يُصنف الذهان في ابسط اشكاله على انه حالة مرضية عقلية تتجسد لدى المصاب على هيئة اشكال وصور واصوات تترائ له دون غيره، اذ تتضخم الاشياء البسيطة داخل المصاب ويشعر بالخطر على الدوام ، وكل الاشياء المحيطة به هي مصدر للقلق، وقد تمظهر ذلك في العرض المسرحي الذي قُدم على خشبة قسم الفنون المسرحية في كلية الفنون الجميلة- جامعة بعداد، جاء العرض المعنون (ذهان 4:48) للكاتبة الانكليزية سارة كين ، اخراج مهند علي ، وتمثيل مجموعة من طلبة قسم الفنون المسرحية ،
يصنف نص العرض على انه مساحة من العقل لا يرغب اي منا زيارته، فالكمَد والقلق والاضطراب هو السمة الابر فيه، يبدأ العرض بدخول فتاة تسرد ملخصاً مختصراً لما تمر به وتعاني منه، وكأن هذه الشخصية هي لسان حال المؤلفة الكاتبة، الذي حرص المخرج على حضورها في العرض ، فيما يمتاز النص الاصلي للعرض على انه حوار لشخصية واحده غالباً ما تشير الى شخصية المؤلفة ذاتها، وحسب المتابع لسيرة المؤلفة يجد ان جملة ما طرحته في نصوصها هي في غالب الاحيان تمثل ارهاصاتها التي تعاني منها، فموضوع الجنس، العنف، الخراب، الفوضى هي سمات بارزة في نتاجاتها الا ان هذا النص (ذهان 4:48) هو مختص بفوضى العقل وما يعانيه من تشظيات، اجتهد المخرج على تحويل هذا النص المتمثل على شكل حوار لشخصية واحدة، وشطره الى شخصيات ثلاث امتارت به الشخصيات الرئيسة في العرض وهو ما يحسب لصانعه، كما عمل على تحويل الحوارات من الشخصية النسائية التي جاء بها النص الاصلي الى شخصيات ذكورية ثلاث، تشترك بالمعاناة ذاتها ، ورغم اجتهاد صانع العرض الملحوظ الا ان هذه الشخصيات لم تكن على درجة عالية من البناء الدرامي، اذ يمكن ملاحظة الحوار وجريانه على وتيرة واحدة، وكأن حوار الشخصيات الثلاثة هو حوار مكمل للآخر دون تداخل او اصطدام الا في أحآيين قليلة من زمن العرض، ويمكن إيعاز ذلك لسببين :
الاول : ان هذا النوع من الامراض يمكن ان يصيب الاشخاص بنفس الدرجة فيكون التسلسل التراتبي للحوار بطريقة افقية.
الثاني : يمكن ان يُعزى الى ان الرؤية الاخراجية ارادت ان تؤكد فعل الوسواس القهري والصور الوهمية التي يمكن ان تصيب الشخص المصاب ما تجعله يمزج بين فعل الواقع المعاش، والاشكال الوهية التي تطارده وتتحدث معه ويعاني منها ، ما عمل على نسخ الشخصية الى ثلاث تطارد احداهما الاخر .
الا ان هذا الايعاز لم يشفع بالشكل الكاف من بناء و تكوين انساق متباينة بين الشخصيات الثلاثة .
امتازت الصورة البصرية للعرض بالتعددية عبر تأثيث فضاءه بأجساد المجاميع التي جاءت معززة لفعل الشخصيات الثلاثة، مؤكدة للفوضى داخل عقول ابطال العمل. اذ تطرح الصور البصرية في الدقائق الاولى للعرض مشاهد صورية قصيرة تسرد جملة من مشاهد القتل الدموية والتعذيب والارهاب المقزز الذي يفعله الانسان بالإنسان، بوصفها عاكسة للقيم الوحشية السائدة التي تمظهرت في القرن الحادي والعشرين على اشكال مختلفة كالحروب والازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الماسخة للفطرة السليمة، و التي دفعت الى تقليل الافعال الإنسانية النبيلة وزيادة وحشيتها، اذ عمد المخرج على تفعيل هذا النمط من الافعال الاجرامية الصادمة بوصفها طريقة للتأثير على المُتلقي ومجابهته للافعال القاسية المستفزة عبر اذلال الانسان واهانته وتعنيفه لغوياً وجسدياً من اجل اعادة تحليل ما حدث في العرض بعقلانية وذكاء، وهذا ما يندرج تحت انساق (مسرح الصدمة) (In You Face Theatre) الذي صاغه الناقد البريطاني أليكس سيزر، الذي يرى ان الطريقة المثلى للامساك بالمتلقي وجره صوب العرض عبر عرض الاشياء امامه / بوجهه بشكل واضح وصادم وقاسي حتى يلزمه فهم العرض ومحتواه ، ما دفع مخرج العرض الى تفعيل مفاهيم هذا النمط في مجمل مشاهده، وقد تمظهر ذلك بشكل فاعل عبر جوقة الممثلين وتفعيل الممثل قصير القامة الذي جاء مضاداً للمجاميع، يطاردهم بوصفهم ابراج متشظية لعقل المصاب فيأخذهم يميناً وشمال بطريقة فنية عززت الصورة البصرية لفضاء العرض .
كما بان جلياً في مشهد القتل الذي تحقق في حوض الماء، ورغم ما لفعل القتل من وقع محزن في النفس الا ان ظهور الشخصية قصيرة القامة ساخرة من جسد الميت، هو انتهاك صريح لحرمة المقتول والتنكيل به وهذا هو الجوهر الذي يرتكز عليه مسرح الصدمة لتعرية الافعال الوحشية واظهار بشاعتها بكل مباشرة و وضوح .
واذا ما أُريد توصيف هذا العرض فهو عرض جامع لجملة من الاتجاهات والانماط المسرحية كمسرح القسوة لآرتو، وشيئ من العبث واللامعقول عبر تشظي المَشاهد وغياب اسماء الشخصيات وملامحهم ، فضلاً عن غياب بيئة العرض .
ان استمرار احداث المسرحية بأفعالها الدموية الصادمة وتكرار عديد المَشاهد فيها دفع بتذويب ايقاع العرض قليلاً ، الا ان ذلك لم يحط من قيمة الصورة البصرية المقدمة على خشبة المسرح .
ينتهي العرض بظهور الشخصية النسائية مرة اخرى محملة بكم هائل من الحوارات الصارخة السوداوية الرافضة لكل الثوابت الناقمة من الفعل الانساني المتوحش، وبذلك برر المخرج فعل تحويل الشخصية النسائية في النص الى ثلاث اشخاص ذكور في العرض ما جعل فعل الصدمة بين النص والعرض فاعلاً عبر طروحات المؤلفة ورؤى المخرج .
أما على صعيد الاداء اجتهد الممثلون في خلق انساق ادائية مختلفة، اذ ان قيادة ما يقرب الاربعة عشر ممثلاً من الشباب ظهروا بلوحات فيها من الجمال ما يكفي ليؤكد التزامهم العال وانضباطهم الواضح، وانتمائهم للادوار المناطة بهم، وهذا بطبيعته عضد فعل خطاب العرض، اما على الصعيد التقني للعرض : امتاز التصميم والتنفيذ للموسيقى برص صف ايقاع العرض وتعزيز اداءات الممثلين ، و على صعيد الاضاءة احسب انها حجبت عديد من جماليات الصورة البصرية والاداء للممثلين وللمجاميع .
ختاماً : ان عرض ذهان بارقة امل لولادة جيل مسرحي يمكن ان يكون امتداد حقيقي للمسرح العراقي الذي نعتز به ونفتخر