنات فعل الإضاءة من قبل الفنان (علي المطيري) قد أسهمت في إعطاء دورٍ معززٍ لتلك الرغبة التي كان المخرج يعول عليها، فقد شاهدنا حلات من الإظلام المعتم (دِم) لأكثر من سبع عشرة حالةً وايضا في نثر الإضاءة الفضية (السموكن) من وسط قاعة الجلوس وعلى رؤوس الجمهور، ومن جراء هذا الفعل صرنا بمواجهة شكل طاغٍ لعرض مسرحي كان يراهن في المقام الأول على الإبهار الشكلي لكل حيثياته,
وقد بدت هذه الشكلية مهيمنة بل ومزاحمةً لفواعل العرض الرئيسية فبعد أن تم تذويب نص المؤلف الأصلي (عمار سيف) و الإعتماد عليه في نتف بسيطة نرى أن هيمنة الشكل قد زحفت هي الأخرى لتزاحم بهيمنتها منظومةَ الأداء التمثيلي وتكون أكثر بروزا منها على الرغم من وجود الممثلين (محسن حيدر) في دور (الرجل الذاهب الى كربلاء) والذي حاول أن يعمق من حضوره بواسطة الأداء الصوتي المائز لديه لفظا ولغةً و(عباس القصاب) في دور (الرجل العامل) وعدم وضوح ماهية وجوده كشخصية رئيسية إفتقدت للوضوح وكأنها في إنشطار من شخصية (الرجل الذاهب إلى كربلاء) و(علي الجراح) في دور (المغسلجي) إذ حظي بحضور مؤثر ساعدته بنيته الجسمانية في أداء منسجم وهو يمسك بسطل الماء وأثناء دورانه حول الجثة المسجاة ويحاورها وهي على دِكة التغسيل، والممثل (ستار محمد) في دور (الرجل الشاهد) فقد أُسْنِدَتْ إليه مجموعةٌ من الأفعال وبزي ابيض مثير إلا أنَّ هذه الأفعال إفتقدت لمبررات وجودها معنويا ومنها وضع رأسه في سطل الماء وكأنه في حالة تعذيب ذاتي، وكذلك في جلوسه متقرفصاً أمام مصطبة جلوس المُمَثِلَين وهم يرتدون اللباس الاسود وأيضاً في المشهد الاخير وحركة الجري وحمل جرس الإنذار فكل هذه الأفعال والحركات كانت بحاجة إلى ما يبرر حضورها ليحظى المعنى المراد منها لدى الجمهور بحضور إيجابي ومؤثر.
وأخيراً لابد من من التذكير بحالة الفرح الغامر ونحن نرى (محسن حيدر) مخرجاً مسرحيا وهو لم يتجاوز الثامنة عشر ربيعاً يصر ويحاول أن يأتي إلينا بما يدخل في دائرة الدهشة والمغامرة ومنها إلى حدود الإجتهاد وإن كانت هذه الحدود بحاجة ماسة إلى التأني المدروس والمثمر بنتائجه..