مقال عمره تسع سنوات، أرسلته للنشر بإحدى الصحف وقتها إلا أنها أجلت نشره بزعم أنها سبق وأن نشرت عن العرض، لم ألتفت لهذا الرد الغير منصف للعرض، ولم أشأ تذكير الجريدة به ثانية حيث كنت أزعم نشره في كتاب خصصته لعروض مسرح الطفل، إلا أن الظروف لم تتح نشره حتى الآن، لذا قررت أنتصر لهذا العرض بنشره هنا مؤقتاً انصافاً لكل من مخرجه ومؤلفه .. وقد كتبت هذا المقال بعد مشاهدتي عرضه الأول في يونيو 2011 على مسرح قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتي، حيث كان للعرض فيما بعد صولات وجولات بمهرجانات محلية وعربية، وقد حصد جوائز ؛ عرض اول، إخراج أول، أشعار أول، تأليف ثاني، ألحان ثاني في مهرجان فرق الطفل بالهيئة العامة لقصور الثقافة، كما شارك في المهرجان العربي الامازيغي بمدينة الجديدة بالمغرب وحصل على أفضل عرض متكامل وأداء جماعي، وعرض أيضا بالمركز الثقافي المصري بالدار البيضاء بالمغرب 2012، كما شارك بمهرجان مسرح الطفل الاورومتوسطي بتونس 2013.
“معروف ورحلة البحث عن تاج المعرفة”
نموذج جيد للعرض الموجه للطفل تحت 10 سنوات
مسرح الطفل هو أحد الوسائل الترفيهية التي تجذب الطفل وتأخذه إلي عالم ساحر يحيا معه وينطلق بخياله ليعيش لحظات داخل هذا العالم وذلك من منطلق أن الطفل في المراحل المبكرة يتميز بطلاقة الخيال وبالقابلية للتشكيل وبالاستعداد للاندماج وبالقدرة على المحاكاة وبالإحساس الجمالي وبالاستجابة النفسية والإبداعية لما يشاهده حيث أنه يولد مزوداً بأجهزة وعى يمكنها استقبال الفنون فتكون استجابته بشكل أكثر عمقاً لما يقع في دائرة اهتمامه، وتتعدد أنواع مسرح الطفل بين البشري، وخيال الظل، والعرائس (دمى ـ ماريونيت)، وتعتبر العرائس إحدى الوسائط الراقية التي يتوسل بها المسرح للطفل ـ خاصة طفل ما قبل المدرسة ـ للتأثير فيه وإكسابه المهارات الاجتماعية وتزويده ببعض المعلومات العلمية، إضافة إلي تنمية ثقته في ذاته من خلال تعويده على التفكير السليم في المواقف المختلفة وممارسته التعبير بالحركة واللغة، وفي حدود معرفتي فإنه كلما قل الحوار مسرحيات العرائس أو كان قصيراً كلما كانت النتائج أفضل في التعلم والتأثير.
و ناصر عبد التواب من قليلين أحبوا العمل في مسرح الطفل وأخلصوا فيه، وله انجازه في هذا المجال وخاصة العرائس حيث يعتبر ـ ابن قصر ثقافة شبرا الخيمة ـ عاشقاً لمسرح العرائس والأراجوز . ويعتبر واحد من قلائل معدودين يمارسون ـ بشكل احترافي ـ فن العرائس والأراجوز فى مصر، وهو مسرحي “مخرج وممثل ولاعب عرائس” له اجتهاداته المسرحية الواسعة وقد كوَّن مؤخراً – مع آخرين – فرقة الأراجوز المصرى والعرائس بالهيئة العامة لقصور الثقافة ومقرها قصر ثقافة العمال بشبرا الخيمه وتهتم بتقديم عروضها للأطفال منذ عام 2007 .
ومن إخراجه شاهدت مؤخراً على مسرح قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتي مسرحية “معروف في بحر الحروف” من تأليف حسام عبد العزيز وإنتاج قصر ثقافة العمال بشبرا الخيمة التابع لإدارة القصور المتخصصة بالهيئة العامة لقصور الثقافة .
والمسرحية للكاتب حسام عبد العزيز وهو أحد كتَّاب المسرح الذين تميزوا في مسرح الطفل وله في ذلك باع طويل ومن مؤلفاته “سرحان وعمايل كيداهم، رحلة ورد، عروسة القمح،..” وقد سبق لي وأن شاهدت بعضها وهو كاتب جاد يعرف طريقه في هذا النوع من المسرح ومُلم باحتياجات الطفل في المراحل السنيّة المختلفة ، ويحسب لمخرج العرض اختياره لمسرحية “معروف في بحر الحروف” التي يواصل فيها الكاتب نهجه الذي عرف به حيث سبق للمخرج وأن قدم لنفس المؤلف مسرحية”رحلة ورد” .
والعرض يبدأ باستعراض غنائي يشارك فيه “القلم” ويغني “علي السطور بكتب حروف” ومع الانتهاء منه مباشرة نجد أنفسنا داخل الحدوتة مباشرة بين الأميرة والملك نهمان والوزير جهلان، الأميرة ترفض خطابها وتطلب تاج المعرفة شرطاً لمن يتقدم لها، ويأمر الملك نهمان المنادي أن يعلن ذلك فينزل بين الناس في الصالة ينادي ويعلنهم بأن من يأتي بالتاج يكون زوجاً للأميرة ، ولكن الملك يطلب من وزيره فرز من يتقدم منهم حتى يكون مناسباً للأميرة، ولكنها ترفض هذا الآمر وتؤكد على عدم وجود أي شرط آخر غير إحضار تاج المعرفة وتطلب منه المساواة والعدل بين المتقدمين لخطبتها، ويتحايل جهلان من أجل الفوز بالزواج منها طامعاً في السلطة فنجده يتقدم متنكراً في أكثر من صورة، فينتحل شخصية أبو الشحات المتسول” مدعياً أنه يتسوَّل المال بهدف تحقيق المعرفة فتواجهه بمقولة “المعرفة لو تاجها فلوس يبقى كل العلما لصوص” ويفشل في الاختبار، ويتحايل ثانية منتحلاً شخصية “ملك الآي آي أبو العضل” الفتوة أبو عضلات مدعياً أن المعرفة تأتي عن طريق القوة ولكنها تواجهه بأن ليس فقط القوة والجسم السليم حيث من الممكن أن يكون الـ “عقل سليم وفاضي زي الحمار”، ونكتشف بعد ذلك أن جهلان كان يرهب الخطاب مشيعاً الخوف بينهم بادعائه أن الملك سيقطع رقبة من لا يستطيع أن يأتي بالتاج وذلك بغرض “تطفيش” العرسان، ولكننا نجد “معروف” لا يعطي اهتماماً بتلك الإشاعة، ويتقدم ويتحاور معها وينتهيا إلى الاتفاق معاً على قيامهما برحلة إلى بحر الحروف وخليج الورق للبحث عن تاج المعرفة، ويبدأن رحلتهما عبر مركب يخوضا فيه بحر الحروف، ويتعرضا لمشكلات كثيرة ولكنهما يتغلبان عليها، ويتعرضان لأخطار لكنهما ينجيان منها بفضل وعيهما ومعرفتهما للقراءة، بينما جهلان الذي يتابعهما يتعرض لمخاطر لا يستطيع أن ينجو منها بسب تسرعه وجهله وعدم معرفته القراءة، ولا يتمكن معرفة مكان التاج بينما يعود كل من الأميرة والشاطر معروف بعد مقابلتهما لكل من أمير الحروف والأميرة أفكار واكتشافهما أمور كثيرة كانت خافية عليهما، فبفضل إعمال عقلهما والتفكير تمكنا من اكتشاف أسرار التاج حيث توصلا إلى أنه ليس العقل وأنه أيضاً ليس اللسان وأنهما وسيلتان يحصلان المعرفة عن طريقهما، وأنه أيضاً ليس القلم أو الورق حيث أنهما وسائط للتواصل ونقل المعارف، ويبحثا في مقولة أن “التاج موجود لكن محتاج لعقل ومجهود” وليكتشفا مع النهاية أن تاج المعرفة هو الكتاب الذي يعد خير صديق للإنسان .
وإلى جانب التأكيد على قيمة الكتاب كـ “تاج للمعرفة” ؛ حاول العرض أن يبث كثير من المعلومات في ذات المجال بشكل فني راقي كأن يُطلعنا بأن أول سبل للتواصل أو للمعرفة كانت الصور “الصور كانت أول كلام حاول ينطقه الإنسان .. أول المعرفة كانت عن طريق الكتابة بالصور”، وكذلك الأشكال التي تواجد عليها القلم ـ أداة التواصل والتعريف ـ “ريشة، بوصة، شوكة، رصاص، حبر، جاف” وأيضاً بث بعض مقولات أخرى لها دلالتها الجميلة ومنها “الحروف مش عايزة حارس .. الحروف عايزة دارس”، “بحر المعرفة ميِّته حبر” وجميعها معلومات أو مقولات تساق في العرض بشكل راقي وان رأيت أن بعضها قد يتجاوز المرحلة السنيَّة الموَّجه إليها العرض، وقد كان استعراض الحروف جيداً وان تحفظت على كلمة “رحمة” التي تشكلت خلاله حيث أنها تعطي دلالة لا علاقة لها بأحداث الحكاية أو المعرفة بما قد يسبب تشتت خاصة وأن ذلك كان في بداية العرض، وقد وظف المخرج إضاءته بشكل جيد ولكن كان عليه أن يسلط الإضاءة بشكل خاص “زوم” على الشخصية المتحدثة لحظات المنولوج الداخلي حيث أن ذلك يحقق تواصلاً أكبر، ذلك التواصل الذي سعى المخرج لتحقيقه خاصة عي الأوقات التي كان ينزل فيها الصالة بالعرائس وأما ديكور “مجدي ونس” فقد كان متميزاً بالحيوية بسبب اعتماده على الألوان الزاهية والفسفورية التي تجذب انتباه الطفل، مع اهتمامه بمفردات الإكسسوار المستخدمة في العرض وميكانزم تحريكها أو استخدامها وأظن التفوق الأكبر لـ ونس كان في تصميم وتنفيذ العرائس التي تميزت بالحيوية وتحقيق الألفة مع المتلقي إضافة إلى اتساقها مع طبيعة الشخصية وخاصة عرائس “جهلان، الآميرة، الملك، معروف” حسب الترتيب وان جاءت شخصيات أخرى أقل من ذلك “القلم، الورقة، الحارس” أما أغاني “سيد سلامة” فكانت جيدة وتميزت ببساطة مفرداتها بما يتناسب مع الطفل زادها جمال مسحة الخيال والشاعرية التي ميَّزتها وخاصة في أغنية “قلبي مركبة تايهة” وعلى نفس القدر من التميز كانت موسيقى وألحان سيد العطار بما اتسمت به من تنوع وانسيابية الجمل اللحنية بما ساعد على التواصل مع العمل ككل .
وقد وضحت خبرة المخرج ناصر عبد التواب في مجال مسرح الطفل حيث اعتمد على التسجيل للصوتي لكل العرض بما يضمن له ثبات الإيقاع ، كذلك اعتماده على أصحاب حرفية عالية من لاعبي العرائس والذي وضح في ذات الوقت حبهم للعرائس وإخلاصهم لفن مسرح العرائس .
ويبقى لي أن أشيد بالأداء الصوتي للشخصيات ؛ حمدي القليوبي “جهلان”، وفاء عبد السميع “الأميرة”، كمال عمر “الملك”، عبد الناصر ربيع “معروف”، أسامة جميل “الحارس”، محمد عبد الفتاح “القلم”، هانم صبحي “الورقة”، ومعهم كل من شارك ما خلف الستار؛ عاطف جاد، رمضان الشرقاوي، محمد كمال، حسام حسين، شريف ناصر، طارق السيد، محسن جاد، علاء فتحي، علاء عبد الحي، مصطفى صبحي، طارق حسانين، رضا سيد، عادل عبد النبي، أحمد شحاتة، مؤمن ونس، أمل أحمد، وتحية أخيرة لكل الجهود التي تبذل من فناني مسرح العرائس .
ناصر العزبي