تنويه مهم:
في البدء لابد من أتقدم بالاعتذار الى القراء الكرام والى إدارة مجلة (الفرجة للفنون العربية) لسقوط الفقرة الأخيرة من الجزء الثالث الذي تم نشره بتاريخ 30/4/2022 والذي كان بعنوان (قراءة في عنوانات نصوص وعروض مسرح اللاتوقع الحركي القصير) والتي سأبدأ بها الجزء الرابع الموسوم بعنوان (مسرح الصدمة أو الومضة … إشكالية في زمن معاصر):
أما بالنسبة لعنواني (هيت لك) و(خدم لك) ؛ فإن سماع العبارة الأولى يحيل مباشرة الى عبارة شهيرة وردت في القرآن الكريم بقصة (النبي يوسف) (ع) عندما حاولت امرأة العزيز مراودته على نفسه؛ حين قالت له :((هيت لك)) فأجابها : ((معاذ الله)) ؛ وعلى وفق ما تقدم فأن العبارة – بحسب الدلالات أعلاه – تحمل معنى محاولة إخضاع شخص لإرادة آخر، أما عبارة (خدم لك) فهي عبارة مستعارة من اللغة التركية وتعني (مكان الخدم) أو (مسكن الخدم) ؛ والخادم في حقيقته هو شخص خاضع لإرادة الغير؛ ومكانه أو مسكنه هو الآخر خاضع لمن يخدم ؛ وبذلك فأن شفرة العنوانين بحسب فهم كاتب هذه السطور يمكن أحالتها على الواقع السياسي في عبارة مفادها : (إن أرادة العراقيين لازالت خاضعة لإرادة الغير).
وأخيرا فأنه أذا ما تم دراسة تطور تلك العنوانات وتواليها فأنها تشير الى أن تجربة (الكتيباني) التي بدأت (هسهسة) بصوت خفي؛ وصلت الى مرحلة الصوت المعلن الذي نقل (الهسهسة) الى فضاءات واسعة عبر (هلو سات).
مسرح الصدمة أو الومضة … إشكالية في زمن معاصر
في عشرينيات القرن الماضي وفـي خضم اجتياح موجة السريالية للأدب والفن في أوربا، عرضت أحدى المسرحيات في باريس؛ ربما عدت – في حينها ولسنوات عديدة – أقصر مسر حية تعـرض على جمهور عام، وكانت تفاصيل العرض على الوجه الآتي: (تفتح الستارة على مسرح فارغ، تزداد الإضاءة فيه تدريجا وتعلو حتى تصل أعلى درجات شدتها، لا شيء يحدث على المسرح.. يبقى الجمهور يترقب حدثا ما.. وتمر ثلاث دقائق من الانتظار..ويعتقد بعض الجمهور أن هناك خللا ما حدث في المسرح، ويبدأ البعض الآخر بالتساؤل و (التساعل) – إن صح التعبير – ويتسرب الملل والضيق للبعض الآخر، عندها يدخل ممثل شاب يرتدي بدلة عمل ويحمل بيديه سلة مهملات، يقف وسط المسرح ليحدق في عيون الجمهور طويلا ولمدة تقارب لحظات الانتظار السابقة؛ دون أن يفعل شيئا، يعمد بعدها الى إفراغ سلة المهملات وسط المسرح، ويخرج من يسار المسرح، وبعد حوالي الدقيقتين يعود الممثل نفسه، حاملا سلة المهملات الفارغة ليجمع فيها ما أفرغه في المرة الأولى، ثم يحدق في الجمهور ، ليخرج بعدها من الجهة التي دخل منها في المرة الأولى)) أنتهى العرض ، من الجدير بالتنويه أن العرض خلامن الحوار والموسيقى ، وكان فضاء العرض خاليا – هو الآخر – من أي ديكور أو سينوغرافيا ، وكان الصمت هو لغة العرض الوحيدة.
صدمت هذه المسرحية المتلقين الذين حضروا العرض؛ ومع أن عرض المسرحية لم يزد عن الدقائق التسع غير أنه أثار ضجة كبيرة؛ وخرجت الصحف الباريسية في اليوم التالي مليئة بالمقالات النقدية المطولة عن ذلك العرض القصير زمنيا، وفتح العرض قريحة النقاد على عشرات التأويلات والتفسيرات والتحليلات، وأثار العرض في نفوس المتلقين عشرات الأسئلة الإشكالية.
ومنذ بواكير القرن الماضي توالت الإشكاليات، ومن أكثرها هيمنة وسيادة هي إشكالية التكنولوجيا التي تزعمت عصرنا وغزت بيوتنا وعقولنا ومشاعرنا ؛ بل أنها غزت حتى ضمائرنا، وبدأنا نرى ونسمع عـن تقنيات في كل شيء؛ بما في ذلك حتى في مجالات الأدب والفن والابداع، كما بدأنا نسمع ونرى ما يسمى (المسرح الرقمي) و (الكتابة الرقمية)، وقبلها نشطت تكنولوجيا الحاسوب لتقدم لنا تقنية استطاعت التحكم بأي شكل أو صورة أو حجم ما، تلك هي تقنية (الفوتوشوب)، التي كان مـن بين نتائجها تقديم ما يمكن تسميته (اللوحة التشكيلية الرقمية) التي لم يعد أنجازها يحتاج الى فنان مبدع، بل تحتاج الى تقني مبدع .
إن هــذا الاحتلال الرقمي – إن صح التعبير – أتضح تأثيره الأكبر على وسائل الاتصال؛ فالرسالة التي كانت تصل غايتها بعد أسبوع أو أكثر في أحسن الأحوال؛ غـدت اليوم تصل في وقت أقصاه عشرون ثانية فقــط، والكتاب الذي كان تنضيده ونسخه وتجليده يستغرق شهوراً طويلة، أصبح بمساعدة التكنولوجيا ينضد وينسخ ويجلد في دقائق معدودة، والخبر الذي كان يحتاج لأيام عديدة حتى يصل الدول المجاورة، أو حتى مدن الدولة الواحدة؛ امسى لا يستغرق غير زمن كتابة سطر على الشريط الإخباري الذي يشاهد على جميع قنوات وفضائيات العالم برمته .
أذن السرعة …السرعة …السرعة، هي أولى شعارات زمننا المعاصر، والتكثيف … التكثيف … التكثيف، هي ثاني شعارات زمننا الحاضر، والاختزال … الاختزال… الاختزال، هي ثالث شعارات زمننا المعاصر.
تأسيسا على ما تقدم فأن سمات الاختزال والتكثيف والسرعة ، غدت من السمات الرئيسية التي طبعت الأدب والفن المعاصر بطابعها وستبقى هيمنتها مستمرة ،معاستمرارأشتغالاتالتكنولوجياوتطوراتهاالمتسـارعة، وقد شهد العالم العربي ظهورا بارزا لتلك السـمات في سبعينيات القرن الماضي ، إذ وجدت لها استجابة وصدى واسعين في مجال السرد ، فبعـد أن شهدت بواكير القرن الماضي وامتدادا حتى خمسينياته وستينياته أنماطاً سردية معروفة مثل الرواية ، والقصة ، القصة القصيرة ، شهدت أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات ظهور نمـط جديد أطلقت عليه تسمية (الأقصوصة) التي لا يزيـد سردها عن سطر واحد أو سطرين ، ونذكر في هذا الصدد المجموعة القصصية الشهيرة – آنذاك – الموسومة (الدهشة في العيون القاسية) للقاص السوري (زكريا تامر) ، التي ضمت عشــرات القصص ؛ والتي لا يزيد سردها عن السطر الواحد أو السطرين ، مــن ذلك القصة الآتية : ((كانت العصافير تزقزق فوق أسلاك الكهرباء …جاءت الطائرات.. ماتت العصافير)) – انتهــت القصة – ثم انتقلت آليات السرعة والتكثيف والاختزال الى الشعر، فظهرت قصائد لا تزيد أسطرها على الثلاثـة أو الأربعة، من ذلك ما ظهر في أواسط تسعينيات القرن الماضي للشاعر العراقي الكبير (كاظم الحجاج) في ديوانه الموسوم (غزالة الصبا) الذي أشتمل على ما يزيد على (25) قصيدة؛ لا تزيد أسطرها عن الاثنين أو الثلاثة، ومثال ذلك قصيدته التي تشتمل على أربع كلمـات فقط، وردت على الشكل الآتي:
((أني
رجلٌ
يخجلُ
مني)) انتهت القصيدة.
إن القصص والقصائد الوارد ذكرها آنفا؛ اختزلت عشرات المعاني وكثفت عشرات الصور في أقل عـدد ممكن من الكلمات، وعلى المستوى الشخصي فأن لكاتب هذه السطور تجربة تحليلية لهذه القصيدة، قــُدمت ضمن محاضرة ألقيت في أتحاد أدباء وكتاب البصرة أستغرق تحليلها مـا يزيد عن (45) دقيقة، ثم أعتمد تحليلها ضمن محاضرات طلبة الدكتوراه في مجال (درامية الشعر) يزيد ألقاءها على الساعة الكاملة.
وفي أطار سياقات السرعة والتكثيف والاختزال؛ لا يمكن أغفــال أشتغالات السينما التي عمدت على تكثيــف صورها في أقل عدد من الدقائق والثواني، إذ اقيمت في بواكير هذه الألفية العديد من المهرجانات السينمائية القصيرة، والقصيرة جدا، بـل شهدت الألفية مهرجانات تشترط عدم زيادة زمن الفلم المعروض على الدقيقة الواحدة، فضلا عن الأفلام القصيرة والصغيرة الحجم في الوقت نفسه التي تصور بواسطة أجهزة الهاتف الجوال، والتي لا تزيد على الدقائق الثلاثة.
إن إشكالية العصر الراهن تتمظهر في تحدي الأحداث والمتغيرات المتسارعة للمنجز الإبداعي سـواء الأدبي أو الفني أو الثقافي بشكل عام ؛ وتحدي قدرته على اسـتيعاب تلك المتغيرات المتسارعة ؛ إذ هيمنت على العصر الراهن سمة تجاور المتضادات وتجاور المتناقضات التي يصارع بعضها البعض الآخر مولدة توترات وأزمات عنيفة ومفاجئة تدهش المتلقي ، صادمة إياه ؛ ناسفة مراكز قناعاته ومرجعياته ، فاتحة أمامه العديد من التساؤلات المولدة لغيرها في متوالية إشكالية لا قرار ولا نهاية منظورة لها ، فكيف يمكن للإنسان المعاصر أن يرى صورة شخص يسير جذلانا ويتقافز مرحا على سطح القمر ، والى جانبها صورة أناس يقدرون بالآلاف يسيرون حفاة في هجير الصيف اللاهب مئات الكيلومترات مهجرين ونازحيـن قسرا عن ديارهم وبيوتهم ؟؟!! ، وكيف للإنسان المعاصر أن يستوعب صورة عاشقين أحدهما في اليابان والآخر في أمريكا الجنوبية يتغازلان بأمان ويرسلان لبعضهما القبلات عبر (الماسنجر) أو (الواتساب) وفي الوقت نفسه يرى صورة ملتحين قذرين يغتصبون الفتيـات الباكرات – بفتوى مشرعنة – ثم يقوموا ببيعهن في أسواق النخاسة ؟؟!! هــذه بعض مــن إشكاليات زمننـا المعاصر ، وهــذه هي بعض مــن إشكاليات مســرح (الصدمة ) أو مســرح (الومضة) الــذي يشتغل عليــه المخـرج الماهـر (ماهــر الكتيباني) ، والذي يحاول في عروضه أن يتشوف المستقبل متنبئـاً بحيثياته وألغازه ، مجربا الولوج الى ما يمكن تسميته (مسرح ما بعـد الحداثة) ، في تجريب مســرحي يكاد أن يتفرد به في المسرح العراقي ، ولربما عندما يكمل هذا (الماهر) تأثيث مشروعه وتفعيله بما هو مبتكر وجديد؛ فأن ذلك سيضمن له مشروعا متفردا على مستوى الوطن العربي، وليس من باب المبالغة القـول بأن صدى هـذه التجربة / المشروع في حالة اكتمالها والتنظير لها؛ ستطبع بصمة خاصة في حركة (مسرح ما بعد الحداثة) على المستوى العالمي.
في تجربته الموسومة (هسهسات) التي عرضت أول مرة في محافظة البصرة ، ثم قدمت ضمن (مهرجان أيام بغداد المسرحية الأول) ، حاول (الكتيباني) أن يقدم بيانا تطبيقيا لما يسعى إليه من اجتهاد تجريبي مبتكر، فقد أدهش عرض (هسهسات) كل مــن شاهده ، وأثار ضجة كبيرة في بغداد ، إذ تحول اعضاء الفريق المسرحي الذي قدم العرض الى نجوم المهرجان بلا منازع ، وذلك للدقة والمهارة والحيوية والتنوع الذي تميز بها العرض؛ والذي لم يستغرق أكثر من (19) دقيقة، مع أن الحاضرين أجمعوا على أن العرض كان زمنيا أكثر من ذلك بكثير، فلكثافة المعاني وتوالدها واستمراريتها في الانفتاح على عشرات الصور؛ ظن الجمهور أنهم شاهدوا عرضا زاد على الساعة الكاملة، وأنهم تمنوا لو لم ينتهي ، ذلك لأن العرض كان حيويا بامتياز، الى درجة جعلت رائد المسرح العراقي الكبير أستاذنا المرحوم (الدكتور سامي عبد الحميد) يقفــز من كرسيه ليقطع تحية الممثلين بعد العرض؛ صارخا بصوته الجهوري المعروف ((هــذا عرض مبتكر)).
أعتمد عــرض (هسهسات) الذي ألفه وأخرجه (الكتيبــاني) بنفسـه على السرعة والاختزال والتكثيف مبادئ أساسية له، ليحقق من خلالها لحظات من الأثارة والدهشة تلاحقت مع توالي الصور المتسارعة التي تبث وتبوح بالكثير من المضان والمعاني، واستطاع بذلك أن يحقق ما يمكن تسميته (الصدمة) لمتلقٍ أعتـاد المتوقع من المعاني والمضان المباشرة والصور الجاهزة، في حين فاجئه العرض بما هو لا متوقع وغير مباشر ويحتاج الى أعادة تشكيل، وبالتالي ما هو مبتكر وجديد على العين وعلى السمع معا.
منذ اللحظة الأولى فوجئ المتلقون بعنوان العرض (هسهسات)، وأعتقد البعض منهم بأن مفردة العنوان إما أن تكون دخيلة أو غريبة على اللغة العربية، وأما هي مفردة من الكلمات المهجورة في اللغة؛ غير أن العارفين باللغة وجـدوا فيها معنىً وإيحاءً عميقين، فـكما نوه الباحث في الجزء الثالث من (القراءات) فإن (الهسهسة) هي صوت أكثر انخفاضا من (الهمسة)، وهي توحي بحالة من البوح السري ؛ بل البالغ السرية ، ومعنى ذلك أن هؤلاء الذين (يهسهسون) هم في أشد حالات الخوف من الافتضاح ، فهل هو خوف من غزو التكنولوجيا التي أحتلـت عقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا ؟؟ أم هو خوف من غزو الإرهاب الذي عطل عقولنا وأعطب مشاعرنا وأحاسيسنا ؟؟ ؛ هذا هو سؤال العرض الذي كان موجها للمتلقين.
من المفيد – هنا – الذكر بأن أحدى علامات العرض المهيمنة هي آلة ضخ النفط التي كانت تطل
من أعلى فضاء المسرح.
إن المتلقي الذي يشاهد المسرحية – والذي ينبغي عليه مشاهدتها أكثــر مــن مــرة – سيخرج بانطباع مفاده (أن المسرحية لم تقل أي شيء .. لكنها قالت كل شيء)، ويـرى صاحب هذه السطور: أن هذا الانطباع يشكل المعادل الموضوعي لما يعيشه عصرنا من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وروحية تشير الى : (أننا نقول كل شيء .. لكننا لا نقول أي شيء)
تحية لكل من (هسهس) برقة وجمال في (هسهسات)، ونتمنى أن تعلوا أصواتهم لتكون أكثر علوا من ضجيج هذا العصر الذي هيمنت فيه أصوات التفجيرات والمفخخات وأصوات السياسة والإرهاب الجوفاء.