اسم الكتاب : “دينامية التواصل في مسرح الطفل والمسرح المدرسي”
الكاتب: د. محمد لعزيز
الناشر: مطبعة بلال بفاس
**********************
مسرح الطفل والمسرح المدرسي سبيل لحفظ زمن الطفولة بدل سرقته من طرف الراشدين
يتكامل مسرح الطفل والمسرح المدرسي في أدوارهما الثقافية والتربوية، ليشكلا أداة تواصلية مهمة في تشكيل الوعي الطفولي وإضاءته بالأفكار والرؤى الحياتية الجمالية والفنية، وهو الأمر الذي يعزز قدراته التخييلية ويطور علاقاته مع الذات والآخر، لكن مما يؤسف له أن هناك تراجعا كبيرا لدور هذين المسرحين وأهميتهما، حيث تقلصت أعمال مسرح الطفل على مسارح أغلب الدول العربية، ويكاد المسرح المدرسي وخشبته يختفيان من المدارس في مختلف مراحلها، هذا على الرغم من أن الكتابات المسرحية والمواهب التمثيلية حاضرة وراغبة بقوة للعمل ولو بأقل الإمكانيات.
الناقد المسرحي المغربي د.محمد لعزيز في كتابه الذي زينت غلافه لوحة “طفولة” للفنان مصطفى بخشي، وصدر أخيرا عن مطبعة بلال بمدينة فاس، بعنوان “دينامية التواصل في مسرح الطفل والمسرح المدرسي” سعى إلى معالجة الأمر في مستوياته المتعددة، مؤكدا في مقدمته على أهمية الطفولة في الحياة الإنسانية عبر كل الأجيال، مؤكدا أن “البشرية آمنت أن الطفل هو أساس بناء المجتمعات، وهو باني مستقبلها، وهو أملها، وغدها المتطلع إلى تحقيقه، ومع أنه كائن ضعيف وهش، إلا أنه صادق وحساس يمتلك غنى داخليا كبيرا، يفضل كل ما هو خيالي، ويجنح للحلم، لذلك فهو في حاجة إلى المساعدة بموجب عدم اكتمال نضجه، وليونة طباعه، وسذاجته وافتقاره لخبرة الراشدين، ومع ذلك فهو جريء ومشارك ومتأثر ومندفع، له خيال واسع وتفكير حاد. هذه المحددات النوعية للطفل لا تسري بالإطلاق على كل الأطفال فهي تحتاج إلى تدقيق مع كل فئة عمرية، بحسب الجنس والمحيط والنفسية. لسنا في حاجة هنا إلى إبراز أهمية الطفل والطفولة، ولكننا في حاجة إلى أن يدرك السياسيون والتربويون، والاقتصاديون في بلادنا قيمتهما، ويأخذونهما بعين الاعتبار في بناء سياستهم ومخططاتهم، وفي بناء توجههم لإخراج البلاد إلى المنعطف الحضاري الذي يبوء الإنسان العربي/ المغربي المكانة التي يستحقها.
ورأى أن الطفل العربي والمغربي سيظل في حاجة ماسة إلى دراسات تشمل مختلف مناحي حياته المعرفية والفنية والجسدية من أجل تصحيح كل أوضاعه، وتجاوز استغلاله وقهره وبراءته وهضم حقوقه، ولهذا فإن هذا الكتاب منصرف إلى مجال واحد هو المجال المسرحي، مجال ظل يشغل بالنا، سواء بتطلعنا إلى الرغبة في تعميمه في المدن والقرى، في الأحياء والدروب، في دور الشباب والمدارس، أو بتعميمه على كل الفئات العمرية الطفلية، لاعتقادنا أن المسرح سبيل مستقبلنا الذي ننشده جميعا، وسبيل لحفظ زمن الطفولة بدل سرقته من طرف الراشدين.
ولفت إلى إن الكتاب ليس سوى لبنة متواضعة نبغي من ورائها المساهمة في تناول جانب من جوانب الممارسة المسرحية عنت لنا قيمتها بما لاحظناه من سوء التواصل بين مبدعي مسرح الطفل وبعض معلمي المسرح المدرسي من جهة، والأطفال والمتعلمين من جهة ثانية، والذي تتدخل فيه جملة من المعيقات والإشكالات تعود في أصلها إلى طبيعة التواصل في المسرح، والتي تختلف عن أنواع التواصلات الفنية الأخرى، نظرا للخصائص المميزة التي تنفرد بها الظاهرة المسرحية، ذلك أن كل مكون من مكوناتها تساهم في تشكيله شفرات تختلف مرجعياتها ومصادرها بين ما هو لغوي، وما هو غير لغوي، بغض النظر عن حمولاتها الثقافية والفكرية والفنية وغيرها.
ناقش لعزيز في كتابه عملية التواصل في المسرح باعتبارها عملية معقدة، وتساءل عن طبيعة التحديد الخاصة بها: هل يتم هذا التحديد انطلاقا من فعل الإرسال للعلامات والدلائل الركحية إلى المتلقي الطفلي؟ أم يتم انطلاقا من فك شفرات ورموز كل علامة من العلامات المسرحية؟ أم تتمثل في تلك الآثار الفنية والجمالية التي تخلفها المرسلة المسرحية في المتلقي/المتفرج؟ وهل يكتفي الجمهور الصغير في المسرح بنمذجة وضعيته النفسية والاجتماعية الخاصة ومقارنتها بالنماذج الخيالية/الوهمية التي يقترحها عليه الركح؟ ثم كيف ينظر هذا الجمهور الى العرض؟ هل باعتباره مرسلة واحدة أو مرسلات متعددة؟ وكيف يوحد بينها؟.
هذه الأسئلة وغيرها كانت مدار اشتغال الكتاب الذي جاء في ثلاثة فصول، انبرى الأول إلى الخوض في إشكالية التواصل، ومحاولة تعريف المفهوم، وتبيان محدداته في الوجود الإنساني عموما، وفي الفن المسرحي خصوصا، وتعرّف كيفية اشتغال مضامينه في كل من مسرح الطفل والمسرح المدرسي. حيث أكد لعزيز إن “تناول العملية التواصلية تتم من داخل المنجز المسرحي الطفلي، والقدرة الكبيرة التي ينبغي وعيها من أجل ممارسة مسرحية ناجحة، لقد حاولنا ملامسة قضايا “العملية التواصلية” بعدما أضحت موضوعا أساسيا في المجتمعات المعاصرة على كافة المستويات الفردية والمؤسساتية، بل إن المؤسسات الاقتصادية أفرزت شركات خاصة ما فتئت تتكاثر وتتسابق لبيع أشكال التواصل وتطبيقاته ومخترعاته التي يبدو أنها لن تتوقف في الأفق المنظور. وتتجلى قيمة التواصل في عصرنا الحاضر كونه عصب نجاح العلاقات الإنسانية، نجاح لا يتأتى إلا بنجاعة التواصل وفعاليته، وأما حين يغيب فإنه يفرز مشاكل بالجملة، لا تتمثل فقط في فشل العلاقات الإنسانية الفردية والمجتمعية، بل في مآلات تهدد البشرية جمعاء. لا غرو إذن أن يهتم باحثون من مختلف التخصصات بالمجال، وأن يكثر فيه متخصصون، بل وتظهر فيه كل مرة تخصصات جديدة، ومؤلفات جديدة، كما يظهر تواصليون يبيعون خدماتهم ونصائحهم وأدواتهم”.
وتابع “لقد صار التواصل علما قائم الذات ما فتئت دائرة المشتغلين به تتوسع بموجب حاجة الإنسان المعاصر تعرف كل أشكال تواصلاته، وكل جوانبها الظاهرة والمتوارية، وكل تقنياته واستراتجياته، لذلك كله أضحى “التواصل” حقلا شاسعا ومغريا وشيقا للتفكير والدراسة والتطبيق، جعل عصرنا يوسم بـ “عصر التواصل” لأن أدواته غزت كل الفضاءات، وفرضت ذاتها على كل المجالات، وعلى كل إنسان، ولعل هذا ما دفعنا إلى خوض غمار دراسته، والبحث في الجوانب التي تنفع مجال اشتغالنا، والمتمثل في معالجة موضوع التواصل من زاوية علاقته بالمسرح بشكل عام، وبمسرح الطفل بشكل خاص سواء داخل المدرسة أو خارجها”.
سعى لعزيز في هذا الفصل أيضا إلى إبراز الجوانب النظرية المتعلقة بالتواصل باستحضار أسبابه ومستوياته ووسائله وقنواته، كما أنتجها باحثون في دراساتهم النظرية والتطبيقية، من بين تلك النماذج النظرية “النظرية الإخبارية” كما بلورها كل من شانون وويفر، وصولا إلى النماذج التواصلية الاقتصادية، غير أنه نحا جهة تبين الإشكال الفاصل بين التواصل العملي الذي يشغل الحيز الوافر في الحياة اليومية والتواصل الفني المتميز بغنى دلالاته، وحضورهما معا في المجال المسرحي. من هنا سعى كذلك إلى تجلية بعض الإشكالات التي يطرحها التواصل في الفن المسرحي، مركزا على الدينامية التي تخلقها العملية التواصلية في المسرح، وهي العملية التي لا تتحقق إلا في حضرة متلقين حقيقيين أو محتملين، عبر أنساق لغوية لفظية وغير لفظية، تتميز الأولى بما تحمله من ما ليس لغويا كالمشاعر والأفكار، وتتميز الثانية فيما يعرف بـ “لغة الأشياء” باعتبارها لغة دالة في المسرح بشكل كبير. وبعيدا عن الجدل اللساني حول قيمة وأسبقية وأهمية كل من اللغة الملفوظة واللغة غير الملفوظة أو الأنساق الدلالية اللفظية وغير اللفظية ومن منهما أكثر أهمية، فإن اعتقاد ـ لعزيز ـ ظل راسخا بأن مجال المسرح تتعانق خلاله كل اللغات، وتتواشج لخلق المعنيين الفني والجمالي للعمل الإبداعي المسرحي.
ومهد لعزيز في الفصل الثاني المعنون بـ “دينامية التواصل في مسرح الأطفال” بالتمييز بين مراحل الطفولة تجنبا للخلط القائم في التعامل مع الطفل دون مراعاة الفروقات بين كل مرحلة وأخرى، اعتمادا على ما وصلت إليه بحوث علماء نفس النمو، وهو ما سمح له بتفصيل الحديث عن أنواع مسرح الطفل وأبعاده المختلفة، ليخصص المبحث الثالث لواقع مسرح الطفل بالمغرب ومسيرته التطورية في مجال التأليف النصي متجاوزا في ذلك التركيز على المثالب التي رافقت مسار ترسيخ الممارسة إلى محاولة المساهمة بالأسباب المراهنة على الأساليب الدافعة الى نجاح عملية التواصل في هذا المسرح، انطلاقا من الطبيعة النوعية للكتابة الدرامية من جهة، والمضامين المسرحية التي يميل نحوها الأطفال بمختلف مستوياتهم العمرية والعقلية من جهة ثانية، وأما نجاح العروض الموجهة للطفل فتقتضي التركيز على قطب التلقي ومراعاة الوسائل الجاذبة للطفل نحو المسرح من جودة التمثيل، واعتماد التشويق عن طريق الفكاهة والسخرية من أجل الإمتاع وشد الطفل الى الفرجات التي يجد نفسه فيها.
وخصص لعزيز الفصل الأخير للمسرح المدرسي، وقدّم له بمبحث حول سؤال المدرسة في المجتمع المعاصر، راصدا فيه واقع المدرسة المغربية والتقاطعات الممكنة بينها وبين المسرح باعتباره مؤسسة متكاملة، قبل أن يفصل الحديث عن كرونولوجية إخفاقات الإصلاح للمدرسة المغربية في علاقة ذلك الاخفاق بالمسرح. وهو ما دفعه إلى رصد عوائق التواصل في المسرح المدرسي المغربي، والعوائق الكثيرة التي حالت دون نجاح تواصل حقيقي داخل رحاب المدرسة. وقد وجد ـ لعزيز ـ نفسه أمام معضلات الاضطرابات اللغوية الصوتية والتركيبية والمعجمية والدلالية، ومعضلات الاضطرابات التواصلية وعلى رأسها الاضطراب التوحدي الذي تعاني منه المدرسة ومعلميها،وبعض المتعلمين مقترحا المسرح كوسيلة يتجاوز بها المعلمون تلك المعيقات ومستغلينه كوسيلة علاجية باعتماد اللعب التمثيل يولعب الأدوار كوسائل ناجعة تحقق ما تعجز عنه المدرسة.
هكذا وفر لعزيز لكتابه خيطا ناظما تمثل في بحثه الدؤوب عن الدينامية التطورية لفعل التواصل في كل مبحث من مباحث فصول الكتاب، حيث تم التأكيد على الدينامية التطورية للتواصل الإنساني كما كشفت عنها الدراسات والنظريات التي ظلت تتطور تبعا لتطور المجتمعات البشرية اعتمادا على وسيلة التواصل التي ظلت تتطور وتطور الزمن الثقافي والحضاري، إلى أن أضحى معها المجتمع المعاصر متشابكا تواصليا، أكثر من أي وقت مضى بموجب المخترعات المتلاحقة التي ما فتئت ترهن الإنسان إليها، إلى درجة أصبح معها التواصل مفهوما يتواجد في كل الأمكنة، يعنى بنقل وتوصيل وإرسال المعلومات والأخبار،جعلت الانسان المعاصر يقع في شرك التواصل الذي صار قيمة مركزية في المجتمعات المعاصرة.
ورأى لعزيز أن هذه الدينامية التواصلية هي ذاتها التي تسري على كل الأنماط الفنية والأدبية، وضمنها الفن المسرحي، وتكمن دينامية التواصل المسرحي فضلا عن الزواج الطبيعي بين المسرح والتواصل، في امتلاك كل مكون من مكونات العمل المسرحي ديناميته الخاصة خلال تخلقه، فالعمل منذ كتابته إلى عرضه فوق الخشبة يعرف سيرورة متطورة تتنامى كرونولوجيا ابتداء من النص الذي لا يكف عن تطوير مكوناته البنائية، إذ لا يكف الكتّاب عن إعادة الكتابة،والتصحيح والتصويب. والأمر ذاته مع الإخراج والمخرجين الذين تعبر مسوّداتهم عن مسار طويل في الكتابة على الكتابة، وتدوينات الهوامش والتشطيبات والتصحيحات، بل إن هذا هو نفسه الذي نجده عند كل أفراد الطاقم الإنتاجي من ممثلين وكهربائيين وسينوغرافيين وموسيقيين ومصممي الملابس..الذين يسعون إلى تجويد أعمالهم وتحسين تدخلاتهم، ليظل العرض المسرحي متشبتا بصيغته “العابرة” والمتحولة، والمتبدلة واللانهائية التطور من أجل بلوغ مرحلة “النضج” التي لا تكتمل إلا بتجانس التدخلات الإبداعية لكل المشاركين.
وأوضح أن التواصل في المسرح المدرسي شديد الارتباط بفضاء اللعب والبيئة التي ينخرط ضمنها، من ثم فرادة واختلاف التواصل في المدرسة أو الفصل الدراسي عن باقي مجالاته لأن أجواء المؤسسة التعليمية الوجدانية والعاطفية، وموقع شخصية المتعلم فيها، كل هذا وغيره يعدمحددا لنوعية التواصل وخصوصياته.افترضت شروطا لتحقيق نجاحهتتأسس جميعها على رغبة المرسلين في نجاح مرسلاتهم حتى لو كانت تسعى إلى التضليل والتمويه.
وأكد لعزيز إن التواصل بين المتعلمين داخل المدرسة يملك قيمة مضاعفة مقارنة مع تواصلهم خارجها، ليس فقط لأنه صورة مصغرة عن التواصل المجتمعي، ولكن لأن الفشل التواصلي داخلها، يخلق عجزا عن التواصل في الحياة العامة يسري على بقية مسار حياته. وهو الأمر الذي دفع الباحث إلى تخصيص مبحث من الكتاب للحديث عن العوائق والاضطراباتالتي تطال التواصل داخل المدرسي مقترحا في هذا الصدد الممارسة المسرحية المدرسية كوسيلة علاجية ترتكز على اللعب التمثيلي باعتباره وسيلة فعالة أثبتت فعاليتها في العديد من النماذج المسرحية عبر العالم.