مدخل عام
في خضم المتغيرات والانهيارات الكبرى والأحداث الساخنة التي رافقت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين شهد العالم والوطن العربي بشكل عام؛ والعراق بشكل خاصم تغيرات كبيرة على كافة الأصعدة والمستويات والبنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية؛ وهذه المتغيرات جعلت بوصلة المثقف والفنان تتجه باتجاهات مغايرة للاتجاهات التي كانت عليها؛ قبل حدوث المتغيرات؛ وكان من بين أهم نتاجات ما بعد تلك المتغيرات بروز تيارات (ما بعد الحداثة) التي حاول تنسف كل ما هو قار وثابت وراسخ في ثقافة الحداثة وما سبقها؛ في سعي من المثقفين والمفكرين والفنانين لإيجاد معادل موضوعي يحاكي تلك المتغيرات أو يتقارب أو يتحايث – في أقل تقدير – معها؛ وعلى صعيد المسرح الذي يعد من أكثر الحقول والمستويات تأثرا بتلك المتغيرات من ناحية؛ والأقرب والأكثر التصاقا بجمهور المتلقين من ناحية أخرى؛ فأنه كان الأسرع في إعلان رد فعله وموقفه من تلك المتغيرات؛ لذا شهد الفضاء المسرحي سواء على صعيد الوطن العربي أوالعراق؛ ظهور العديد من ردود الفعل التي حاول بها المسرحيون – الشباب منهم بخاصة – أن يعلنوا مواقفهم من خلال تجارب مسرحية تغاير الصورة القارة والمهيمنة قبل حدوث تلك المتغيرات؛ وقد أسفر حراكهم عن ظهور تجارب ومشاريع مختلفة بعضها ما ولد من رحم التجربة السابقة مع بعض الرتوش والألوان المضافة؛وبعضها أختط لنفسه سبيلا آخر؛عندما قلب ظهر المجن وغادر التجارب السابقة وخاض في مغامرات خطرة بعضها كان محسوبا لنتائجومخططلهبوعيوقصدية؛وبعضهاكانحماسياوعاطفياحاولإعلانتمردلمتحسبنتائجهبدقة؛وبعيدا عن النقد وتشخيص العيوب؛ فأن قراءة موضوعية هادئة للمشهد المسرحي؛تجعلنا نميل الى مباركة جميع تلك التجارب بوصفها مازالت تجارب تحاول إيجاد هوية خاصة بها؛ وسنركز في دراستنا هذه على واحدة من التجارب التي تقف في الصف الأول من نوع المغامرات الخطرة ذات النتائج المحسوبة والمخطط لها بوعي وقصدية؛ تلك هي تجربة (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) التي بدأت ملامحها تتضح كمشروع مسرحي مستقبلي يستحق الدراسة والتأمل؛ وبخاصة أن هذا المشروع – الذي تفردت به البصرة من خلال المخرج ماهر الكتيباني – بدأ مغامرة بحث فيها مغامرها عن مسرح مغاير أبتداءً من عام 1994 ؛ وقدم في مشروعه هذا لغاية الآن ستة عروض مسرحية؛ويستعد لتقديم عرضه السابع قريبا.
تمت كتابة هذه الدراسة- التي تتضمن عدة قراءات – بعد المتابعة الدقيقة والمرافقة للمشروع أعلاه منذ بداياته؛ وتتوزع على القراءات الآتية:
1/ قراءة في المهاد التاريخي لمشروع (مسرح اللاتوقع الحركي القصير).
2/ قراءة في مفردات مصطلح (اللاتوقع، والحركي، والقصير).
3/ قراءة في عنوانات نصوص وعروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير).
4/ مسرح الصدمة أو مسرح اللحظة .. إشكالية في زمن معاصر.
5/ مسرح (اللاتوقع الحركي القصير) .. تفرد في الاجتهاد والابتكار.
6/ قراءة في الخصائص المميزة لـ(مسرح اللاتوقع الحركي القصير).
7/ قراءة في مستقبل مشروع (مسرح اللاتوقع الحركي القصير).
8/ قراءة نقدية لنموذج من عروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير).
لقد حاول الباحث في قراءاته أن يحاكي طبيعة هذا المسرح؛ فجاءت هذه القراءات مكثفة مختزلة بعيدة عن الأسهاب والأطناب؛ محاولة التركيز – قدر الإمكان – على أشتغالات هذا المسرح ومعطياته دون تزويق أو مجاملات؛ مستهدفة تقديم صورة موضوعية مقربة عن تجارب مشروع، يعتقد كاتب هذه الدراسة؛ أنه مشروع يستحق الدراسة والتأمل والانتشار؛ كمسرح مستقبلي ننشد منه الكثير.
قراءة في المهاد التاريخي لـ (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)
تزامنا مع الظروف التاريخية الساخنة التي شهدها العالم مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ؛ وترافقا مع المتغيرات التي احدثتها تأثيرات موجات ما بعد الحداثة في كل حقول ونشاطات المعرفة والثقافة والعلوم والفنون ؛ فقد أصبحت الحاجة ماسة لظهور خطاب ثقافي مسرحي يغادر المظاهر والمعطيات التي شكلت خصائص الحداثة ؛ والتي كادت أن تصل مستويات قارة ؛ لا تضيف الى المشهد الثقافي والفضاء المسرحي إلا النزر القليل ؛ ولم تعد تشبع نهم الشباب المبدع الذي عاصر خلال التسعينات المتغيرات الكونية الكبرى أبتداءً من انهيار المنظومة الاشتراكية مرورا بانهيار جدار برلين وحربي الخليج الأولى الثانية وتفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك ؛ ثم الحصار على العراق وما أعقبه من حرب شبه عالمية شنت على العراق ؛ أبدلت وجه العراق بشكل كامل ؛ كل هذه الصراعات والانهيارات الكبرى التي رافقتها تطورات كبرى في مجالات الثورة التكنولوجية والرقمية ؛ جعلت الشباب العربي ؛ وبخاصة العراقي منهم يبحث عن شيء مفقود في الثقافة والمعرفة يوازي تلك الأحداث الكبرى ؛ أو يقدم – في الأقل – مبررات مقنعة لوجودها ووجوده معها ؛ وكان من بين أبرز تلك الحلول التي قدمها الشباب العربي هي موجة الحركات التي أصطلح عليها (ثورات الربيع العربي) ؛ وهي ثورات بالرغم من مشاعر الحماسة والعفوية التي رافقتها ؛ غير أنها استطاعت أن تؤسس لمفاهيم جديدة ؛ قدمت فيها قنوات التواصل الاجتماعي دورا مهما وفاعلا ؛ لذا ومن خلال تلك المعطيات بدأ الشباب العربي بشكل عام والعراقي على وجه الخصوص البحث عن خطاب مغاير ؛ يغادر كل الموروث ليؤسس خطابا ثقافيا ومعرفيا يغادر ما سبقه مقترحا ما يراه مناسبا للمتغيرات أعلاه.
وكان من بين المقترحات المسرحية الشبابية هو انطلاق مشروع مسرحي أجترح عليه مقترحه تسمية (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)؛ وهو مشروع يمكن توصيفه بعدة توصيفات منها: مسرح اللحظة الراهنة..مسرح اللحظة العابرة …مسرح الخاطرة السريعة..مسرح الصدمة… مسرح البرق الخاطف، وغير ذلك من المسميات التي يمكن أن تصلح توصيفا لعروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)؛ الذي يطرح إشكاليات الواقع المعاصر بصياغات برقية سريعة؛تكتفي بإضاءات شديدة تركز للحظات خاطفة وبسرعة البرق وشدة سطوعه على بؤر في هذا الواقع؛ دون أدنى شرح أو تفصيل؛ فهو مسرح أشكالي أقل ما يقال عنه أنه مسرح مشاكس بكل ما يحمله هذا التوصيف من معاني.