أكد السويسري (فيرننانددو سوسير) على ضرورة دراسة العلامة اجتماعيا، لأن العلامة تكتسب وظيفتها ومعناها من خلال صيرورتها وتناميها داخل المجتمع . فكل المجتمعات لها علاماتها الخاصة، او بمعنى اخر صنع الكثير من علاماتها الخاصة ، والتي لايمكن ان تجد لها معنى وظيفي في مجتمعات اخرى، إلا ان هناك الكثير من العلامات اللفظية والبصرية والاشارية وجدت طريقها الوظيفي داخل مجتمعات متعددة حتى اصبحت ايقونات ليس في ثقافتها الحاضنة فقط ، بل داخل مجتمعات اخرى ، رحلت اليها العلامة، مثل الاشارات الضوئية ودلالة كل لون ، وكذلك الماركات التجارية، وهذه تسمى بالعلامات الكونية بحكم معرفة دلالاتها داخل الثقافات الاخرى. وداخل الثقافة / المجتمع الواحدة هناك علامات تكتسب وظيفتها الاشتغالية ضمن الفترة الزمنية التي ولدت فيها ، وقد تعيش او تموت ضمن جيلها/ فترتها الزمنية، وهذه نسميها بالعلامات (الجيلية)، حيث تنمو وتموت ضمن الفترة الزمنية التي ولدت فيها ، ولا ترحل إلى جيل آخر، والعكس ايضا صحيح فهناك علامات ترحل من جيل الى جيل وهذه نسميها بالعلامات (الترحيلية). مثل الازياء والمفردات اللفظية وقصات الشعر والموسيقى ، بل حتى الديكورات واسماء الولادات الحديثة والخ.. ونجد بان مفردة (الفرهود) والتي اقترنت بنهب ممتلكات اليهود في الخمسينيات رحلت الى اجيال لاحقة ، والتصقت بكل عملية سرقة ونهب، ولكنها ماتت تداوليا بعد 2003، حيث شاعت كلمة (حواسم) رغم انها تحمل ذات الدلالة الاجتماعية ، لكن الجيل الجديد تداول مفردة الحواسمالتي اطلقت على الحرب ، ورغم مرور اكثر من 17 عام لكن ظلت المفردة مقترنه بالاشخاص الذين اغتنوا بطرق غير شرعية بعد عام 2003. وهناك علامات عقائدية صنعها المجتمع واخذت بالتداول كما الحال في (التراكتور) الذي انتشر صوره على وسائل التواصل الاجتماعي ، بوصفه صاحب (كرامات) و وشح بأدعية الخلاص من قبل البسطاء، وكذلك (عمود الكهرباء)، وهناك الشجرة التي تبكي دما عند مدخل مقام (السيد ادريس بالكرادة)، رغم انها تفرز صمغها الاحمر ، لكن بالنسبة للكثيرين دما، وغيرها الكثير، و هناك مقاربة ثقافية للشجرة في الكثير من الثقافات، وان اختلف مدلولها الاجتماعي، حيث تعلق على الاشجار بما يشبه تعليق الاماني، كما في التيبتو جورجيا في الطريق المؤدي إلى الحدود الروسية ، حيث في اعلى الجبل توجد الكثير من الاشجار محملة بأشرطة الاماني وبالوان مختلفة.
اذا نحن امام نوعين من العلامات الثقافية يصنعها المجتمع ، عبر تداولها و وظيفتها الاجتماعية، وهما الجيلية والترحيلية، الأولى يصنعها جيل وتحمل سماته ومفرداته وبالتالي علاماته، والترحيلية هي العلامات المرحلة من جيل إلى جيل نتيجة الممارسة الاجتماعية ومن ثم رسوخها عبر انتقالها جيليا، ونعني بذلك صنع العلامة داخل الثقافة والمجتمع كما في علامة (اقفال الحب) والتي ظهرت في المانيا وبالتحديد في مدينة كولونيا ، ولاسيما على جسر ( Hohenzollernbruecke ) ،ويعتبر جسر محطة كولون من أهم جسور العالم بسبب مرور 1200 قطار عليه يوميا، بالاتجاهين، عبر ضفتي الراين. وهو أهم معبر ألماني للسكة الحديد باتجاه غرب ألمانيا حيث فرنسا وهولندا وبلجيكا ومن ثم بريطانيا. يبلغ طوله 686.6 متر وهناك 4 خطوط للسكك على الجسر تسمح بمرور 4 قطارات عليه كل مرة.يطلق عليه الاهالي بـ ( جسر المحبة )حيث تحافظ الفتيات فيه على محبتهم عبر وضع قفل تكتب الفتاة عليه اسم من تحب ! وتقفله فوق الجسر وترمي مفتاح القفل في مياه النهر ! ولهذه العادة المنتشرة بين ابناء المنطقة قصة عشق مشهورة تشبه الاسطورة بين فتاة اسمها Nada وشاب اسمه Relja تعود لمطلع الحرب العالمية الاولى حيث غادر عشيق الفتاة الى اليونان للقتال هناك ووقع في غرام فتاة يونانية الامر الذي حطم قلب العاشقة الصربية التي بقيت تنتظر بلا فائدة عودة فارسها Relja الذي ذهب بلا رجعة والتي بقيت محافظة على حبها له حتى اصابها المرض واودى بها مع مرور الزمن وجعل منها اسطورة عشق صربية . ومن قصة الحب البائس التي انتشرت في المنطقة بدات تظهر الاقفال التي ترمز للحفاظ على العهد بين المحبين بعد ان يكتبوا اسمائهم على قفل ويضعونهم فوق الجسر الصغير الذي ترونه في الصورة باعتباره المكان الذ كان يلتقي فيه العاشقين اللذين افترقا و لم يلتقيا بعد ذلك فرق بينهما الموت ومع مرور الزمن تكاثرت قصص الحب وبالتالي الاقفال حتى تشكلت مع مرور الزمن غابة من الاقفال التي ينبغي ان تربط بسلسلة تمتد على طول الجسر، و يمكن رؤية العديد بل الألاف من أقفال الحب هناك.و انتشرت إلى باقي المدن الألمانية، ومن ثم انتقلت إلى باقي المدن الأوربية، وظهرت أقفال الحب” على جسر الفنون في باريس عام 2008، فعندما يقع اثنان في الغرام يقومان بإغلاق قفل ذهبي اللون على سور أحد الجسور أملاً في الاحتفاظ بعلاقتهما للأبد. لكن ما يبدو أنه عمل رومانسي ربما يقدم عليه عدد قليل من الناس، تحول إلى ظاهرة أصبحت تمتد على كل جسور باريس على نهر السين، وصولاً لجسر ليوبولد سيدار سنكور الضيق قبالة متحف أورسي وجسر سيمون دو بوفوار قبالة مكتبة فرنسوا ميتران.علما بان علامة اقفال الحب اخذت بالتداول/ الانتشار في الكثير من البلدان الاوربية ، وحتى وصلت في بعض البلدان العربية ومنها العراق وبالتحديد في مدينة الناصرية ، حيث اخذ العشاق تعليق اقفالهم على جسر الحضارة.
بينما نجد ذات العلامة في المنطقة العربية والاسلامية ولكن بقصدية مغايرة وأن كانت تتفق بالمطلق مع فعل فتح القفل، كما في المغرب عند ضريح مولاي بوشتي الخمار في تاونات وكذلك ضريح سيدي بو القنادل، وغيرها الكثير ، و في العراق، ويذكر عبد الكريم السعيدي بأن الزائرون يربطون” ولاسيما النساء منهم، الخيوط والأقفال بمختلف الأحجام والأشكال حول مفاصل شبابيك أضرحة الأولياء والصالحين والأئمة وهم كثيرون، وفي معظم الأحيان لا تمتلك الجهة المسئولة فنيا عن الشباك مفاتيحا لفتحها، ربما بسبب ضياعها أو تعمد الزائر عدم ربطها مع القفل، لذلك يصعب التخلص منها لاحقاً، وقد تضطر الجهة المسئولة عن عمليات فتحة الشباك وإدامته كما هو شأن العتبة العباسية (وهي الجهة المشرفة على ضريح الإمام العباس بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهما) إلى كسر القفل بواسطة مقص حديدي، ذلك لأن ثقافتنا لديها فوبيا من الأقفال وهي تدعو إلى إبقاء الاقفال مشرعة، لأن ذلك بمنزلة فك النحس ورفع الغمة، ومن ثم فإن صاحب القفل سوف يفرح عندما يأتي مرة ثانية ويرى قفله وقد فكت قيوده”، وبالتالي أصبحت ثقافة الأقفال جيليةوترحيلية ففي الثقافة الأوربية صنعها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتقلت إلى الأجيال الأخرى وثقافات متشابهة أيضا، بينما ترحيلية وعقائدية ارتبطت بالموروث العربي الاسلامي حسب رسوخها وتداولها الاجتماعي داخل الثقافة ، وترتبط بأمنية الرابط ، علامة ثقافية يصنعها المجتمع نتيجة التداول والممارسة. وبالتالي ترتبط العلامة بمدلولاتها الاجتماعية نتيجة التداول والوظيفية والاهم من كل ذلك ، المجتمع يصنع علاماته نتيجة الحاجة والظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبحكم التداول تصبح ايقونات داخل المجتمع، حالها حال الاشارات الضوئية والعلامات المرورية.
الكاتب على جسر Hohenzollernbruecke في مدينة كولون الألمانية، يبدو طول الجسر وامتداد الأقفال، والأخرى توضح ألوان الأقفال.