يعد الكاتب والباحث والدراماتورج كمال خلادي، من أهم الفاعلين في المشهد المسرحي المغربي الراهن الذين يشتغلون في صمت ويبلورون حساسيات إبداعية مختلفة، في استيعابها لما هو سائد وتجاوزها له في الآن نفسه. ولعل أهم ما يميز خلادي هو انفتاحه على تجارب وخبرات مسرحية وطنية وعربية ودولية؛ إذ شارك في العديد من الملتقيات والمختبرات الدولية حول الكتابة المسرحية الجديدة: ‘الرويال كورت’ (2007-8-11)، ‘معهد ساندانس’ (2017-18)… كما قدمت مسرحياته في العديد من المسارح المرموقة، نذكر من بينها مسرحية “عطب” التي قدمت في ‘مسرح المدينة’ ببيروت، و’مسرح الرويال كورت’ بلندن، و’مسرح سيكال’ بنيويورك.. إضافة إلى تراكماته الإبداعية الرصينة ومساهماته اللامعة في العديد من الملتقيات الدولية، نذكر من بينها مشاركاته الحصيفة في ندوات ‘طنجة المشهدية’ التي دأب المركز الدولي لدراسات الفرجة على تنظيمها سنويا.
لا تحيد مسرحية “كازابلانكا” عن هذا الخط الذي رسمه كمال خلادي بهدوء وتأن، وهو يسبح في المساحات الفاصلة/الواصلة التي تربك طمأنينتنا وتستفز جاهزيتنا للتعاطي مع العالم على أساس التنائيات المتقاطبة من قبيل: الأنا/الآخر، مستشرفا بذلك رحابة أفق التفكير/الإبداع العابر للحدود الذي يمنحنا إمكانية الإقامة على الحدود… وهي إقامة محفوفة بالمخاطر وكأنها رقص على حد السيف… والحال أن كمال خلادي يخوض في استفزاز إبستيمولوجي يبرز موقعه العابر للحدود…
تطورت كتابة نص المسرحية خلال إقامة الكاتب بـ “معهد ساندانس” بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب رفقة فريق من شركاء الخشبة؛ لذلك يمكن وصف هذه التجربة بالكتابة المختبرية القريبة من الدراماتورجيا الركحية بوصفها كتابة تحت كشافات الضوء. إنها كتابة واعية بمأزق الهشاشة بوصفها “صفة لازمة للأثر المسرحي”، كما يذكرنا كمال خلادي إثر حديثه عن تجربة مختبرات ساندانس، “ومنها يصنع صلابته الفنية والفكرية: بل إن استيعاب هذه الهشاشة، قد يرسم بشكل أو بآخر مستقبل مشروع مسرحي ما”.
اختار الكاتب أن يقسم مسرحية “كازابلانكا” إلى ثلاث جولات بدلا من فصول أو مشاهد… وهذا الاختيار في حد ذاته يقحمنا منذ البداية في حلبة صراع، ذلك أن المسرحية برمتها هي تفكيك لمآلات الاستبداد في حدود علاقته بالسلطة والمال والسياسوية وما يتبع ذلك من انهيار لمنظومة القيم وتشييء العلاقات الأسرية والإنسانية برمتها في ظل عالم نتن تحكمه المصالح الضيقة والانتهازية في أبشع تجلياتها. ولعل أهم ما يميز نص “كازابلانكا” هو ذلك التشريح الدقيق للخريطة النفسية لرجل سلطة مستبد (ادريس الديوري)، يعاني من فراغ داخلي قاتل إثر انجرافه مع تيار المال والنفوذ، وانسلاخه عن جلدته بسبب ارتباطه بماريا بوشنتوف وعزمه التسلق في السلم الاجتماعي والسلطوي… لكن على حساب هويته، ووجدانه، وعائلته، ومبادئه، وانتمائه الطبقي… ومع ذلك، فإن ماضي ادريس الديوري يلاحقه أينما حل؛ وها هو الآن يتجسد على شاكلة صورة أحد ضحاياه الذين يذكرونه بادريس ابن الشعب: “ما فهمتش علاش؟ علاش هاد البرهوش بوحدو ما تنقدرش نقربلو؟! النهار الاول ما عقلتش عليه، طحنتو، فـ الليل خرجلي معنق امي، هاد الصورة ولات أول ما تنشوف فاش تنحط راسي على المخدة، وآخر ما تنشوف فاش تتصوني الساعة باش نفيق… شفت فيديو ديال امو، بكيت داك النهار بحال اللي عمري ما بكيت، (يتحرك نحو الهاتف، يعيد تشغيله ليريها الفيديو) امو غير امي، بالجلدة، ما تفرقش بيناتهم، حتى من الوشام اللي عندها تحت فمها هو نيت… غير شفتها رجعت تنجري للكمارة اللي عندي، طليت عليه بلا ما نحس، ورجعت فتحت الدوسيي شفت تصويرتو لقيتو غير أنا، أنا فاش كنت قدو، امو غير امي ياك؟ نسيت أنت ما تتعرفيش امي!! ما عمرك شفتيها… فكرني بالضبط فـ 1981، كانت عندي 16 العام” (نص المسرحية).
يشكل شبح الشاب مرآة تعكس بمرارة معاناة ادريس الديوري وهو على حافة الانهيار بين بوابتين: الأولى، هي بوابة الماضي الدفين الذي يريد ادريس أن يقتلعه من ذاكرته، لكن بدون جدوى. أما البوابة الثانية، فهي بوابة الحاضر التي تذكره بأنه مهما تسلق في سلم السلطة سيبقى شبح ماضيه وأصله الطبقي يلاحقه إلى الأبد مهما حاول نكرانه… وأنا أقرأ بوح ادريس المفاجئ، استحضرت صورة مماثلة لشبح الصبي الأسود الذي أصبح يطارد رجل السلطة الإنجليزي في منامه ويقظته في “وداعا أفريقيا” GoodbyeAfrica للكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو. وهي أحد روائع القصص القصيرة التي عملت على تشريح الحالة النفسية للرجل الأبيض المتسلط في إحدى مستعمرات كينيا بعد ثورة ‘الماو ماو’ التي أجبرت الحكومة البريطانية على إلغاء الأحكام العرفية وإعلان استعدادها لمنح كينيا استقلالها الذاتي.
باختصار، عمل كمال خلادي على سبر أغوار نفسية رجل سلطة متسلط لنكتشف هشاشته في نهاية المطاف.. كما نجح في تفكيك مجموعة من مآلات الاستبداد بالتركيز على عوالم أسرتين وخدمهم، وهي عوالم نتنة مليئة بالقدارة والنفاق الاجتماعي والمتاجرة في كل شيء… أما رب الأسرة الثانية، الحاج عزيز بناجح، فهو ترميز مكثف لتلك المآلات، وعلى أتم الاستعداد للانبطاح والتخلي عن قيمه المزعومة، لأجل إرضاء مضيفه و”الناس الكبار”…