من تجارب المسرح العراقي
( جماعة الناصرية للتمثيل )
بسبب هيمنة الأنظمة السياسية الشمولية في العراق طوال العقود الماضية ، فقد بات – وبشكل قسري – يتشكل المشهد المسرحي العراقي في حدود العاصمة فقط دون أن يتعدى ذلك إلى التجارب المسرحية في بقية المحافظات العراقية ، وقد ولّد هذا إحساساً لدى المسرحيين في تلك المحافظات بالإقصاء والتهميش والإلغاء ، فراحوا يؤسسون تجاربهم في إطار من المؤسسات غير الرسمية التي تعمل بداخل المؤسسات الرسمية دون أن تخضع لأيديولوجيا السلطة القائمة على إدارة المؤسسات المسرحية في العاصمة ، وبعيداً عن المؤسسة النقدية التي إنشغلت هي بدورها بالترويج لتجارب المسرح العراقي في العاصمة دون أن يتعدى ذلك إلى الإهتمام بالتجارب الأخرى في المحافظات، ولذلك فإن الكتابة عن تجربة (جماعة الناصرية للتمثيل) والمخرج (ياسر عبد الصاحب البراك) تأتي في إطار التعريف بالتجارب المُهمّشة في المسرح العراقي بسبب بُعدها عن أضواء العاصمة، ومشاكستها للمسرح الرسمي السائد في المؤسسة المسرحية المُسيطر عليها من قبل الحكومة، محاولين تحليل تلك التجربة إنطلاقاً من الممارسة العملية في مختبرات تلك التجربة التي إستطاعت خلال الأعوام الماضية أن تحقق لها حيزاً مقبولاً في مساحة المشهد المسرحي العراقي.
ينفرد المخرج ياسر البراك (1) عن بقية الأجيال المسرحية في مدينة الناصرية، كونه حاول أن يؤسس نمطا جديداً في المسرح، ويكسر طوق المحاكاة والإجترار للتجارب المسرحية الأخرى عبر إطروحته الموسومة بـ ( المسرح الإسقاطي )، وذلك بعد تأسيسه لجماعة الناصرية للتمثيل عام 1992 ، إذ (لم يكن وجود جماعة الناصرية للتمثيل وجوداً طارئاً أو لحظوياً ، بل على العكس كان مسبوقا بالكثير من المحاولات والأحلام التي تمخضت في نهاية الأمر عن قرار تكوين الجماعة عام 1992 ) (2) ويبدو أن هذه الأحلام كان يُراد منها تطبيق الفرضيات المسرحية التي كانت تراود البراك منذ أن كان طالباً في معهد الفنون الجميلة في الثمانينات من القرن الماضي، حتى دراسته الأكاديمية في مطلع التسعينيات من نفس القرن، بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة في بغداد، ولأجل أن نصل إلى هذه الحقيقة علينا قراءة تلك الفرضيات قراءة متأنية، إذ أن البراك يلجأ إلى إختبار فرضياته من خلال العروض المسرحية التي قدمها عن طريق الجماعة، ومن ثم يُثبّت تلك الفرضيات على الورق في دليل العرض أو عن طريق نشرها في الصحف والمجلات، فلم يطلق مصطلح (المسرح الإسقاطي) إلا عام 1994 في مسرحيته “الوباء الأبيض” التي مُنِعَت من العرض لأسباب سياسية !! من قبل النظام السابق، ولكن هذا لا يعني أن هذه الإطروحة لم يشتغل عليها في عروضه السابقة منذ عام 1992، بل على العكس فأننا نجد في أدلة العروض حضوراً لتلك الإطروحة بدءً من عرض مسرحية “قضية ظل الحمار” و “من البلية ؟ ” في المرحلة الأولى من حياة الجماعة، وما تبعها من أعمال مثل : “في أعالي البحر ، الواقعة ، كوميديا الأيام السبعة ، الرّخ ، عشك ، لعبة مظلوم الخياط ، الدرس ، ليلة جرح الأمير ، الماء .. يا قمر الشريعة ، الشاعر والمخترع والكولونيل” في المرحلة التالية، وبعد قراءتنا للفعالية الإسقاطية في تلك العروض سوف نتعرف على علاقة هذا النمط من المسرح بالتجارب والأنماط المسرحية الأخرى، وآلية عمل البراك في العملية المسرحية بوصفه مبتكرا لنمط مسرحي جديد، يحاول أن يقف قبالة التيارات المسرحية الأخرى (فالمسرح الإسقاطي إجتهاد قبل أن يكون تجديداً ، وهو تأويل جمالي للتظاهرات الإحتفالية الشعبية المفعمة بالرؤى المذهبية، وعلى ذلك فإن القطيعة التي مارسها هي قطيعة جمالية مع المنجز المسرحي السائد، وهو استثمار لطاقات الفن الشعبي بتقنيات المسرح الحديث) (3) وعلى هذا المفهوم يحق لنا التساؤل: إذا كان المسرح الإسقاطي إجتهادا كما وصفه البراك فمن أين أتى بمادته الأولية ليجتهد بها على إعتبار أن المادة موجودة وتحتاج من يحرك ساكنها ومن ثم يجتهد فيه، وأعتقد أن البراك قد أجاب على ذلك السؤال في مقالاته عن المسرح الإسقاطي إذ يقول: ” أن المسرح الإسقاطي شأنه شأن المسارح العالمية لايمكن أن ينفك عن الجانب الأيدلوجي في الشكل والمضمون” (4)، وهذا يقودنا إلى ما يؤمن به البراك أصلا إذ أنه يريد تأسيس نمطٍ مسرحي يكون نافذة حيّة وصادقة تخدم الآخرين ينطلق به من الخاص إلى العام، ولا يريد من خلاله إلغاء الآخر بل التحاور معه كما سنوضح ذلك تباعا، ويمكن لنا قراءة هذه الإطروحة المسرحية عبر المحددات التي سنتناولها في الآتي :
النص الإسقاطي :
(لغة مخاطبة مقترحة يعتمد عليها النص، ويفجرها نص العرض تفجيراً دقيقا، تحيل المتلقي إلى مرجعيات حية وأخرى مندثرة يحاول أن يحركها ومن ثم يُحييها بعد موت أو توقف) (5)، ويعني أن هذه اللغة تمتلك مقومات خاصة تجعل المتلقي يكون عنصرا مساهما بل أساسيا في عملية التواصل، وكذلك لها فعالياتها الخاصة كـ ( صدمة المتلقي بالمرجع / سخونة الحدث / القناع الجمالي / ديمومة الإتصال / آليات الفضاء / وحدات الزمان الذائبة .. تدرك إشتراكها التفصيلي في أغلب جزئيات العرض)(6)، ولهذه المستويات النصيّة صياغة خاصة يعمل على أساسها النص الإسقاطي في عملية التلقي لأنها (علامة من العلامات السمعية والبصرية، وهو لا يخضع لأي إشتراطات يمكن أن تحدد طبيعة الرؤى فيه، بل أن الميزة المهمة التي ينبغي توافرها فيه هي القدرة على إحتواء ( فعالية الإسقاط عند المتلقي وتوفير آليات إشتغال لها بحيث تكون هذه الآليات فاعلة)(7)، وهذا المعنى لا يختلف عن سابقه في كون النص الإسقاطي يجعل المتلقي هو الأساس في عملية التلقي ويبني على هذا المفهوم كل عناصر النص المتعارضة (من فكرة ولغة وشخصيات وحبكة) وغيرها، وقد تم التركيز على اللغة إذ (ترتقي في المسرح الإسقاطي من كونها لغة خطاب يومي مستهلك إلى لغة / شعرية / رمزية / تعتمد جرسا موسيقيا بصريا وسمعيا)(8) .
الممثل والمتلقي في المسرح الإسقاطي :
يبدو أن الفعالية الإسقاطية هنا تميزت من طبيعة المعادلة بين هذين الطرفين، فكما هو معهود أن الممثل هو القطب الرئيسي في العملية المسرحية وخصوصا في لحظة الإتصال ولكن (المتلقي في المسرح الإسقاطي هو البؤرة المركزية لقناة الإتصال، لأن الممثل يتجه أولا إليه، والتواصل بين الممثلين يكاد يكون شبه معدوما لأن المُخاطَب في المسرح الإسقاطي هو المتلقي بشكل أساسي لأننا نهدف أن يصبح المتلقي سيد العرض وقائده بينما الممثل في الدرجة الثانية وخاضعا لسلطته حتى تصل حالة التوحّد بين الإثنين) (9) ، وهذا ما شاهدناه في أكثر العروض التي ذكرناها سابقا في بداية الدراسة، كون الممثل علامة من علامات العرض المسرحي، حاله حال أية علامة في فضاء العرض ودوره هو عملية تحريض ووخز لذاكرة المتلقي من خلال بث مجموعة من الأفكار التي لها علاقة بالذاكرة الجمعية للمتلقي، حيث يكون المتلقي هو المحرك الرئيسي للعرض في عملية التلقي، يشعر بالألم والخوف والسعادة، وغيرها من المفاهيم ويكون الممثل مستلما ثانيا بعد المتلقي، ولا يمكن أن يحدث هذا التفاعل المزدوج الساخن مالم يتم هذا التوحد الذاتي- إذا جاز التعبير – كما أن الممثل في المسرح الإسقاطي لا يقوم بتقمص الشخصية كما عند ستانسلافسكي ولا بالإقلاع عنها أوعرضها على المتلقي كما عند بريخت، بل يقف في المنتصف وهو يأخذ شيئأ من هذا وشيئأ من ذاك عند الضرورة، إلا أنه يقوم بتطبيع العلاقة مع المتلقي حتى يكون الآخر حاضنة له ومُستقبله ، يعي ما يبثه من معانٍ في لغة الصوت والجسد .
قاعدة المسرح الإسقاطي :
يستلهم هذا النمط من المسرح معطياته من الفلسفة الإسلامية كما أكد البراك في مقالته الموسومة (المسرح الإسقاطي إطروحة الخطاب الجديد) وقد أسماها بـ (الواقعية الإلهية)، كما هو ديدن الإتجاهات المسرحية الأخرى كتيار المسرح الملحمي مثلا الذي يعتمد على المادية الديالكتيكية، وقد قام البراك بنحت عدّة مصطلحات لخلق جهاز مفاهيمي تنظيري يكون المؤونة التي تُسهم في ترسيخ وتثبيت فرضيات هذا الإتجاه من جهة، وخلق منظومة معرفية من جهة أخرى، كما أنها تعد غطاء وقائياً ينطلق البراك من خلاله عندما يوضع على المحك بسبب الرقابة الصارمة من قبل النظام السابق وهذا ما جعل هذه الفرضية مستمرة على قيد الحياة مع صاحبها حيث أكد على أن العمل في هذا الإطار هو تكتيك مرحلي ولديه أيضا بُعداً إستراتيجيا في بعض الموارد المتعلقة برسم الخط البياني لفرضية الإسقاط، الذي كما عبر عنه في( إطروحة الخطاب الجديد ) بأن هناك ( إسقاطاً تاريخياً ) و( إسقاطاً سياسياً ) والإسقاط الذي يعنيه هو( الإسقاط المعاصر) بقوله (إذا كانت فعالية الإسقاط في السائد مضمرة وضمنية فإنها هنا تصبح جوهرية ومعلنة، وإذا كان السائد يقتصر في أنماط الإسقاط على ( الإسقاط التاريخي / الإسقاط السياسي ) ، فإننا تجاوزنا هنا إلى الإسقاط المعاصر ) (10)
هدف المسرح الإسقاطي :
(إن كونية المسرح الإسقاطي لا تعني تعاليه على الواقع وإنفصاله عنه بقدر ما تعتبر منح المتلقي حرية الحركة في تشغيل مستقبلاته الجمالية لتوظيف فعالية الإسقاط بين الخطاب المسرحي والواقع ، بحيث تكون تلك الفعالية مثمرة من ناحية تكوين (الوعي الضدي) لدى المتلقي (11) ، إذن خلق (الوعي الضدي) لدى المتلقي وتثويره بالإتجاه الذي يخدم مصالحه وضمان حقه في الحياة الخالية من الإستبداد والضعف، هوأهم هدف يسعى لتحقيقه المسرح الإسقاطي.
والمسرح الإسقاطي بالتأكيد يتفق مع المسرح العالمي في الثوابت التي يهدف إليها المسرح في العالم، إلا أنه قد تكون له خصوصية خالصة فهو يهتم بالإنسان بوصفه قيمة عليا يحاول جاهداً أًن يرتقي به في سلم الكمال و يحافظ عليه حتى من آفة نفسه لئلا يقع في المهالك، يرسم له الدرب ضمن المُعطى الحياتي الجديد وضمن آليات عمل تستلهم القديم لتعيد تشكيله برؤى عصرية تناغم الوجود، وتتصف روحياً بواجب الوجود، حتى يحدث التوحيد بين الجواني المُتعثر الذي يسعى للإنتصاب حيث تعينه ( الفعالية الإسقاطية ) على ذلك، وبين البرّاني المُهيمن الذي أشرعة نجاته مفتوحة تنعم في خلواتها آليات الإسقاط عندما تفيض في فضاء العرض بعض معطياته التي تتجدد يوميا بل في كل لحظة .
الرؤية الإسقاطية لسينوغرافيا العرض :
يشتغل البراك في رؤيته الإسقاطية لعلامات العرض على أساس عمل كل علامة ومالها من (تعاقد) مع المتلقي، وهذه الشراكة بين ( المتلقي / علامات العرض ) هي المحور الأساسي الذي يصوغ البراك عليه فرضياته الإسقاطية ضمن منظومة الإتصال، وعودة سريعة لجميع الأعمال التي أخرجها نجد تمظهرات هذه الحقيقة واضحة، ففي دليل عرض مسرحية “الرّخ تأليف ( د. محمد صبري) وإخراج البراك والتي عرضت في عام 1998 في ملتقى نيسان المسرحي في البصرة مثلا : أكد البراك على دلالة اللون والرائحة وبقية المفردات الأخرى، فاللون الأخضر مثلا له مدلول خاص عند المتلقي المحلي، كما وأن الرائحة تُعطي أيضا مدلولاً خاصاً، وبعض مفردات العرض كمفردة (الكاروك) التي استخدمها في مسرحية “الواقعة”” للكاتب علي عبد النبي الزيدي والتي قدمت في بغداد، وإذا إستجمعنا كل المفردات التي إستخدمها البراك في جميع مسرحياته نجد لها معانٍ تحث على الشراكة مع المتلقي، لذلك نجد عملية التلقي ضمن آلية (الفعالية الإسقاطية) متقدمة جداً وتختلف عن غيرها من الإتجاهات المسرحية الأخرى، فالإضاءة والإكسسوارات والديكور والأزياء والماكياج، كلها محسوبة ضمن منطوق الإسقاط ومُعدّة بما يتلائم مع المطروح، والإسقاط الذي هو فعل مختبري يتوقف نجاحه في أثناء عملية التلقي على صالة العرض.
إن المسرح الإسقاطي يعمل في جميع روافد المسرح ولديه رؤية في كل رافد، فهو يعمل ضمن المسرح التجريبي وقد قدم أعمالا عالمية مهمة و جرّب الإتجاهات المسرحية الأخرى كتيار مسرح العبث عندما قدّم مسرحية ( الدرس ) ليوجين يونسكو، وكذلك تناول الإسقاط في المسرح الشعبي عندما قدم مسرحيات (عشك ، لعبة مظلوم الخياط)، وحاول أن يصل من خلال اللغة إلى فهم خاص للمسرح الشعبي وآليات التواصل مع شريحة واسعة من المشاهدين، كما أنه جرّب أيضا مسرح الأطفال عندما قدم ثلاث مسرحيات من ( مسرح الدمى )، وهو بذلك يعد رائداً في مدينة الناصرية ضمن هذا الإتجاه، كما أنه قدم( مسرح التعزية ) برؤى حديثة من خلال مسرحيتين، الأولى ( ليلة جرح الأمير ) تأليف عمار نعمة جابر، والثانية ( الماء .. يا قمر الشريعة ) تأليف حازم رشك، وهذا التنويع والتلوين الذي يخوض مخاضه المسرح الإسقاطي دلالة على أن الفعالية الإسقاطية فعالية كونية تتعدى المحليات وتغور في الماورائيات وتبحث من خلال هذا عن التلاقح مع الآخر على أساس المشترك الإنساني بين كل الإتجاهات والأطياف الموجودة .
يبقى لنا أن نتحدث عن كيفية تعامل المخرج ياسر البراك في صياغة العرض المسرحي (12) فهو يقوم في بداية الأمر بعد إختيار النص بالجلوس على المائدة وقراءة النص، بعدها يوزع الأدوار على الممثلين بشكل مبدأي (أولي) ثم تتكرر القراءة من تعريفية إلى تحليلية إلى أدائية إلى التركيز على النطق واللفظ والنحو ومن ثم الإحساس، وبعدها يعطي المجال للممثل لخلق (كاركتر) الشخصية ثم يشرح له جميع أبعادها، وتكون هذه العملية مفتوحة إلى النهاية إذ يتابع الممثل أولاً بأول، وبعد مرحلة الجلوس على المائدة يقوم بترك الممثل يتحرك بحرية وهو يلقي الحوار ويعطيه المجال في التمثيل، وبعدها يرسم المشهد الإستهلالي، ثم يبني المشاهد واحداً تلوالآخر كهيكل للعمل والغرض من ذلك تسهيل مهمة حفظ الممثل للنص وللحركة الأولية، ثم يبدأ بعد الإنتهاء من ذلك بالحركة التفصيلية ويهتم فيها بدقائق الأمور، في أداء الممثل، في إتقان الحركة، في علاقة الممثل مع المفردات، في الفهم العام وترابط الوحدات العضوية في سياق العرض، في التأكيد على أن فرضياته الجديدة قد تم إدخالها في مختبر هذا العمل ليعرف كم هي نسبة النجاح حتى يتم تثبيتها بعد الإنتهاء من العمل كليا إذ يهتم بالموسيقى والأزياء وباقي المفردات ليأخذ(جنرال بروفة) أو التمرين النهائي بكافة المستلزمات، والبراك يجعل لحظة التمرين هي (القدحة) كما يسميها هو التي تحرك مخيلة المخرج في إبتكار صورة المشهد وقراءته قراءة متبصرة ضمن التفسير الصحيح الذي يصب في بوتقة فرضياته التي يسعى من خلالها إلى إصدار بيان مستقبلي لها وهو في طريقه إلى ذلك.
ومما تقدم نستطيع أن نستنتج الآتي:
أولاً : لم يكن ثمة منهج إخراجي أو فرضية في الإخراج محددة تخترق السائد والمألوف منذ البواكير الأولى للمسرح في مدينة الناصرية حتى عام 1992 بظهور تجربة المخرج ياسر البراك عبر إطروحته الموسومة (المسرح الإسقاطي)، حيث تبنتها جماعة الناصرية للتمثيل في جميع عروضها، وحققت من خلالها حضوراً متميزاً في المشهد المسرحي العراقي من جهة، وحرّكت الوسط المسرحي في المدينة من جهة أخرى كونها حاولت أن تحاور الآخر، وأن تثير وتُحفّز المخرجين الذين إعتادوا النمطي والمُستهلك من الخطابات المسرحية الجامدة، مما أدى إلى ظهور بعض التجمعات المسرحية الجديدة وإن كانت تلك التجمعات قد حاولت أن تُغيّر وتحاكي ما تعلمته في مختبر جماعة الناصرية للتمثيل برغم أن البعض منهم حاول أن يجد وعاء خاصا إلا أنه وقع في المحاكاة والإجترار.
ثانياً : أدى إشتغال (المسرح الإسقاطي) على المفاهيم الحديثة في المسرح كالمفهوم (السيميائي)، إلى تفعيل العروض المسرحية على أساس ذلك، وخلق حياة مسرحية أكثر نضوجا من السابق، من قبل المسرحيين الآخرين، وإن كانت تقودهم أحاسيس شخصية مثل الغيرة ، وحب الظهور وغيرها من الأسباب النفسية إلا أن المحصلة النهائية كانت أن الجماعة إستطاعت من خلال تبينها لهذه الإطروحة أن تبث روح الحياة المسرحية في هذا الجسد الساكن طيلة تلك العقود .
ثالثاً : لم تكن قنوات الإتصال في منظومة العرض في مدينة الناصرية قبل تجربة المخرج (ياسر البراك) لها أي حضور معرفي وجمالي، بل كانت مجرد مكملات طبيعية، ولم يكن وجودها في فضاء العرض مبني على أساس نظام شفروي يحاكي المتلقي ويحاول أن يحاوره في كل لحظة، من خلال اللون أوالرائحة أو المفردة وتحولات ذلك لمعان يستلمها المتلقي بسبب الشراكة التي أوجدتها تجربة البراك بين منظومة العرض بكل أبعادها وبين المتلقي.
الإحــــــالات:
(1): مخرج وناقد مسرحي ، مؤسس و مدير جماعة الناصرية للتمثيل .
(2): نعمة جابر عمار، جماعة الناصرية للتمثيل ( تاريخ ومنجز ) عام 1992 – 2002 صدر بمناسبة مرور 10 أعوام على تأسيس الجماعة ، ص 5
(3): حوار مع البراك، أجراه الناقد أحمد ثامر جهاد – غير منشور .
(4): المصدر السابق، حوار مع البراك أجراه : أحمد ثامر جهاد .
(5): عبد النبي ، علي ، النص الإسقاطي ( مرجعيات الخطاب وآنية الإسقاط ) مجلة المشهد ، تصدر عن جماعة الناصرية للتمثيل ، / العدد الأول – ص 11
(6): عبد النبي، علي، المصدر السابق / ص 12
(7): حوار مع البراك ، أجراه : أحمد ثامر جهاد / مصدر سابق .
(8): البراك ، – ياسر عبد الصاحب – السمعي والمرئي في المسرح الإسقاطي / مجلة المشهد ، العدد الرابع / ص 9
(9): حوار مع البراك ، أجراه : أحمد ثامر جهاد – المصدر السابق
(10): البراك ، ياسر عبد الصاحب ، المسرح الإسقاطي إطروحة الخطاب الجديد / مجلة المشهد / العدد 2 – ص 12
(11): البراك / المصدر السابق .
(12): عمل الباحث في هذه التجربة منذ عام 1998 بصفته ممثلاً ، فهو مصدر أولي لها .
- حيدر جبر الأسدي