قراءة في الخصائص المميزة لـ(مسرح اللاتوقع الحركي القصير)
من خلال المتابعة المتواصلة لفريق عمل (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) وحضور العديد من تدريبات الفريق ومشاهدة عروضه؛ اتضحت للباحث بعض من الخصائص التي يتفرد بها هذا المسرح عن غيره من المسارح؛ يذكر البحث منها الأكثر أهمية وهيمنة؛ وعلى الوجه الآتي:
- إن (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) هو مسرح إيحائي؛ يضمر أكثر مما يعلن؛ ويومئ أكثر مما يوضح، ويوحي أكثر مما يشخص، يعتمد حواره على اللغة التلغرافية؛ والإضاءات الخاطفة؛ مما يقر بلغة هذا المسرح من لغة الدراما التعبيرية التي يمكنها أن تستوعب الهذيانات الطويلة والعبارات المبتورة والكلمات المقطعة على حد سواء.
- إن (ماهر الكتيباني) يكتب نصوص مسرحياته ويخرجها بنفسه؛ وهو يكتب نصاً للعرض ربما لا يفهمه من يطلع عليه؛ ولكنه يقدم عروضاً يفهمها جمهور المتلقين من خلال إعادة كتابتها وتأليفها كل على طريقته؛ فهي عروض مفتوحة تمنح المتلقين فضاءات واسعة من القراءة والتأويل.
- إن محاولة تجنيس هذا المسرح أو ضبطه ضمن حدود المذاهب والأساليب والتيارات الدرامية المعروفة؛ تبدو عملية عصية على الباحث أو الناقد؛ ذلك لأن نصوص هذا المسرح تأخذ من الانطباعية لحظتها الهاربة، ومن التعبيرية لغتها التلغرافية، ومن الرمزية إيحاءاتها وتلميحاتها الخفية، ومن السريالية فنطازيتها الحالمة، ومن العبثية لعبها غير المجدي، ومن اللامعقول غرابة مواقفه ولحظاته؛ أما عروض هذا المسرح فأنها تأخذ من اكتشافات (كوردون كريج) دماهُ المارونيت، ومن اجتهادات (فيسفولد مايرهولد) انعكاساته الشرطية، ومن (ستانسلافسكي) حركته المنضبطة ومن السينوغرافيا فضاءها الشامل؛ ونافلة القول : أن هذا المسرح جاء مزيجا متجانسا من مصادر ومرجعيات غير متجانسة؛ فهو يجمع بين متضادات متعارضة ويقدمها في مجاورة بعضها؛ وهذا ما يفسر صعوبة الاشتغال في هذا المسرح، وتهرب الممثلين ذوي الثوابت التقليدية من العمل فيه.
- عروض هذا المسرح لا تقول – في الظاهر – شيئاً محدداً؛ لكنها – في الوقت نفسه – تقول كل شيء؛ فهي عروض تعتمد أقصى مستويات التكثيف والاختزال؛ وتعتمد الإيقاع المحسوب بدقة متناهية، عروض تطرحا لأسئلة ولا تجيب عليها،عروض لا تكتفي بطرح الإشكاليات العديدة؛ بلهي الإشكاليات بعينها؛ فهي عروض تحايث الطلاسم، وتقترب من الألغاز المحيرة، وتثير الأسئلة ذات المستويات المتعددة؛ لذا أحسب أن تسمية (المسرح الإشكالي، أو مسرح الإشكالية) هو المقترح الأنسب لتوصيف عروض هذا المسرح.
- تعد علامات وصور الريبة، الشك، الحذر، الغموض، الغرابة، الكآبة، اللاحتمال؛ اللاتوقع من المهيمنات التي تسود في نصوص وعروض هذا المسرح؛ وهي علامات وصور تحيل الى الواقعة الحاضر وتشير إليه بسخرية مرة؛ ما يجعل هذا المسرح وعلى وفق هذا الفهم يغد ومسرحا يحاكي راهنية الواقع ويستمد حيويته منها،وهو على وفق هذا الفهم أيضا؛ يمكن أن يعد مسرحا واقعيا يتماهى مع واقعية الراهن الملتبس الذي نعيشه.
- مهما تعدد تشخصيات هذا المسرح التي بدأت باثنتين في مسرحية (هسهسات)،وانتهت بخمسة في مسرحية (هلوسات)؛ فأن ذلك لا يعني وجود شخصيات متعددة أو مختلفة؛ بل أنها جميعا؛ ومهما بلغ عددها تعد؛ شخصية واحدة تشظت الى عدة شخصيات، وهي شخصيات مشفرة تحيل الى تشظي الشخصية العراقية حاليا، التي تشظت بين الهموم اليومية المتراكمة ومطالبها البسيطة التي تحولت الى أحلام بعيدة المنال؛ وبين أحاديث عن التاريخ المجيد والحاضر الديمقراطي – المفخخ، والمستقبل المشوش الذي لا يعرف أحد ما هو شكله.
- إنك لمسرحيات هذا المسرح تدور في اللامكان واللازمان؛ فهي مسرحيات ذهنية تحاور الذهن وتستفز الذاكرة بحثا عن أزمان لا تسود فيها الكوابيس التي تخضع لقسوتها الشخصيات، وعن أماكن تجد فيها (رفرفة أجنحة الطيور) و(تغريد البلابل)(1)؛ أزمنة تتنفس فيها (البلابل والطيور) دون أن تسجن بأقفاص تقيد حريتها؛ وتحد من حركتها؛ وهي أمنيات على بساطتها؛ تبدو مستحيلة التحقق سواء على صعيد هذه الدراما أو على صعيد هذا الواقع.
وهناك خصائص جمالية وفكرية أخرى تبدو ملامحهما تظهر رويدا رويدا وهي بحاجة الى مزيد من الاشتغال والاختبار حتى تنضم للخصائص المميزة لهذا المسرح.
قراءة في مستقبل مشروع (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)
في قراءة سابقة لعروض هذا المسرح علل الباحث غرابة هذا المسرح وتفرد هو ابتعاده عما ألفناه من عروض مسرحية؛ عندما وجد أن غرابة هذا المسرح تحايث غرابة ولا منطقية الواقع الذين عيشه، بل وجد أن هذا المسرحي تماهى مع هذا الواقع بوعي و مسؤولية،ومع أن بداية (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) كانت بداية خجولة؛ غير أنه استطاع خلال السنوات المنصرمة أن يؤسس خصوصية له؛ وأن يرسخ وجوده بهدوء وبدون ضجيج، وأن يطور أدواته، وأن لا يكرر مضانه وشفراته؛ بل حاول أن يدخل مدخل المغايرة في كل شيء، وحاول أحداث الدهشة؛ بل الصدمة أحيانا للمتلقي الذي لم يعد يطيق هذا الواقع المتشظي ويحتاج الى (لملمة نفسه) – ان صح التعبير – إزاء التشتت الذي يعيشه ويغرق فيه يوميا؛ لذا جاء هذا المشروع ليكون بمثابة مشروع إيقاظي يعتمد وسائل الإيماء والإيحاء والتنبيه والتحريض التي تدعو الى مغادرة هذا الواقع غير المجدي؛ فهو مسرح يعرض علينا – بأسلوب جمالي هادئ ومنظم ومنضبط – كل حالات الفوضى والصخب والعنف والإرهاب والتشظي على شكل صور أنيقة بفضاءات واسعة، وبمهارات حركية تشد الانتباه؛ وبأصوات حيادية لا تشنج فيها ولا صراخ ؛ محاولا ايصال رسائله الصاخبة والضاجة بالصرخات على شكل احتجاجات هادئة بإيقاعات متسارعة لا تبعث الملل؛ بل تستفز العقل بدون انفعا لا تنفسية صاخبة؛ ومسرح بمثل هذه المواصفات وبما يحمله من محمولات ومضان ورسائل؛ فأنه مسرح يمتلك أسباب ديمومته واستمراره؛ بفعل إمكانات تجدده وتطوره؛ فهو مسرح مفتوح لا يغلق نفسه بمفاهيم مقيدة؛ أنه مسرحي بث تساؤلات وجودية وكونية لا حدود لها؛ سيستمر بثها باستمرارية الحياة نفسها؛ وهذا ما يؤهله لحجز مكان مميز له في ما يسمى (مسرح ما بعد الحداثة).