يقول المخرج الروسي إندريه تاركوفسكي : ( النوستالوجيا لا تعني مجرد الإحساس بالذكريات إنها مرض وألم معنوي يعذّب الروح يماثل فقدان الإيمان والأمل فأولئك الذين لا يستطيعون قهر هذا الإحساس سيموتون حتمًا في قارورة الذكريات )
ويمكن أنْ نتأملَ في هذا القول ونحن نتصفحُ تفاصيلَ ومجرياتِ ما جاءت به مسرحية “مقبرة السين… مات” من تأليف وإخراج الفنان (حيدر مكي) ومن تقديم معهد الفنون الجميلة في محافظة ذي قار بالتعاون مع نقابة الفنانين على مسرح النشاط المدرسي في مدينة الناصرية جنوب العراق بتاريخ 31-3-2022 وليوم واحد.
فهذا العرض يستميل الذاكرة الجمعية في العودة واسترجاع أثر المكان وحظوة حضوره سابقا كقيمة تهب الذاكرة المكانية بعضا مما كانت تزخر به من بهاء جعل من وجوده عيانيا يتوازى مع أرواح من يسكنون تلك الأمكنة حيث أرواح تنتشي بما يُثمره ذلك البهاء من عطاء سواء أكان على مستوى العطاء المادي ام على ما يوازيه من العطاء الروحي.
ويبدو أنَّ هذه المسرحية والغاية من تقديمها جاء من أجل الوقوف والتحريض المقابل بوجه الإهمال المفرط بمعالم ومواضع الجمال وروح المكان وتوجيه الانظار لأهمية الحفاظ على الهُويّة الثقافية للمكان لكونه يشكل ميراث ذاكرةٍ وطنية وإنسانية وثقافية وفنية.
فاستحضار سينما الأندلس في مدينة الناصرية كمكان ذي تأثير ثقافي وفني يُعدُ صرخة إستغاثة وتنويه وتحذير لما يحصل من تفريط وإهمال متعمد بحق الأمكنة التي كانت تشكل المعين الراجح في تأصيل الذائقة والإحساس الكبير بمعنويات الناس وهم يتفاعلون مع ما كانت تبثه وتأتي به بعض الأمكنة الثقافية والفنية في مدنهم ومن بداهة التصور الحصيف بمجريات ما يحصل على أجساد هذه الامكنة فيمكن القول أنَّ ثمة تعدياً صار يحصلُ وبوضوح النهار على ما تحتويه بعض المدن من تواريخَ وأماكنَ وبناياتٍ كانت وماتزال تشكل الشاخصَ الحي بين جنباتِ الذاكرةِ الجمعية لِمَنْ يسكنون فيها فما حصل لهذه المدن هو ما يمكن تسميته بتسطيحِ الذاكرة والعمل على تذويب تلك العلاقة الحميمة ما بين المكان وما بين الناس الذين يسكنون بحضنه…
فبتنا نشاهد ثمة توغلاً قسرياً يعمل على تشتيت الذاكرة ومحاولة سحقها لصالح قيم وتصورات تحدرت من أحبول الآيدلوجيا المتعالية دينيا وقبليا وعشائريا، ماسخة لمقدراتِ الإنسان وتعمل على تذويب الجغرافيا الوطنية لصالح جغرافيات فئوية وطائفية ليس لها في مهاد هذا الوطن من صلة تذكر سوى جغرافيا المغانم والمصالح الكالحة التي فتكت بالبناء الروحي والمادي لإنسان هذه المدن فما عاد بوسع الناس وكما حصل مع ما طرحته هذه المسرحية سوى أن يتماهوا مع ذاكرةٍ غَرُبَتْ اوصلُها فباتت تلسعُ بحضورها على اذهانِهم ومسامعِهم ومشاعرِهم وهم يرون معالم وجدران سينما الأندلس وقد فتكتْ بها شراهةُ الحيف والإهمال والحقد والتخلف المقيت فصار مكانا خربا لايصلح إلا كمكان لمبيت السيارات. فحرف السين يؤشر لموت السينما وربما لموت مستقبل المكان ليغدو كقبر كما وجدنا في المشهد الأخير حين يدخل الرجل صاحب القبعة وهو المخرج نفسه ليضع ورقة على جثة (سين) وكانها شهادة وفاته وبعد أن أخبرنا صوت المذيع أن بطل المسرحية (السين) يحمل شهادة الماجستير في فنون السمعية والمرئية وما كان له سوى التجول كحارس في كراج مبيت السيارات وهي مهنته التي يكسب من ورائها مصدر عيشه..
فالمؤلف والمخرج (حيدر مكي) قدم لنا سيرة مكان مستعينا ببنية الحلم كوسيلة تقديم تعتبر الذاكرة اهم المرتكزات الأساسية في إشتغاله الفني الذي إعتمد على السرد الحواري الملفوظ من أفواه الممثلين وهم يسترجعون أحداثا ماضية لشخصيات شكلت بوجودها بعضا مما كانت تحتويه سينما الأندلس كمكان حاضن لصفاتهم وسلوكياتهم ومهنهم فهذا (حمودي أبو الجراقيات يگعد هنا، وهناك عليوي أبو اللبلبي، وعلى باب السينما جان يگعد سبتي أبد ما يضحك.. دومه مغندب.. ويا ويله الماعنده بطاقة دخول، وهنا جان أموري السكران ماكو فيلم هندي ما مر عليه، سينما البطحاء، وگهوة أبو سامي الجاي المهيل، بيها ابو سعدون المصور الشمسي، وإبو ناجي إبو الدوندرما..)
وفي هذه المسرحية شاهدنا سيناريو يتجسد على الخشبة كما هو مرسوم على ورق المؤلف ومن دون ما هو مضاف كيما يحسب إلى رصيد مخيلة الإخراج التي يجب أن يكون لها أثرٌ واضح بعيدا عما جاءت به أسطر التأليف فتبدو مهمة (المؤلف/ المخرج) تحمل من المحاذير التي يجب التوخي والوقوف حيالها بتأنٍ وتركيز إذاما اريد التباين الفني والإشتغال المطلوب بشكله الذي يحقق ثراءً وإضافة مميزةً عند الركون إلى ما تأتي به مخرجات جهد الفعل الإخراجي والتجسيد المضاف لما جاءت به مضامين التأليف.
فهذا العرض تدفق إلينا عبر مشاهد فلمية من خلال تقنية الداتا شو عرضت لنا أماكن وزوايا من سينما الأندلس فضلا عن أماكن أخرى تعتبر شواخص مهمة بوجودها في ذاكرة الناس في مدينة الناصرية كجسر النصر وغيره من الأماكن الأخرى.
وحين دخولنا مع ما جاء به متن العرض المسرحي وما فيه من ذكريات وحنين يقترب من المرارة سيتضح لنا عدم الحاجة لتلك المشاهد الفلمية فقد جاءت مهمة التعزيز التي لجأ إليها المخرج لتزيد من لحظات الترهل بل ومن التثاقل في عملية التواصل مع الجمهور ذلك أنَّ ما أفصح عنه الممثلون وهم يسردون همومهم وحنينهم بل وحسراتهم و زفرات أرواحهم وإمتعاضهم مما حصل لحياتهم وحياة المكان الذي برز مهيمناً تنوشه معاول الخراب والإهمال لهو يعوض عن تلك المشاهد الفلمية وسيعطي لرسالة العرض لأن تكون أكثر وضوحاً ونصاعةً لاذهان ومسامع من حضر لمشاهدة العرض.
وقد تمثل عمل المخرج وكما هو في نص التأليف في إظهار شكل المكان وإعطائه الاولوية البارزة بجدران سينما الأندلس وتلك الشقوق والحفر وهي تظهر عليها لتقول لنا عما وصلت إليه معاول الخراب والإهمال المتعمد.
وأيضا عمل على ملء مساحة المسرح فخلفية المسرح جعلها لمجموعة من الممثلين وهم يعطون ظهورهم إلى الجمهور وكأنهم في مشاهدة دائمية لتلك الأفلام السينمائية التي كانت تعرضها تلك السينما في حين صارت مقدمة المسرح وجانباه مكانا لحركة الممثلين الثلاثة (سين، الزوجة، السكران) وقد إمتد فعل الحركة والتمثيل لينزل إلى أمام وما بين الجمهور في مسعى من المخرج لتعزيز عملية التذكير في اذهان ومسامع الحاضرين ليكونوا في تواصل آني والمشاركة الوجدانية والذهنية مع ما يحصل من خراب ومن إهمال لواحد من الأمكنة التي كانت فاعلة في رفد الذائقة الفنية والجمالية والمعرفية في مدينتهم.
وفي كل هذا الجهد كان المخرج يستعين بلغة نزلت إلى العامية الدارجة وطرحها بإسلوب ضاحك تتخلله السخرية والإستهزاء في بعض من مفاصله وبالذات على لسان السكران يكاد يوازي حالة الحزن والبكائية الذي إتسمت به حوارات (سين) واللامبالات التي ظهرت في حوارات (الزوجة/الحلم) وربما إيجاد فواصل من السخرية جاء كنتيجة لما عليه معطى الواقع من وضع مزر لتحضر تلك السخرية بوصفها تنشيطاً للذاكرة.
كما يذهب إلى ذلك (هنري بيرغسون) في كتابه (الضحك) وعند وصولنا إلى عتبة التمثيل فلانرى المبرر الذي يستوجب من المخرج لأن يبقى أداء الممثل (سلام جيجان) في دور (سين) على هذه الوتيرة من الإلقاء الثابت وغير المتلون وبهذه البكائية التي توازي حجم حضوره الجسدي والحركي بوصفه بطل هذا العرض.
في حين الممثل (علي عبدالحسين) بدور (السكران) فكان في بعض من مفاصل الاداء التمثيلي أكثر تأثيرا لدى الجمهور وهو يحاول الفصل ما بين حالات السكر وحالات الصحو والدخول مع نظيره (سين) حين يجتمعان في التذكر والتذمر والحزن معا تقابلهم.
الممثلة (صفاء الوادي) بدور مزدوج ما بين (الزوجة/الحبيبة/الحلم) فكان على المخرج أن يعطي لها الإهتمام في إبراز ما لديها من طاقة ادائية ولا يجعلها وهي تؤدي بعض المشاهد وكأنها في عجلة من أمرها وهي تلفظ حواراتها ورغم هذا فهي تعد في حضورها إضافةً نوعية قياسا لشحة الحضور النسوي في مسرح المدينة،
أما الممثل (كرار الركابي) بدور (الجوكر) فلم يكن له من الحضور المؤثر سوى صوته العالي وفي المقابل نجد مجموعة الإمساخ كما سماهم دليل العرض (جعفر صادق، سيف الدين، سجاد أكرم، سجاد حسين، حسين كريم، مصطفى عبدالرحمن، علي عبدالزهره) قد غابت عن حضورهم جهود المخرج في إيجاد المساحة الفاعلة ضمن مجريات متن العرض..
وقبل الختام لابد من التنويه أنَّ معهد الفنون الجميلة مؤسسة تربوية واكاديمية تهتم بدراسة وتقديم المسرح وفق الصيغ الأكاديمية من خلال التركيز على النصوص المسرحية ذات البناء المسرحي العالي في اللغة الفصحى وذات المضامين التربوية والتركيز على النصوص العالمية وعدم الإهتمام على النصوص التي تعتمد على اللغة العامية الدارجة التي لا نجد لها حضورا داخل أسوار المؤسسة الاكاديمية وبهذه الألفاظ التي لاتتلاءم مع السياق التربوي فمن غير المعقول ان اول حوار في هذه المسرحية يبدأ به (سين) ليقول لحارس البناية (خر بعرضك هي وگتها) وفي حوارات (السكران) نسمع مفردات السكر والعربية والمزة وكذلك في حوار (الزوجة والحبيبة) حين ترد على زوجها وحبيبها بألفاظ خشنة ولا تدل على إحترام روحية التعامل الصحيح فتقول له (بس گلي شهادة الماجستير مالتك شصخم بيها، اصحه يا حظي المصخم، خايب إصحا) فما نراه في توجه هذا المعهد في محافظة ذي قار يعد سابقة لم نشاهد او نسمع بها قد حدثت في مؤسسات أكاديمية مثل كلية الفنون الجميلة او معهد الفنون..