بحث تم تقديمه في الندوة الفكرية” مسرح مابعد الدراما”- مهرجان الاردن المسرحي “28” /4-14-2021
متابعة & تصوير: رسمي محاسة
*****************
مـقـدمـة:
طرح «مسرح ما بعد الدراما» Le Théâtre Postdramatique ومايـزال يطرح العديد من الإشكالات الجمالية المرتبطة بأسسه ومنطلقاته وتحققاته الدرامية وتقاطعاته مع الفنون المجاورة، كما يطرح إشكالات أخرى تتعلق بأدواته النقدية ومقارباته الدراماتورجية التي تنحو نحو سمة (البديل) و(الجديد). وبانفتاح هذا المسرح على الفنون الحية المجاورة، وبانسجامه مع كل التطورات التقانية التي حملتها رياح العولمة، فإنه يؤكد منذ البداية فرضية أساسية، هي أن «فن المسرح»، ينفلت دائما من قبضة الاستبداد؛ والاستبداد هنا، ليس إلا صورة للطقوس الدينية التي بدأ في حضنها، قبل أن ينفلت منها، وليس إلا صورة للقوالب الكلاسيكية، قبل أن يكسرها، وليس إلا صورة من صور التحكم التي ظلت العديد من المدارس تطوقه تعريفا وغاية.
فقد شهد الفن في الغرب في أوائل الستينيات من القرن العشرين “اتجاها لا يمكن تجاهله نحو فكرة (عرضPerformance )، والتي قد أفرزت ما يمكن تسميته «اتجاها فنيا» نحو فنون العرض، حتى إن الحدود المعهودة بين الفنون بدأت تتماهى شيئا فشيئا، حيث ساد الميل إلى «خلق حدث» بدلا من «خلق عمل»، وتحقيق ذلك في هيئة «عرض أدائي».”[1]
لقد عرف المسرح في هذه الفترة، تفاعلا موسعا مع فنون أخرى مجاورة، خصوصا «فن الأداء»، و«الفرجات الخاصة بالمواقع»، و«التجهيزات الفنية» بشتى تلويناتها، وفتح مساحاته «للمد الوسائطي»، والتقنيات الرقمية، والكوريغرافيا والرقص، والموزيكوهول والأوبرا والكرنفال، فشن المسرح بذلك، ثورة عارمة ضد كل القوالب الجاهزة التي تؤكد نمطيته وأسلبته، وتعيق تحرره وانعتاقه.
لقد تغيرت جماليات العرض ـ تقول إريكا فيشر ـ “تغيرا جذريا على يد الفنانين، وأصبح من الصعب تطبيق نظريات الجمال التقليدية على العروض الحديثة، واللحظة الحاسمة في هذا التحول هي التغير الذي لحق بعلاقة الموضوع الفني بالذات المبدعة، وتحول المادة بمعانيها ودلالاتها إلى (حدث) أو (تجربة) لا يمكن الإمساك بها وفحصها وتحليلها؛ مما يفرض الحاجة إلى تطوير جمالية جديدة لتناسب الشكل الجديد للعرض.”[2]
وإذا كانت التنظيرات الغربية نتاج قراءة للمنجز المسرحي الغربي ذاته، فإن أوضاع المسرح العربي المعاصر، لم تكن في غنى عن تلك الاقتراحات، أو بعيدا عن تأثيرات تجاربهم المسرحية، بالرغم من اختلاف السياقات المتعددة . فمن يرصد حركية المسرح العربي ومنجزه خلال الألفية الثالثة، سيتوقف من دون شك، عند مجموعة من التجارب التي تمتح من دراماتورجيات متنوعة، في الوقت نفسه تؤسس لشعرية مفتوحة ذات براديغمات جديدة في ظل ما بات يعرف بـ «مسرح ما بعد الدراما».
ومن ثَمَّ، سنحاول في هاته الدراسة الموسومة بـ” الدراماتورجيا والأفق والما بعد الدرامي: براديغمات المسرح العربي المعاصر” أن نرصد على التوالي جانبا من الصور التي تقدم من خلالها الدراماتورجيا نفسها باعتبارها دراماتورجيا بديلة؛ ففي الوقت الذي تشيد فيه طرقا جديدة لممارسة المسرح، فإنها تعيد في الآن نفسه بناء نواميس الكتابة المسرحية المعاصرة، وفق براديغمات جديدة أخرى، وكل ذلك في أفق “مسرح مغامر” ـ بتعبير (هانز تيس ليمان) ـ مشبع وموسوم بـ (الما بعد الدرامي)؛ هذا الأفق الذي “يتجاوز الحدود ما بين الفنون، حيث تجاوز فن المسرح حدوده الجمالية من خلال التوجه إلى أنواع فنية أخرى مثل الأوبرا والموسيقى والرقص وفنون الكاميرا وغيرها.”[3] كما سنحاول أن نقف عند بعض التجارب المسرحية العربية المعاصرة، من أجل تحديد الدراماتورجيا التي تشكل نسيجه ومقاربة البراديغم الذي تأسست حوله. وهذه التجارب هي:
دراما المحطات ومشهدية برج المـر في «لكم تمنت نانسي لو كل شيء لم يكن سوى كذبة نيسان» من لبنان.
الـرؤية التراجيدية والبراديغـم الجديـد للفـرجة في مسرحية «يــا رب» من العراق.
الـرواية الـدراميـة في مســرحية «كــل شــيء عــن أبـــي» من المغرب.
عبـور نحـو الدراماتورجيا البصرية في مسرحية «تــوقيـع» من المغرب.
وهنا، يمكننا أن نطرح للتساؤل مجموعة من الإشكالية: ما الدراماتورجيا؟ وما أدوارها ؟ وفيما تتمثل الدراماتورجيات الجديدة والبديلة؟ وما تلاوينها؟ أي أفق ترسمه باعتبارها تؤسس لمسالك جديدة لممارسة المسرح؟ وهل هاتان الكلمتان كافيتين لاستيعاب هذه التلوينات الدراماتورجيا؟ وهل الأشكال (ما بعد الحداثية) و(ما بعد الدرامية) لا تزال قابلة للتحليل بأدوات الدراماتورجيا التقليدية؟ ومع (باتريس بافيس) نتساءل: “ماهي الدرماتورجيا، هل هي شعرية/ إنشائية العمل الدرامي والفرجوي؟ أم أنها تقنية دقيقة وبراغماتية لتحليل نص، وإخراجه عمليا على الركح؟”[4]
وإذا كانت للدرماتورجيا علائق جديدة وبديلة بالأفق الذي شيده المسرح ما بعد الدرامي، فإننا نتساءل ما أسس ومنطلقات وتحققات الكتابة الدرامية الجديدة لـ (مسرح ما بعد الدراما)؟ وما ملامحها الجمالية؟ ما الذي تشكله أشكال ما بعد الدراما؟ وماذا تعنيه؟ وعلى أية صور تم نحث مصطلح ما بعد الدراما واستخدامه؟ وكيف يتأسس المنطق التأويلي والجمالي لمسرح ما بعد الدراما؟ وهل مسألة التحول من الدراما إلى ما بعد الدراما ليست إلا مجرد تتابع زمني أو تاريخي بين (الدراما) وما بعدها أم أن المسألة هي اختلاف جوهري بين (حالتين) أو (وضعيين) لكل منهما خصائصه ومقوماته المتميزة والمميزة؟ ألم تسقط هذه الممارسة الدرامية الجديدة لما بعد الحداثة في أول اختبار لها، وفي التعريف بنفسها؟ وهل تعاني من أزمة في الهوية والاسم “جديدة” و”بديلة”، وهل هاتان الكلمتان كافيتين لاستيعاب هذه التلوينات الدراماتورجيا؟ وهل الأشكال (ما بعد الحداثية) و(ما بعد الدرامية) لا تزال قابلة للتحليل بأدوات الدراماتورجيا التقليدية؟ وماذا أفاد هذا الفن من العدوى التكنولوجية، حتى ننعتها بالكتابة الدرامية الجديدة؟ وإن كان الأمر كذلك، فكيف ننظر إلى المفاهيم المؤسسة للمسرح في ظل ما بات يعرف بالفرجة الوسائطية؟ وما آفاق هذه الفرجة الوسائطية في عالم اليوم؟
ونتساءل، كيف تشتغل الدراماتورجيا والبراديغمات الجديدة في المسرح العربي المعاصر؟ كيف تنحو نحو التحرير والتجديد في المسرح العربي المعاصر؟ وكيف تُطوق جوانب من امتداد النمطية وتحد من نهج التقليد؟ وكيف تؤسس لنواميس جديدة للممارسة المسرحية العربية المعاصرة على غرار نظيرتها الغربية؟ ما أسئلتها الجمالية وتصوراتها الفكرية؟ وما ملامح تحرر المسرح ومواصفاته في هاته التجارب الجديدة كتابة وعرضا وإخراجا وأداء؟ وهل توجد علاقة ـ كما قال خالد أمين ـ ما بين الحساسيات المسرحية الجديدة التي هي تقاليد مسرحية ما بعد كولونيالية في العمق، وما يمكن تسميته بأصولها الأوروبية سواء الحداثية أو ما بعد الحداثية؟ هل تلك التجارب مجرد أصداء وتمارين تحاكي الحداثة المسرحية الغربية كما يريد أن يوهمنا البعض، أم أنها نابعة بالفعل من وضعنا البيني الملتبس وتواقة لتأسيس اختلافها من خلال تناسجها مع ثقافات فرجوية مغايرة؟
1ـ الـدراماتورجيا.. التشظي والمسالك الجديدة لممارسة المسرح
تموقع الدراماتورجيا والدراماتورجيا المتشظية
عرفت بنية (الدراماتورجيا) في علاقاتها المتعددة بـ (فن المسرح) في مختلف المحطات الدرامية الكبرى تغييرا على مستوى اشتغالها ووظائفها، فرحلتها من الشعرية الكلاسيكية الإغريقية وصولا إلى الدراماتورجيا المتشظية في وقتنا الحاضر، يؤكد مسألة واحدة هي تلك التي رصدها بافيس بقوله: “لقد أدرك المسرح قدراته فابتدع الدراماتورجيا.”[5]
وإذا كان هدفنا يتمثل ليس في رصد رحلة الدراماتورجيا، بقدر الوقوف عند أسئلة الدراماتورجيا في علاقاتها المتعددة بالأفق ما بعد الدرامي، فإننا يجب أن ندرك أننا نقف على أرضية مشهد غني ومتنوع بقدر ما هو ملتبس ومتوتر. إننا في وقتنا الحاضر، نشهد في الآن نفسه ـ كما حدد بافيس ـ نجاح وتشظي الدراماتورجيا، ليس فقط الدراماتورجيا بمفهوم الكتابة الدرامية، بل أيضا التحليل الدراماتورجي: أي قراءة وتحضير المنجز من طرف المستشار الأدبي أو الفني للمخرج المسمى في بعض الأحيان (دراماتورج*). إن تحليقا سريعا في وضعية ومناهج الدراماتورجيا الحالية، وكذا في تحولاتها الحديثة في عدد كبير من الدراماتورجيا الخاصة، يجعلنا نقف ـ كما قلنا سابقا ـ على أرضية مشهد غني ومتنوع، بقدر ما هو ملتبس ومتوتر.”[6]
موقع الدراماتـورجيا وأدوارها:
تتموقع الدراماتورجيا بأبعادها الدلالية الواسعة في مفترق الطرق “بين الكتابة الدرامية والإخراج والنقد. إذ يشير إلى فن بناء النص الدرامي أو بنيته الداخلية، من جهة. كما يشمل في مقام ثان، تحويل اللغات المسرحية وترجمتها بكتابة ركحية. إضافة إلى ذلك، تستوعب الدراماتورجيا، أيضا، الجانب النظري الخاص بعملية إخضاع المنتوج الدرامي للتحليل الدراماتورجي باعتباره فعلا متجذرا في الممارسة المسرحية، بل لا يكاد ينفصل عنها.”[7]
تتعدد أدوار الدراماتورجيا إلى درجة تكشف عن البون الشاسع الموجود في الممارسة المسرحية في مختلف ربوع العالم، فهذا (باتريس بافيس) يتساءل بدوره: “هل لازال من المفروض علينا التوافق حول الأدوار التي يضطلع بها النشاط الدراماتورجي، مادام أن هذه الأدوار تختلف كثيرا من بلد إلى آخر، أو من مؤسسة إلى أخرى، حد أنه صار من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت تنتمي للنشاط نفسه؟ يقوم دور الدراماتورج في ألمانيا وفرنسا، على التأويل التاريخي والسياسي للنص المسرحي، إلى جانب المخرج. وفي المملكة المتحدة، يساهم غالبا في تطوير الكتابة الدرامية، أو يشارك في الإعداد الجماعي للمسرح التوليفي. وفي بلجيكا وهولندا، غالبا ما يناط به الرقص، أو الأشكال التعبيرية المرتبطة بالفن الشكيلي. وهذا الاختلاف في التسمية يدل كذلك على البون الشاسع الموجود في الممارسة.”[8]
الـدراماتورجيات الجـديـدة والبـديلة:
إن الحديث عن تشظي الدراماتورجا في وقتنا الراهن إلى درماتورجيات جديدة وبديلة يصعب حصرها والوقوف عندها، ما يجعلنا نتساءل مع (خالد أمين): “هل كلمة (بديلة) كافية لاستيعاب هذه التلوينات الدراماتورجية الراهنة؟ وقبل هذا وذاك، هل كلمة (بديلة) تعني بالضرورة القطيعة مع ما هو سائد؟
إننا يمكن أن نفهم الدراماتورجيا البديلة على “أنها كل أنواع العروض الفرجوية الجديدة التي تنطلق من بنية مسرحية نصية/ أدبية محضة، وتتطور من حيث هي عروض وأشكال فرجوية، لفظية وغير لفظية، تختلط بالأدوات الوسائطية، والكوريغرافيا والرقص والارتجال.”[9]
ويضيف خالد أمين: “لا تعني الدراماتورجيا البديلة بالضرورة القطيعة مع ما هو سائد، لأنها لا تلغي ما سبقها. فكل الأساليب الدراماتورجيا لا تزال تتجاور وتتعايش وتقتبس من بعضها البعض.. فدراماتورجيا ما بعد الدراما لا تنعي البتة التخلي المطلق على النص الدرامي، بل فقط اعتماده كأحد مكونات دراماتورجيا الفرجة.”[10]
وهنا، يستعرض (باتريس بافيس) في دراسته حول <الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا> جملة من هاته الأساليب، منها:
المسرح التوليفي: ليس مسرحا للإبداع الجماعي، بقدر ما هو مسرح للتعاون، حيث لا يحظى فيه الدراماتورج (نظريا) بمرتبة اعتبارية أكثر من زملائه، ذلك أن كل وظائف الإبداع في العرض مفتوحة أمام الجميع، خاصة التدخل الاستراتيجي للدراماتورج. وخلافا للمسرح النص أو الفرجوي المبني على فكرة مركزية، صار لزاما على الدراماتورجيين باستمرار التكيف مع إبداعات المتعاونين الآخرين.
دراماتورجيا الممثل: أبداع هذا التعبير (يوجينيو باربا)، وحوله يتلاءم مع نمط الاشتغال الذي يختار فيه الممثل أو الممثلة غالبا وسائلهما الصوتية والحركية والنصية، بغية تجميعها شيئا فشيئا خلال الارتجالات الفردية خلال شهور عدة. إن دراماتورجيا الممثل هي أساسا وسيلة عادية في عمل الممثل، تلزمه باقتراح وسائل تم الاشتغال عليها بشكل قبلي، قابلة فيما بعد، عن طواعية، التخلي عنها لفائدة اختيارات دراماتورجية، وتطبيقات على العرض المسرحي. ومع ذلك، سيكون من الأفضل تخصيص تسمية (دراماتورجيا الممثل) للعروض المبنية على الارتجالات الصوتية أو الإيقاعية، قبل أن يتم حشوها بالنصوص أو السرود.
الدراماتورجيا ما بعد السردية: ينتمي إليها النموذجين الإبداعيين لكل من باربا أو بكيت بكل المقاييس، وهي صنافة أخرى من كل السرود، تشمل النصوص والعروض الخاصة (أو المتحررة) من كل حكاية، ومن كل السرود البعيدة عن الدراماتورجيا الكلاسيكية وكذلك المرتبطة بالملحمية البريشتية أو ما بعد البريشتية. هذا النوع من ما بعد السردي من الأكيد أنه كيس لكل شيء أكثر اتساعا من مثل نوعية ما بعد الدرامي.
الدراماتورجيا البصرية: قام بنحت هذا المفهوم (أرنتزين)Arntzen في بداية التسعينيات، هو الشائع اليوم للإشارة إلى عرض مبني على سلسلة من الصور المتلاحقة. يمكن أن يتعلق الأمر هنا بـ (مسرح الصور) عند (روبير ويلسون) في بداياته، أو في الرقص ـ المسرح، أو المسرح الموسيقي، أو المسرح الحركي، أو فن الفرجة أو كل حركة فرجوية. إن معيار الدراماتورجيا البصرية لا يتمثل في غياب النص على الخشبة، بل هو شكل سينوغرافي يكون فيه المظهر البصري مهيمنا إلى الحد الذي يفرض فيه نفسه باعتباره مكونا للخصوصية الرئيسية للتجربة الجمالية.
دراماتورجيا الرقص: تقودنا الدراماتورجيا البصرية في خط مستقيم نحو دراماتورجيا الرقص، التي تطورت كثيرا منذ (بينا بوش) ، إلى حد أنها شكلت حيزا كاملا من الفرجات المعاصرة: أي مسرح الحركة والإيماء، أو المسرح الجسدي. وتشكل دراماتورجيا الرقص التحدي الأكثر جدية بالنسبة للدراماتورجيا المسرحية الكلاسيكية، ولقراءتها وتجسيدها للنصوص.
الدراماتورجيا الركحية: إن تجربة الدراماتورجيا الركحية هي التي أنتجت دراماتورجيات بديلة يمكن استيعابها ـ وفق خالد أمين ـ على أنها كل أتواع العروض الفرجوية الجديدة التي لا تنطلق من بنية مسرحية نصية/ أدبية محضة. وهي التي تختص بالكتابة على الركح بكل ممكانته ـ كما اتجه إلى ذلك عبد المجيد الهواس ـ ذلك أن الدراماتورجيا الركحية “تبدو متمنعة حين لا تدرك إلا عبر الممارسة، وهي تتخذ معالم شتى:
أولا: كونها منفصلة عن دراماتورجيا المؤلف، حيث تنطلق الدراماتورجيا الركحية مما أغفله أرسطو، حين تجنب إيلاء الأهمية للمسرح كممارسة فرجوية. إذ تم اعتبار العرض مجرد انعكاس للأدب الدرامي دون مراعاة لأهمية التطبيقات العملية، خاصة ما يهم تقنيات اللعب، والأقنعة، ودور الكورس، وأثر الهندسة والتشكيل والموسيقى والرقص ومجمل طرق الأداء.
ثانيا، كونها تنتمي إلى حقول الفرجة بتنويعاتها، ما يحيلها على مفهوم المسرح كفرجة دون أن يحيلها على مفهوم الدراما (الأدب). فالدراماتورجيا التي تعي ممكنات المسرح يمكنها أن تنتج نصها انطلاقا من الركح بمعية الدراماتورج والمخرج والممثل والتقني.”[11]
ثالثا، تعمل الدراماتورجيا الركحية على الاستفزاز الخلاق للوسائط السمعية والمرئية.”[12]
2ـ المسـالك الجديدة لممارسة المسرح.. مســرح ما بعد الدراما
إن الحديث عن الدراماتورجيا المتشظية هو بالأساس حديث مصاحب لتجربة مسرحية تعلن تحلل نظرية الدراما إلى تشكل جماليات ما بعد الدراما، هي بالأساس تشكيلات مشهدية، لها سماتها الأسلوبية والتقنية التي تؤسس لمسرح ما بعد الدراما. وقد شكلت إشارات (هانز ـ تيس ليمان) التي جمعها في مؤلفه النقدي الموسوم بـ <مسرح ما بعد الدراما*> أفقا فريدا، يسمح لنا أن ندرك المنطق الجمالي والتأويلي للمسرح الجديد، وإلى طبيعة التلقي فيه ولعلاقاته الجديدة بين النص والعرض، مثلما يسلط الضوء على استخدام المصطلح، ويقف عند أصوله.
يشير (هانز ـ تيس ليمان) إلى أنه قد “بدأ تداول مصطلح مسرح ما بعد الدراما منذ النصف الثاني من القرن العشرين. واستخدم لأول مرة على يد الباحث والأكاديمي (أندريا فيرت) الذي كتب عام 1987 ورقة بحثية تحت عنوان <المسرح كيوتوبيا جمالية ـ تحولات المسرح في بيئة الإعلام>، واستخدم مصطلح مسرح ما بعد الدراما، لتمييز العروض المسرحية التي تراجع فيها دور اللغة في مقابل صعود العناصر المسرحية الأخرى، مثل عناصر الصوت والصورة، التي بدأت وكأنها هيمنت على العروض المسرحية، التي سادت في أوروبا منذ سبعينيات القرن الفائت.”[13]
وتقدم (كريستل فايلر) مقاربة لـ «مسرح ما بعد الدراما»، فتؤكد أن أفكار (فيرت) ستتأسس بشكل رئيسي على نماذج من أعمال من معاصريه، أمثال (روبرت ويلسون)، و(بينا باوش)، و(ريتشارد فورمن)، إلى جانب (جورج تابوري).”[14]
إن تحليل (فايلر) لأعمال هؤلاء الفنانين المذكورين*، سيؤدي بها إلى الخلاصة التالية: “أن أعمال هؤلاء، منذ سبعينيات القرن الماضي تحمل مفهوما مختلفا عن المسرح، باعتبارهم تحالفا ضمنيا مضادا للأدب الدرامي، لأنهم لم يؤسسوا أعمالهم المسرحية على نصوص درامية، بل اتبعوا منطلقا مسرحيا له قواعد مغايرة للقواعد الدرامية المعروفة والسائدة وقتها. سيغدو فن التصوير الفوتوغرافي مصدر إلهام (ويلسون)، وستحاول (باوش) تجسيد لغة الاستعارة، ويحاول كل من (تابوري) و(فورمن) محو الحدود بين المسرح والرقص.”[15]
وهنا، يتوجب علينا، أن نقف لحظة عند «ما بعد» الملحقة بـ «الدراما»؛ هي الكلمة التي لا تخرج عن إطار المناقشات الدائرة حول «الحداثة» و«الحديث» و« ما بعد الحديث»، وغيرها من المصطلحات التي يقول عنها (صبحي حديدي):”بالمستعصية على التعريف (…) والأمر يبدأ من التركيب الدلالي للمصطلح ذاته، وما يجره من التباس تلقائي حول طبيعة المحتوى الذي تدل عليه كلمة «ما بعد»: هل تعني «نتيجة» الحداثة؟ أهي «عاقبة» الحداثة؟ «ولادة» تالية ومتفرعة عن ولادة الحداثة؟ «تطور» في سياق الحداثة؟ «رفض» للحداثة؟ «بديل» عنها يجبها مثلما يجب ما قبلها؟”[16]
ويجيب خالد أمين عن ذلك بقوله: “لهذا يجب التأكيد على أن بادئة «ما بعد» لا تعني إطلاقا أن تصنيفا مرحليا يأتي بعد الدراما، أو نسيانا للماضي الدرامي، أو إلغاءه نهائيا، بقدر ما هي استيعاب وتجاوز للدراما في ذات الوقت.”[17]
وإذا كان (هانز ليمان) لم يكن هو من نحث مصطلح مسرح ما بعد الدراما، فإن “الفضل يعود إليه في جعله نسقا أرسى أسسه على جملة ملاحظات وفرضيات.”[18]
ويكمن تميز هذا المسرح في “تضمين أنواع جديدة من النصوص داخل النص المسرحي، لم تستخدم من قبل، مثل بروتوكولات الاستجواب والمراسلات والمذكرات وغيرها من الأشكال غير المرئية للنصوص، بالإضافة إلى وسائل التمثيل السينمائي والتصوير الفوتوغرافي والأفلام والتسجيلات الصوتية والمؤثرات الصوتية المأخوذة من الأفلام وصوت القراءة وصوت التلفاز، كعناصر مسرحية جديدة على خشبة المسرح، ومن ثم تحول الخطاب المسرحي إلى خطاب متعدد الوسائط.”[19]
ويكمن تميزه أيضا، من كونه “قد تحول إلى آلة ـ إذا جاز التعبير ـ يستخدمها المؤلف (المخرج) لتقديم خطابه مباشرة إلى الجمهور. وتبقى النقطة الجوهرية في تصور فيرت، هي اعتماده نموذج <المخاطبة> كبنية أساسية للدراما، والتي تحل محل المحادثة الحوارية. ولا يتم توظيف الخشبة وحدها هنا، كـ <فضاء للمخاطبة>، بل فضاء المسرح بأكمله، ويأتي ذلك بالفعل بتغيير مهم وبهيكلة واضحة، مما يظهر بوضوح ـ على سبيل المثال ـ في مسرح (روبرت ويلسون) و(ريتشارد فورمان).”[20]
ملامح مسرح ما بعـد الـدراما ومواصفـاته:
يمكن القول إن هذا المسرح:
يخضع فيه الإخراج “غالبا لعدة مبادئ متناقضة، ولم يخش من دمج أساليب مشتتة، ويقوم بعملية إلصاق لأساليب تمثيل غير متناسقة. مثل هذا التشظي جعل من المستحيل تركيز الإخراج حول مبدأ أو تقليد موحد، أو إرث لأسلوب أو لطريقة تقديم.”[21]
بدل أن يعرضا تاريخيا وشخصية، فالممثل كما المخرج، هما قائدا عمليات البناء المسرحي بأكمله، يعرضان نفسيهما وإمكانياتهما بصفتهما فنانين خاصين يؤديان عملا متكاملا.”[22]
لم تعد للكتابة المسرحية من معنى “إلا في إطار ارتباطها بالركح، وبالإخراج باعتباره امتحانا واستغلالا للممكنات النصية الكامنة أو للممارسات الخارجية التي ينعشها الممثل والمخرج وكل المتعاونين.”[23]
يتم الاعتماد فيه على «الارتجال» ، وبالبحث عن «فضاءات أخرى للعرض».
الحضور الكثيف للسرد والمونولوجات، حيث يأخذ هذا الأخير الأسبقية على الحوار، ومن هنا، “تعد مظاهر التسريد الحكائي من أهم مكونات الأسلوب ما بعد الدرامي.”[24]
إنه “مسرح يتميز ـ كما ذهبت إلى ذلك (نهاد صليحة) ـ عن عمد «بالابتكار والتجريب»، وتحَاول أشكاله المسرحية أن تراوغ كل محاولات التصنيف والتحديد دوما.”[25]
إنه مسرح ينفتح على “تعددية الوسائط الفنية والجمع بين عناصر مختلفة، صوتية وبصرية.”[26]
إنه مسرح يقبل كل الأشكال ما بعد الحداثة، ويؤسس لفلسفة التشظي والتنافر والتفكيك والتشذر.
إنه مسرح تتم الكتابة فيه بالفضاء والزمن والجسد لا بالنص.
الممثل فيه “هو مؤدّ: إنه يكاد يكون مجرد حضور للشخص بعد أن تخلص من الشخصية، فلم يعد مطلوبا منه النفاذ إلى وجدان المتفرج من خلال المحاكاة ، بل يجب عليه الخروج من التماهي.”[27]
نحو شعرية للدراما الحديثة.. ببراديغم جديد:
إذا كانت الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة، قد شهدت تغييرات عميقة على مستوى بنيات إنتاجها، بسبب تفاعل المسرحيين مع الفنون الأخرى المجاورة، فإن الوعي التام بتحولات نظرية الدراما وشعريتها إلى ما بعدها، وبفهم تشكلات البرايغمات الجديدة في المسرح لا يستقيم من دون الانتباه إلى تصورات (جان بيير سرزاك) في «شعرية الدراما الحديثة»، وما تحمله من براديغم جديد Le nouveau paradigme ، وما يتأسس عليه من مفارقات جديدة، مثل:
المفارقة الأولى: تلوث المسـرح من قبل الرواية La contamination du drame par le roman.”[28]
المفارقة الثانية: الشخصية المنقسمة Le personnage divisé [29]
المفارقة الثالثة: المسرح الرابسودي[30] Rhapsodique Théâtre أو ما يمكن ترجمته إلى العربية بـ <مسرح الرواية>
ويتحدد هذا البراديغم الجديد الذي يغير من وضع الدراما وتشكلها، انطلاقا من أنساق قام (جان بيير سرزاك) بإحصائها، منها:
“الرواية الدرامية: التي تفرض نفسها باعتبارها أول حل دراماتوجي يستطيع التوفيق بين (مضمون روائي) و(شكل درامي) على مستوى تناقضهما، وذاك من خلال استحضار شخصيات عالمة فوق الخشبة تذكرنا وجهة نظرها عن الدراما بوجهة نظر السادر.
دراما المحطات الحديثة: التي تغطي مسار الشخصية عبر تجاربها الحياتية.
الخبر الملحمي: الذي يسلط الضوء على حياة كاملة، مثل ما يفعله الصحافي حينما يقدم شهادة عن أحداث وقعت بالفعل، وذلك عبر لوحات متوالية يمكن أن يعوض بعضها الآخر.
دراماتورجيا نهاية المطاف أو عودة الأموات: التي تنحصر في النظر إلى الحياة بطريقة استذكارية في الوقت الذي تعيش خلاله الشخصية انقراضها.
دراماتورجيا الشذرة: التي تفرض نفسها كذلك، لأنها تستعمل صورة بلاغية للتحرر من الشكل القانوني للدراما وهي في حالة صيرورة صغرى، تقدم مشاهد لا نهاية لها، وإن كانت مختزلة ومفككة.”[31]
إن كل ما سبق، يسمح بإقامة “شعرية مفتوحة – سعلن حسن المنيعي ـ تدافع عن مسرح حي أطلق عليه تسمية (المسرح الرابسودي*) الذي، ينحصر في الجمع بطريقة دينامية بين أشكال تعبيرية متعددة وهجينة، وذلك عن طريق التوليف أو التشذير: أي هدم وإعادة بناء أشكال مسرحية أو خارج مسرحية مثل الرواية والقصة القصيرة والمقالة الفلسفية والرسائل والجريدة ومحكيات عن الحياة، لإنتاج عمل يتقاطع فيه الدرامي والملحمي والغنائي.”[32] إلى جانب التأثر بحقول فنية مثل السينما والتشكيل والصورة الفتوغرافية وبأدوات التواصل والوسائط الحديثة مثل الانترنيت.
3 ـ بــراديغمــات المســرح العـربي المعــاصر
انطلقت مجموعة من التجارب المسرحية العربية منذ نهاية القرن العشرين إلى طلائع الألفية الثالثة من نسج عروضها المسرحية وفق صيغ جمالية تتجاوز المسرح الدرامي الذي يتأسس على بنية الكتابة الدرامية، وتعويضه بكتابة مسرحية بديلة، تمتح من الدراماتورجيا الجديدة بمختلف تلويناتها، متأثرة بآثار الثقافة الرقمية، وتوظيف مكثف للبنى الوسائطية، والاعتماد على شاشات متعددة تبث فيها الصور والأشرطة المسجلة والمباشرة، مما خلق منعطفات أخرى في تاريخ الممارسة المسرحية.
تونس:
توفيق الجبالي في El teatro: عروض «كلام الليل» منذ 1989 إلى 1995.. ثم من كلام
الليل: لصوص بغداد إلى عرض «المجنون»
فاضل الجعايبي: من خلال تجارب من قبيل: «خمسون» و«جنـون» و«يحيا
يعيش» و«عنف» و«خوف»
لبنان:
ربيع مروة ولينا صانع: من خلال تجاربه في المسرح وفن الأداء والتجهيز مثل عرض « لكم تمنت نانسي أن كل شيء لم يكن سوى كذبة نيسان» التي سنحاول أن نتطرق إليها في هذا القسم.
سوريا:
عرض «بينما كنت أنتظر» لمحمد العطار وإخراج عمر أبو سعدة.
مصر:
تجربة المخرجة داليا بسيوني في عرض «سوليتير: من قلب ميدان التحرير»
تجربة المخرج طارق الدويري في عرض «الزومبي والخطايا العشر»
تجربة المخرجة ليلى سليمان في عرض «هوا الحرية»
العراق:
تجربة المخرج حازم كمال الدين في عرض «أورال»
تجربة الشاب مصطفى الركابي وتأليف علي الزيدي: عرض« يا رب»، التي سوف نتطرق إليها في هذا القسم.
الجزائر:
تجربة المخرج نبيل بن سكة واشتغاله الجديد على رائعة ولد عبد الرحمن كاكي: «القراب والصالحين».
المغرب:
مؤسسة الفنون الحية: من خلال تجربة فوزي بنسعيدي في «قصة حب في 12 أغنية و3 وجبات وقبلة واحدة».
تجارب يوسف الريحاني في عروض و«عدوى بيكيت» و«جزء خارج 1» و«كرسي هزاز».
دبا تياتر: تجربة جواد السوناني في عرض «حادة».
ستيلكوم: تجارب أمين ناسور في مسرحتي «نايضة» و«اللعب».
فرقة أكون للفنون والثقافات: من خلال عرضي «صولو» و«سماء بيضاء» لمحمد الحر.
فرقة عبور: من خلال عرضي «أخذ الكلمة» و«توقيع» إخراج محمود الشاهدي التي سنتطرق إليها في هذا القسم.
فرقة أنفاس: من خلال العروض التي وقعت عليها أسماء الهوري وهي: « 4,48 بسيكوز» و«دموع بالحكل»، و«ميزان الما فوق الخشبة» و«خريف».
مسرح الأصدقاء: من خلال تجربتي لطيفة أحرار في «كفرنعوم أوطو صراط» و«العازفة».
فرقة زنقة آرت: مسرحية «فـيزا» من إخراج عماد فجاج حيث اشتغال ببراديغم الخبر الملحمي والمسرح الوثائقي.
فرقة مسرح أفروديث: بقيادة المخرج والسينوغراف عبد المجيد الهواس، حيث قدمت الفرقة مجموعة من التجارب التي تشتغل بدراماتورجيا بصرية واعتمادا على الكتابة الركحية من قبيل: «Schizophreniya» و«شجر مر» و«في انتظار عطيل».
فرقة مسرح الشامات: من خلال تجارب بوسلهام الضعيف، من مسرحية «راس الحانوت» إلى «كل شيء عن أبي» التي سنتطرق إليها في هذا القسم.
فرقة دوز تمسرح من خلال تجربتي المخرج عبد الجبار خمران في «صباح ومساء» و«التابوت».
دراما المحطات ومشهدية برج المـر في «لكم تمنت نانسي » من لبنان:
تعد تجربة المخرج اللبناني ربيع مروة من بين الحساسيات الفنية الجديدة ما بعد الحرب في لبنان، ومن أهم التجارب المسرحية العربية المعاصرة، التي امتدت منذ بدايات التسعينيات من القرن العشرين، إلى طلائع الألفية الثالثة، ومازالت توقع على تجارب فنية استثنائية في عقدها الثالث؛ تجربة إبداعية تنحو منحى البحث والتجريب في محاولة جادة لولوج عتبات جديدة في المجال الفن البصري، وعبور نحو مساحات فنون الأداء؛ حيث انتهى المطاف بريع مروة إلى الاعتماد على كثافة الصورة وتقويض حركية الجسد، والميل نحو فنون الحكي والسرد في أغلب أعماله، وتقليص مساحات التمثيل، والاشتغال بالفيديو باعتباره بعدا ثالثا يشغل عمق الخشبة، ويتحكم في خطابه البصري والأدائي.
ومن بين تجاربه المسرحية الاستثنائية التي تجمع بين قوة الطرح وجرأته، ومغامرة التجريب وغوايته، التي تقع ما بين حد المسرح بأشكاله التقليدية، وعتبات الفنون البصرية والأدائية، تظل مسرحية <لكم تمنت نانسي لو أن كل شيء لم يكن سوى كذبة نيسان> من أهمها جرأة وقوة.
مشهدية برج المر في < لكم تمنت نانسي لو أن كل شيء لم يكن سوى كذبة نيسان>
يستعيد ربيع مروة في المسرحية جانبا من ذاكرة الحرب الأهلية، فيسمي الأسماء بمسمياتها، ويضع هدفا له مواجهة أشباح التاريخ، فيقدم لنا رواية تلهو بتاريخ حروب، يتجنب الكثير من اللبنانيين إعادة نسج خيوطها من 1973 إلى ما بعد اغتيال الرئيس اللبناني رفيق الحريري 14 شباط 2005.
وتعيد المسرحية تركيب ما نسميه بمشهدية (بـرج المـر) الداكنة بين أسر الملل وقيد النحل، وما خلفه ذلك من اقتتال أبناء لبنان حول عيون لبنان بمختلف الشرعيات الدينية والمذهبية والطائفية والسياسية والاجتماعية، بإيعاز من التدخل الخارجي والحسابات الاقليمية والتوازنات الدولية، حتى إن أدى الأمر إلى تواطؤ الأضداد وتحالفها. وتحكي المسرحية حكايات أربعة من المقاتلين التابعين لأربعة من المليشيات التي تُكون الأدرع العسكرية لبعض الأحزاب والطوائف، وترصد تحولاتهم من معسكر إلى آخر ومن طائفة إلى أخرى.
دراما المحطات في مشهدية برج المـر:
تندرج مسرحية < لكم تمنت نانسي > ضمن ممارسة مسرحية ما بعد درامية، يتأسس بناؤها السردي وفق براديغم جديد هو ما يسميه (جان بيير سرزاك) بـ<دراما الحياة>، انطلاقا من إحدى أنساقها المتعددة هي <دراما المحطات> التي تتأسس من خلال تغطية مسار الشخصية عبر تجاربها الحياتية، وذلك ما نلاحظه في بوح الشخصيات الأربعة (ربيع ـ لينا ـ حاتم ـ زياد)، الذين يتوقفون عند محطات بعينها في مسارات حياتهم، ومثال ذلك:
لينا: لما بلشت الحرب، أنا كنت عم ناضل في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد المشروع الطائفي وفي سبيل وطن علماني.. بعدها تقرر تشكيل ما يمسى جبهة المسيحيين الوطنيين في المنطقة الغربية.. وطلبوا مني أنا شخصيا إني استلمها.. بالأول ما هضمت الفكرة.. يعني علمانية وتقدمية وعضو بجبهة مسيحية، شوي غريبة.. بالآخر قنعوني بضرورة قيام مثل هيك جبهة لنبرهن إنو مش كل المسيحيين ضد الفلسطينيين.. بالإضافة لمصلحتنا كعلمانيين أن نكذب اللي بيقولوا إن الحرب بين إسلام ومسيحية، والدليل عاه الشي وجود جبهة للمسيحيين الوطنيين بالغربية.
زيــاد: أنا أول مرة نزلت عا بيروت كانت بآخر الـ 75.. بعد آذان الفجر، ضبيت غراضي ونزلت عا بيروت مع شابين شيوعيين من الضيعة.. وتركت رسالة لأهلي بشرح فيها أسباب مغادرتي الضيعة، وضرورة المشاركة بصنع مستقبل أفضل للبلاد.. بالأول حطوني حرس في جريدة النداء.. وبأول الـ 76 التحقت بالمعارك الدايرة بجبال صنين.. المجموعة اللي كنت فيها، مؤلفة من أربعة رفاق.. قذيفة روسية من مصدر سوري بتسقط علينا، أصاب بشظية ببطني، الرفيق نسيم حملني عاضهرو.. لكن المسافة بعيدة ومش هين المشي عالثلج.. هو تعب وأنا ما بقا فيي .. طلبت منه يتركني، تركني بعد ما وعدني أنو يرجع مع الرفاق ليسحبوني.. ما في نص ساعة، طقطقوا عظامي من البرد ومتت.
الشخــوص والحــوار:
يشير (جان بيير سرزاك) إلى كون الشخصية في المسرحية الحديثة هي شخصية (مجوقة) لأنها تشهد على الحدث وتتأمله، من خلال الاعتماد بشكل تام على <مبدأ الرابسود>، وعلى هذا النحو نجد الشخصيات الأربع في المسرحية التي تشهد على أحداث تتكرر وتعلق عليها طيلة المسرحية، من بين أمثلة ذلك:
ربيع: سنة الـ 2000 تعلن إسرائيل عن عزمها الانسحاب من الجنوب.. هيدي ما كانت أول مرة تعلن إسرائيل هالأمر.. لهيك نحنا ما أخذنا الموضوع على محمل الجد.. فجأة.. يوم الأحد 20 آيار 2000 بيبلش الجيش الإسرائيلي بترك مواقعه بالجنوب.. من دون ما يعطونا علم وخبر.. وبيبلش جيشنا يفرط.. كان مستحيل إنو نصمد من دون الجيش الإسرائيلي.. بلّشنا نسمع الأخبار عن مسؤولين من جيشنا عم يهربوا عا إسرائيل.. أنا رغم هالشي ضلّيت صامد لوقت ما عرفت إنو قائد جيش لبنان الجنوبي أنطوان لحد بذاته هرب عا إسرائيل.. هون قلت أنا خلص.. انتهى كل شيء.. يا الله ليه هيك أنا حظي؟ ليه كل مرة بيصير معي نفس الشيء المسؤولين تبعي بيهربوا وأنا بعلق وبموت.. ليه مش مرة بطلع ذكي وبهرب قبلهن.. عم بحكي مع حالي هيك.. وإذ فجأة ما بلاقي إلا وصار موقعنا تحت سيطرة حزب الله..
الأداء في المســرحية:
لم تحتاج المسرحية من الممثلين تقديم أداء مسرحي تقليدي إن صح التعبير، فقط وضعهم المخرج في وضعية واحدة من بداية المسرحية إلى نهايتها، فأقعدهم على أريكة، يظهرون فيها بشكل مزدحم، بالكاد كل ممثل يشعر بأريحيته، وربما كان هذا الأداء صورة معبرة لكل الطوائف والملل التي من الواجب عليها أن تتقاسم رقعة لبنان بكل أريحية باختلاف الأيديولوجيات لكي تعيش بسلم وسلام.
ولأن الغاية من المسرحية، تبدو من أجل تقاسم حكاية لبنان وحربها الأهلية مع الجمهور عامة، فالحوار كله كان عبارة عن مونولوجات صغيرة أو حوارات مباشرة موجهة إلى الجمهور. من ثمة، نجد كثافة الحكي والسرد منذ بداية المسرحية إلى نهايتها، ولا يتوقف الحكي إلا في لحظة صمت واحدة تمتد لثوان معدودة.
وإذا كان البوح سمة المسرحية، وفضح وكشف عورة الحرب الأهلية، فإن المخرج يعتمد على تجهيزات فنية مساعدة من مثل استعمال أربعة ميكروفونات تظهر لنا بشكل لولبي تنتهي بالقرب من وجه كل ممثل، بالتالي غياب الحركة أو موتها على الخشبة، فيقتصر الأداء على البوح والحكي والسرد، بمساعدة شاشة بيضاء تعلو رؤوس الممثلين، منقسمة إلى أربعة خانات، وكل خانة تتغير فيها العديد من الصور المرتبطة بكل ممثل وحكاياته المتعددة وقتله المتعدد في الحرب. من ثم، تشكل الخانات الأربعة للشاشة عاملا أساس في بنية الأداء التي تشكل الصورة جانبا من تحققها، وكثافة الحكي والسرد من طرف الممثلين جانب آخر باستعمال الميكروفونات التي تنتج لنا مباشرة غياب حركة الممثلين الجسدية، إلى جانب الترجمة الانجليزية المصاحبة للأداء.
البراديغم الجديد للفرجة والرؤية التراجيدية في مسرحية «يا رب» من العراق
تعد مسرحية <يا رب> من تأليف علي عبد النبي الزيدي، وإخراج الشاب مصطفى ستار الركابي، من أهم الأعمال المسرحية العربية التي أنتجت في السنوات الأخيرة. والتي خلقت جدلا كبير سواء على مستوى مضامينها الفكرية وتصوراتها الجمالية على مستوى العرض والأداء والاخراج باعتمادها على تعدد البنى الوسائطية بشكل مكثف ومتعدد..
مسرحية <يا رب>.. العرض المجازي والبارد وغير المكتمل:
أطلق على مسرحية <يا رب> كل من وصف العرض المجازي والعرض البارد، ونضيف وصفا ثالثا العرض غير المكتمل، مع الوضع في عين الاعتبار، أنه يـُعد تتمة للشريط القصير الاستهلالي والتمهيدي، حيث نتابع فيه أداء الفنان (سنان العزاوي)، ونضيف أننا يمكن أن نعتبره تكملة أخرى أو يمكن القول كتابة لسيناريو آخر لبداية الشريط السينمائي <هلا وين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي.
ويـَشْغُل العمر الافتراضي لمسرحية <يا رب> عشر دقائق مثلما مبين من خلال الكتابات التي تعرض على الشاشة الخلفية للمسرح، بينما عمره الواقعي ينقسم إلى عشرين دقيقة من خلال الشريط القصير الذي عرض عبر تقنية (Data show) في رحاب المسرح، وبعد ذلك، ينتقل الجمهور كي يتابع تتمة العرض داخل القاعة، حيث استغرق العرض المسرحي ساعة واحدة.
تحكي مسرحية <يا رب> عن أم عراقية تخترق الوادي المقدس طوى من دون نعال، نيابة عن الأمهات العراقيات المكلومات اللواتي يفقدن كل يوم أطفالهن في الحرب، قصد البحث عن الرب، للحديث إليه أولا، ثم لتقديم الشكوى ثانيا، وربما، ثالثا حتى لإعلان الاضراب عن الصلاة والصوم، إن لم يتدخل بقدرته الإلهية التي من شأنها أن تغير كل شيء، وهو الذي يقول كن فيكون. وذلك ما نسمع في بداية العرض المسرحي:
الأم: جئت إليك يا رب وفي قلبي ألف دمعة وعتاب (…) لقد خلعت نعليَّ كما ترى، وجئت الى واديِك المقدس طِوى، وأعرف بأنك ستتكلم معي (…) هذه تواقيع الأمهات، لم أزوّر توقيعا واحدا. سأقول الآن شيئا مهما: باسمي وباسم كل الأمهات، سنعطيك مهلةً يا رب، أربعةٌ وعشرون ساعة حتى تقل للشيء كن فيكون أو نعلنُ اضرابنا جميعا عن الصلاة والصيام (…)
البٌنى الوسائطية واشتغالاتها في مسرحية <يا رب>:
يغترف العرض المسرحي <يا رب> من أجناس كثيرة سواء السرد أو السينما، وتتداخل فيه هذه الأجناس، ولكن يبقى ضمن نسق مسرحي، سواء داخل العرض الحي أو خارجه، فهو ليس وصفة تبدأ برفع الستار وتنتهي بإنزاله، بل هي طريقة خاصة بد تبدأ بالعرض المجازي الذي سيكون عبارة عن مجموعة هوامش يتلقاها الجمهور عن طريق تقنية الفيديو ثم العرض الحي. مدافعا في الوقت ذاته عن رؤيته المسرحية التي تؤسس لما قبل العرض بشهر أو بأيام.
وإذا كان المخرج قد اعتمد على بث شريط مسجل في رحاب المسرح مدته عشرين دقيقة، قبل أن يلج المشاهد قاعة العرض ليتابع العرض، فإن هذا العرض نفسه، اعتمد على بنى وسائطية أخرى لها طرق أخرى في الاشتغال والاستعمال، ونرصد جانبا من تحققها:
يدخل المشاهد إلى رحاب المسرح، فيبدأ الشريط بصوت آلة كاتبة ومعها النص الآتي:
“عمر هذا العرض عشرة أعوام تقريبا، قدم للمرة الأولى عام 2016، واستمر إلى يومنا هذا.”
من ثم، تظهر وظيفة هذه البنية بالذات، حيث تحدد لنا مسبقا، الوعي بعمر العرض، ونحن نشاهده، في عشر سنوات، أي أننا الآن لا نتابعه في سنة 2016 أو سنة 2017 بل في سنة 2026، مما يكشف أن المخرج الشاب يلعب بشكل دقيق على وتر الزمن، ويفترض أن كل ما حدث هو شيء مستقبلي يحدث وسيحدث في فعل واحد يتكرر دوما وسيتكرر مستقبلا، لا شيء تغير أو سيتغير، ستظل الأمهات تفقدن أطفالهن في عز الحرب المستعيرة والمستمرة، وتنتظر الحتمية الإلهية أو القدر أو المتعالي بصفة عامة أن يتدخل من دون وسيط ولا نبي جديد.
يظهر لنا الممثل (سنان العزاوي) جالسا على كرسي، وحوله مجموعة من الكراسي المبعثرة والمتفرقة، وفي كل لحظة يظهر لنا كلا من الممثل ‘فلاح إبراهيم) والممثلة (سها سالم). وأولى كلمات الممثل تحدد لنا اللحظة والتاريخ، ويعمل على توجيه تلقي المشاهد أو من سيتابع العرض المسرحي، فيقول:
“03H45mn فجرا، اليوم 26 من شهر 4، من سنة 2026، بغداد يعمها السكون، افترض نفسك أنت داخل القاعة، محصورا بالكرسي حصرا، وما حد وياك يشاهد العرض، بس أنت . العرض اسمه .. اسمه <يا رب>، العرض فيه امرأة ورجل بس، وأنت شايف هذا العرض 141 مرة، وتعرف كل تسلسل الأحداث، المرأة مثلتها سها سالم، بس سها 2026 (…) ورجل مثله فلاح إبراهيم، بس فلاح 2026. افترض أنت تعرف كل مشاهد المسرحية وحافظها (…)”.
بعد انتهاء الشريط، نلج لقاعة المسرح، ظلام يعم الخشبة والصالة، ونتلقى عبر الراديو أو التلفاز أو صوت مسجل تراتيل آيات من القران، من سورة (ق) من الآية 16 إلى الآية 22:
“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴿16﴾ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿17﴾ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿18﴾ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿19﴾ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿20﴾ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴿21﴾ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴿22﴾.”
تظهر الكتابة من جديد على الشاشة الخلفية للمسرح، تخبرنا:
“طول هذا العرض دقائق فقط، لكل دقيقة هناك هامش ستعتر عليه داخل القرص. زمن الحدث الحقيقي لا يتجاوز بضع ثوان. لذلك يقوم العرض على تمطيط بعض التفاصيل لتكون واضحة. أثاث العرض حقيقي بكل تفاصيله، مصنوع من خشب الزان، صنع خصيصا لهذا العرض. المشهد الاستهلالي للعرض يشبه تماما استهلال فيلم <هلا لوين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي.”
ولكي نعلق على هذه الكتابة، كان لازما أن نؤكد بالفعل أن المخرج الشاب مصطفى ستار الركاب، قد غير من وضع مشاهد للعرض أو بناء لوحات خاصة به تحمل أسماء معينة، بقدر ما كانت كل لحظات العرض باسم الدقيقة تكتب على شاشة العرض، من الدقيقة الأولى إلى الدقيقة الثامنة. وحينما يؤكد أن المشهد الاستهلالي للعرض يشبه استهلال فيلم <هلا لوين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، فإننا بالفعل، نتابع في اللقطة الموالية بداية شريط <هلا لوين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي.
نتابع بداية فيلم <هلا لوين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، حيث نشاهد مجموعة من النسوة اللواتي يشكلن جوقة تتقدم إلى الأمام في رقص متناغم، يقتحمن مقبرة، فتتجه كل واحدة إلى قبر ما، فتضعن الورد عليه. ومن ثم، يمكن القول إن وظيفة هذه البنية الوسائطية، كانت من أجل كتابة تاريخ آخر أو سيناريو جديد لفيلم <هلا لوين> للمخرجة اللبنانية نادين لبكي.
الـروايــة الدرامـية فــي مسـرحية: «كـل شـيء عـن أبـي» من المغرب
الرواية الدرامية: عبور الجنس الروائي نحو الشكل المشهدي.. دراما الحياة:
تشكل مسرحية «كـل شـيء عـن أبـي» لفرقة الشامات من المغرب، إحدى الأعمال المسرحية المهمة في السنوات الأخيرة، باعتمادها كليا فنون الحكي والسـرد، وهي من اقتباس وإخراج (بوسلهام الضعيف) عن رواية «بعيدا عن الضوضاء وقريبا من السكات» للكاتب الروائي (محمد برادة).
إن هذا «البراديغم الجديد: دراما الحياة»، يظهر في المسـرحية، فما يسميه (جان بيير سارزاك) بـ «الرواية الدرامية» التي تفرض نفسها باعتبارها أول حل دراماتورجي يستطيع التوفيق بين (مضمون روائي) و(شكل درامي) على مستوى تناقضهما، وذلك من خلال استحضار شخصيات عالمة فوق الخشبة تذكرنا وجهة نظرها الخارجة عن الدراما بوجهة نظر السارد، أو «دراماتورجيا المحطات» الحديثة التي تغطي مسار الشخصية عبر تجاربها الحياتية، نجدها مؤسسة للإخراج في مسـرحية «كل شيء عن أبي»، وبارزة في مسارات حياة كل الشخصيات في المسـرحية.
ومن بين السمات المميزة للحوارات التي اعتمد عليها (بوسلهام الضعيف) في المسـرحية، أي ما اكتفى بنقله من الرواية وما أعاد تدوينه من جديد، ما نجد في المشهد الثالث، من ذلك الحوار الممزوج باللغة السينمائية مع الاعتماد على مقاطع من الرواية، ونجدها على لسان كل من الممثلتين (زينب الناجم) و(وسيلة صبحي)، وينتهي المشهد بصوت مسجل توثيقي للوزير:
ـ المشهد الثالث:
ـ داخلي، خارجي، نهار، الليل، المغرب: 2 مارس عام 1956.. المغاربة فرحانين.
* الملك خطب، وكال ليهم: خرجنا من الجهاد الأصغر، ودخلنا للجهاد الأكبر
– المقاومة مابغاوش يحطو السلاح..
* عنهم الصح، البلاد خصها تحرر كاملة، نكملوا تأل الدزاير
– الاستقلال .. الاستقلال..
* المغرب ولا اتولي كبير..
– وخطب وزير الاقتصاد وكال للمغاربة :
* المغاربة، كولو الحوت.. راه عندنا الحوت.. بارك عليكم من اللحم… وا الحوت المغاربة، كولو الحوت، راه عندنا جوج بحور.
إلى جانب ذلك، نجد الاعتماد على (المونولوغ) بكثافة وبخاصة في المستوى السـردي الخاص بـ (نبيهة سمعان) في المشهد السابع، انطلاقا من صوتها المسجل باللغة العربية الفصحى:
المشهد السابع:
نبيهة سمعان: على رغم تشبعي بنظريات فرويد والإضافات التي اغتنت بها على يد محللين لاحقين، خاصة لكان (Lacan) فإنني كنت أتابع الانتقادات التي توجه إلى التحليل النفساني من لدن مجموعة علماء نفس غير مقتنعين بعملية هذه النظريات ولا بنجاعتها. ومع ذلك، أظل مقتنعة بأهمية النافذة التي فتحها على مناطق مجهولة من تكوين سلوك البشر: عقدة أوديب.. تأويل الأحلام.. مجموعة مناطق مسكوت عنها تسلل إليها فرويد ليكشف الغطاء عن الإنسان المتواري الذي طالما طمست حقيقته وسط أمواج من التعاليم الدينية والأفكار المثالية (…)
عبـور نحـو الـدراماتورجيــا البصـرية في مسرحية «توقيع» من المغرب
ترسم تجارب فرقة <عبور> من المغرب الوجه الآخر من الحساسية الجديدة بالمغرب، حيث قدمت الفرقة بقيادة كل من المؤلف والدراماتورج عصام اليوسفي والمخرج الشاب محمود الشاهدي تجربة مسرحية مهمة هي «تــوقيــع». وتتميز بالاشتغال على إدراج الحكي والسرد والمونولوج، والاعتماد على جمالية العرض من حيث الصورة والإضاءة والتركيب في الفضاء والتشخيص، والاشتغال بكثافة على التكنولوجية من خلال تقنيات الفيديو سواء بإدراج لقطات مسجلة أو من خلال البث المباشر للصوت والصور الثابتة وتوظيف الشريط الوثائقي والسينمائي.
الحكــايــة في المســرحية
تحكي المسرحية عن سقوط رجل الأعمال، ورئيس حزب المؤتمر الوطني، والرجل الوطني حمزة الكامل، واعتقاله بسبب قضية انهيار عمارة، وأيضا بشكل غير معلن، بسبب تصريحات سياسية لجرائد دولية تهم قضايا الفساد المستشري في البلاد، وحول صفقات مشبوهة تخص عملية الصيد في أعالي البحار، وعلاقاتها بالمؤسسة العسكرية. وبعد محاولات (جادة) من أجل إطلاق سراحه، يتوجب على حمزة الكامل، التوقيع على رسالة اعتذار من المؤسسة العسكرية كي يتم إخلاء سبيله، وهو ما يحدث في آخر المسرحية، حيث يوقع على الرسالة، فيقدم استقالته من الحزب ثم يغادر البلاد.
الاختيارات الجمالية والفنية في مسرحية <تــوقيع>
تتعدد الاختيارات الجمالية والفنية في مسرحية <تــوقيع>، سواء في أسلوب الكتابة عند عصام اليوسفي أو الرؤية الإخراجية التي تبناها محمود الشاهدي أو التصور السينوغرافي الذي اشتغل عليه على التوالي محمد الشاهدي وحمزة مهادية، ونرصدها فيما يلي:
شعرية مفتوحة، وعرض عن طريق مشاهد قصيرة ومنفصلة متفرقة، تكاد تشبه ما نراه في الأفلام السينمائية. وفيها الحكاية لها طبيعة تشذيرية ومجزأة. وتفسح المجال في المسرحية للتعليق.
الرؤية الاخراجية والتصور السينوغرافي، تفتح أفقا آخر للبنية الدرامية للنص، من خلال الاعتماد على دمج الصور بتقنيات المابنغ فيديو، والأصوات المسجلة، وبث مقاطع فيديو مسجلة وأخرى حية.
الاعتماد في تشكيل الفضاء السينوغرافي على جدلية الامتلاء والفراغ والتركيب والتفكيك، بالتحول المستمر من فضاءات البيت إلى السجن، ومن تغيير وضعية الكراسي إلى تشكيل شاشتين الأولى في أقصى يمين الخشبة والثانية في أقصى اليسار حيث يتم بث مقاطع فيدية مسجلة من شريط وثائقي أو صور أو تسجيل حي ومباشر.
إلى جانب الاعتماد على مقتطفات من الشريط الوثائقي نظرة على المغرب من السماء «Le Maroc vu du ciel»، من إخراج يان أرتور بيرتران 2017.
خــاتمــة:
ظل المسرح عبر محطاته الدرامية الكبرى عنوانا للتحرير وللتجديد، وللبحث عن أشكال مغايرة متجددة تستجيب لرؤية العالم والحياة والمسرح.. لقد أدرك المسرح ـ كما قال بافيس ـ قدراته، فابتدع الدراماتورجيا التي اخترقت التاريخ الطويل لهذا الفن، وساهمت في ما بعد صوت ليسينغ من أن تخط في جدار المسرح منعطفات جمالية حاسمة، وأسست أيضا للحظات القطيعة التي عرفها في القرن العشرين، حيث عرفت الدراما تحللا، قبل أن تعيد التشكل في آخر الصيحات التي أطلقتها و(هانس ليمان) (إريكا فيتشر) و(كريستل فايلر) و(مارفين كارلسون) وآخرين في ما بات يعرف بمسرح (بعد الدراما)؛ وأسست لتحولات الكتابة الدرامية منذ صورها في الدراماتورجيا الكلاسكية ، وامتدادها وتحولاتها الحديثة، قبل أن تعيد النظر في آليات الكتابة المسرحية وطرق الأداء وفن الإخراج ووظائف الدراماتورج في أفق ما بات يعرف بالدراماتورجيا البديلة أو الجديدة.
إن التجربة المسرحية العربية، أطلقت بدورها صيحات تؤكد من خلالها وعبر منجزها المسرحي، بأنها تبدع على منوال نظريتها الغربية أشكال جمالية وفنون أدائية لها ملامح وتلوينات من مسرح ما بعد الدراما ومواصفاته.
والمتابع لكل الأوراق البحثية التي قدمها (ليمان)، سيجد أن الوصول لهذه الخلاصات الجديدة، كان معتمدا على نماذج من أعمال(روبرت ويلسون) في العديد من أعماله مثل: عرض « 1914 »، و «Adam’s Passion ». و(بينا باوش) في مسرحها الراقص: من عرض «مقهى مولر» سنة 1978، إلى «قمر مكتمل» 2006. و(ريتشارد فورمان) في عـروض مثل ««Lava سنة 1989. وتجارب (روبرت لوباج) التي تحضر فيها الوسائطية بشكل مكثف عبر تعدد الشاشات والبث المباشر، والصور الشفافة والثابتة من خلال عروضه في: عرض «887 » وعرض « L’Amour de Loin» والعرض الأخير « Kanata» بشراكة مع مسرح الشمس، سنة 2019 بفرنسا وكندا. هذا بالإضافة إلى تجارب أخرى في «فن الأداء»، ونخص بالذكر، التجارب التي قدمتها اليوغوسلافية (مارينا إبراهموفيتش): عرض «شفاه توماس» سنة 1975، إلى جانب سلسلة عروض (روميو كاستلوتشي) التي تبحث عن فضاءات أخرى للعرض.
وبذلك، اتجهت مجموعة من التجارب المسرحية العربية في طلائع الألفية الثالثة إلى اعتماد شعرية مفتوحة، تنفتح بدورها على درماتورجيات ركحية وبصرية في تحققاتها، من بينها التجارب المسرحية التي قمنا بالإشارة إليها. وكشفنا عن طريقة اشتغال البراديغم في بنائها، وووقفنا عند تحققات البنى الوسائطية فيها، ورصدنا كتاباتها التي تعتمد الكتابة الشذرية، وآليات التشظي والتفكيك في بنائها، واختياراتها في طريقة اعتماد الاستطراد والحكي والسرد، أو في اعتمادها على ما يسميه (جان بير سارزاك) بـ «الرواية الدرامية»، من خلال العمل على عبور «الجنس الروائي» نحو «الشكل المشهدي»، إلى جانب المفارقات التي تؤسس للشعرية المفتوحة، التي تحدث عنها من خلال: تلوث المسـرح من قبل الرواية والشخصية المنقسمة والرابسودي.
وإذا كان «مسرح ما بعد الدراما» قد كشف عن جانب من أسس ومنطلقاته، فإن تجلياته الدرامية، في تنوع أساليبها وأنساقها الجمالية، تظل مفتوحة على المستقبل، ما زالت تعيش مرحلة شبابية، هناك، في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، ومرحلة الطفولة المشاغبة هنا في العالم العربي عامة. إلا أنه يبقى من الواجب أن ننصت إلى نبض هذه التجارب الجديدة، التي تسعى إلى إنتاج دراما غير مضطرة لأن تبني حساباتها على إيمان المشاهد بها، أو أن تكون متوقفة عليه، وبالتالي فإنها تتجه إلى البحث عن هذا البديل أو الجديد للتعبير. ومن ثم، فإنها تكشف عن نفسها بوصفها «حساسيات جديدة»؛ تحضر فيها الجوانب الشكلية، وتغيب عن بعضها التصورات الفكرية والفلسفية التي خرجت من رحمها.
المراجع:
– إيريكا فيشر ليتشه: جماليات الأداء، ترجمة مروة مهدي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، سنة 2012، ص 31 ـ 32. [1]
ـ إيريكا فيشر ليتشه: جماليات الأداء، ص 39. [2]
ـ هانز ـ تيس ليمان: مسرح ما بعد الدراما، ترجمة مروة مهدي عبيدو، منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر، الدورة 25، ص 12.[3]
ـ ينظر تقديم كتاب “الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا لباتريس بافيس، ترجمة وتقديم سعيد كريمي وخالد أمين، ص 8.[4]
ـ محمد سيف، خالد أمين: دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج، طنجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط 1، سنة 2014، ص 11.[5]
*تشير ماري الياس وحنان قصاب حسن في (المعجم المسرحي)، إلى هذه التسمية كانت تطلق على من يؤلف الدراما. فيما بعد، ومع انتشار المدلول الألماني لكلمة دراماتورجية، تطور المعنى ودخل عليه مدلول جديد إذ شمل، إضافة إلى المعنى الأول، الشخص الذي يهتم بالعرض المسرحي، وغالبا ما يكون مرتبطا بمخرج أو بفرقة أو بمؤسسة. ويعتبر الكاتب الألماني غوتولد لسنغ (1729 ـ 1781) أول دراماتورج بالمعنى الحديث لأنه فتح الباب أمام تصور جديد للعملية المسرحية على الصعيد العملي من خلال ربطها بخصوصية الجمهور الذي تتوجه إليه. كذلك فإن المسرحي الألماني براولد بريشت (1898 ـ 1956) كان أول من طبق مفهوم الدراماتورجية فعليا في تحليله للنص مع الممثل وفي إعداد الكلاسيكيات للمسرح. وقد أوصل بريشت الدراماتورج إلى أهميته القصوى لأنه جعله أهم من الكاتب ومن المخرج. (ص 204)
ـ بافيس، باتريس: الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا، ص 23.[6]
ـ محمد سيف، خالد أمين: دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج، ص 12.[7]
ـ بافيس، باتريس: الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا، ص 26. [8]
ـ محمد سيف، خالد أمين: دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج، ص25. [9]
ـ عبد المجيد، الهواس: الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته، مجلة (الدراماتورجيا الركحية)، مجلة دراسات الفرجة، ع 8، نونبر 2018، ص 23.[11]
*نشر (هانز ـ تيس ليمان) أطروحته التنظيرية في كتاب <مسرح ما بعد الدراما>، ونشر في طبعته الأولى باللغة الألمانية عام 1999، ثم ترجم إلى الفرنسية عام 2002، واليابانية عام 2002، ثم السلوفانية عام 2003، وإلى الكرواتية في العام نفسه، وفي عام 2004 ترجم إلى البولندية، ثم الفارسية عام 2005، ثم نشر بالإنجليزية عام 2006 في العام نفسه ظهور طبعته الثالثة باللغة الألمانية. وتم إعداده وترجمته إلى الإيطالية والإسبانية والبرتغالية بعد ذلك. وتعود أهميته إلى أنه يعتبر ـ كما تشير مروة مهدي عبيدو ـ الدراسة الأولى الرائدة حول أشكال المسرح الجديد، كما أنه المرجع الرئيسي في مناقشات المسرح المعاصر على المستوى الدولي. ويعتبر أحد أهم الكتب التي ظهرت في العقود الأخيرة داخل المجال النقدي والأكاديمي، كما أنه من أكثرها إثارة للجدل. (ينظر تقديم كتاب<مسرح ما بعد الدراما>، ترجمة دة مروة مهدي عبيدو، منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر، سنة 2018، ص 12.
ـ هانز، تيس ليمان: مسرح ما بعد الدراما، ص 11.[13]
ـ كريستل فايلر: مسرح ما بعد الدراما، (مؤلف جماعي)، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، طنجة، ط 1، سنة 2012، ص 7. [14]
* يضع ليمان قائمة من الأسماء التي تندرج في إطار مسرح ما بعد الدراما مثل (جين فابر) و(جين لاورس) و(هاينر جوبلز) و(اينار شليف) و( يورجن مانتاي) و(كلاوس ميشائيل جروبر) و(بيتر بروك) و(و(روبرت لاباج) و(تاديوس كانتور) و(اوجينو باربا) وغيرهم (ينظر<مسرح ما بعد الدراما>، ترجمة مروة مهدي عبيدو، ص 33 ـ 34).
ـ كريستل فايلر: مسرح ما بعد الدراما، ص 7 ـ 8. [15]
2ـ صبحي، صبحي حديدي: ما بعد الحداثة: إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، سنة 2007،
ص 57 ـ 58.
3ـ خالد أمين: المسرح العربي بين الدراماتورجيا الركحية وأسئلة “ما بعد الدراما” (مؤلف جماعي)، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، ص 84.
ـ باتريس، بافيس: تأملات في مسرح ما بعد الدراما، ترجمة المبارك الغروسي، مجلة دراسات الفرجة، عدد 3، سنة 2016، ص 88.[18]
ـ هانز ـ تيس ليمان: مسرح ما بعد الدراما، ص 12.[19]
ـ باتريس، بافيس: معجم المسرح، ترجمة ميشال ف. خطار، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط 1، سنة 2015، ص 410. [21]
ـ المرجع نفسه، ص 410 ـ 411. [22]
ـ باتريس، بافيس: تأملات في مسرح ما بعد الدراما، ص 93.[23]
6ـ أنظر تقديم <المنعطف السردي في المسرح ـ عودة فنون الحكي> ـ تحرير خالد أمين وحسن يوسفي، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، رقم 43، ط 1، سنة 2016، ص 21.
ـ أنظر مقدمة: ما بعد الحداثية والفنون الأدائية لـ (نك كاي)، وترجمة نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، سنة 1999. [25]
1ـ نك، كاي: ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ترجمة نهاد صليحة، المرجع نفسه، ص 12.
ـ باتريس، بافيس: تأملات في مسرح ما بعد الدراما، ص 91.[27]
[28]– Sarrazac, Jean-Pierre: théâtre du moi, théâtres du monde, éditions médianes, 1995, P 23.
[29] -Ibid, P 30.
[30]– Ibid, P 34.
[31]– Jean-Pierre, Sarrazac : Poetique Du Drame Moderne, Paris, éditions du Seuil, 2012, P109.
*المسرح الرابسودي ويمكن ترجمته ـ حسب حسن المنيعي ـ إلى العربية بـ (مسرح الراوية)، لأن الرابسود هو مصطلح إغريقي كان يطلق على الرواة الذين كانوا يتنقلون بين المدن لتقديم قصائد شعرية أو مقاطع من الاليادة والاديسا. ويشير حسن المنيعي إلى أن الحدة الرابسودية أو الشكل الرابسودي هو الذي ينبثق من فقدان الوحدة الدرامية، والرغبة في ردم الشكل وتفكيكه، وإعادة ابتكاره بطريقة مستمرة (ينظر <شعرية الدراما المعاصرة>، ص 37.
ـ حسن، المنيعي: شعرية الدراما المعاصرة، (إعداد وترجمة)، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، ط 1، سنة 2017، ص 18.[32]