ان وتيرة التحول والتطور السريع في التكنولوجيا المعاصرة تؤكد على حتمية نشأة انماط عيش اجتماعية مشتركة مع الكائنات السايبيرية ، تتجاوز الطبيعة السائدة في كافة الانماط الاجتماعية المتعاقبة عبر التاريخ الانساني، وان عملية التحول من نمط حياة لاخر بمعزل عن السياقات التاريخية والتكنولوجية يشير الى امكانية حدوث صدمات سيكولوجية واهتزازات اجتماعية قد تكون عميقة في بعض حالاتها وتجلياتها . يحاول هذا الكتاب ، (دِيجِيتُولوجيَا– الانترنت . اقتصاد المعرفة . الثورة الصناعية الرابعة . المستقبل ) للمؤلف رامي عبود ، الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع، القاهرة ، سنة 2016 ،ان يطرح توجهاته المعرفية والفكرية من جوانب عدة محاولاً وصف المرحلة المعاصرة المتمثلة بالتكنولوجيا الرقمية و تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وهي المسألة الاساسية التي يرتكز عليها هذا الكتاب ولم تعد مسالة محايدة وانما اصبحت قضية حيوية في تماس دائم مع وجودنا جميعاً في اللحظة الراهنة
لعل ما اثار انتباهي هو عنوان هذا الكتاب الذي قد لا يبدو مألوفاً لدى الكثيرين (دِيجِيتُولوجيَا) وهي لفظة غير عربية لكنها وردت قياساً على البنية اللغوية لكلمات شائعة عربياً وغير عامية في الوقت ذاته منها سيكولوجيا ، انثروبولوجيا ، وسوسيولوجيا ، وكل منها عبارة عن مصدر منقول الى اللغة العربية عن طريق التعريب او تحريف منطوقه اللفظي من لغته الاجنبية ليناسب اللغة العربية
يشير المؤلف في مقدمة كتابه الى ان محتوى هذا الكتاب هو جملة مقالات نُشرت بعضها في الصحافة العربية على مدى اكثر من عام ، بينما لا يزال بعضها الاخر قيد النشر ، وقد تم تجديد النظر فيها وتنقيحها وتحديث بياناتها وتوحيد مصطلحاتها وتزويدها بالهوامش والشروح وربطها ببعضها البعض .
يسعى المؤلف في هذا الكتاب للبحث في فلسفة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بوصفها مبحثاً جديداً يتسم بندرة المشتغلين به عربياً وقلتهم عالمياً والهدف الاساسي وراء ذلك هو فحص القضايا التي تقع عند نقاط تقاطع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من جانب مع مختلف مجالات الحياة وقطاعات الانتاج من جانب اخر.فيبتدأ اول فصول الكتاب بتصور شامل عن مصطلح الديجيتولوجيا من حيث النشأة والتاسيس مروراً بجذور المصطلح وعلاقة الجانب الاصطلاحي باللغوية فيرى المؤلف ان الديجيتولوجيا هي المصدر الصناعي للكلمة الاجنبية المركبة digitology، والتي تتكون اولاً من كلمة digit او digito والاخيرة مشتقة من الاسم digit بمعنى رقم او عدد ، والصفة منه digital كما هو معروف ، والكلمة الاصلية digit او digito تدل اساساً على آلية التخاطب مع الاجهزة الكومبيوترية او ما يسمى بلغة الصفر واحد ، وتدل كلمة ديجيتولوجيا عموماً على الموضوعات التي تتصل بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات مثل الكومبيوتر والانترنت والبرامجيات والهواتف الذكية والروبوتات والذكاء الاصطناعي … الخ .
وتناول الكتاب، الانترنت وبشكل مفصل منذ بداياته الاولى التي كانت بمثابة عالم غامض ، ساحر بل غرائبي بالنسبة لغالبية سكان الارض ، ويواكب المؤلف الوتيرة المتسارعة اكثر بكثير من اي تكنولوجيا اخرى مضت في تطور المجتمع الانساني لدرجة ان الفضاء السيبري اصبح بالنسبة للدول العظمى بمثابة المجال الخامس للعمليات العسكرية بعد البر والبحر والجو والفضاء . واخذ المؤلف يُبحر في تناول الوجود الانترنيتي الذي بات يتأثر تحت وطأة الهجمات الكثيفة على الاهداف السيبرية الشخصية والمدنية والاقتصادية والعسكرية على حد سواء ، وباتت تهديدات الارهاب السيبري المنظم قادرة على زعزعة امن (كوكب الانترنت) ، بل وبما لا يقل خطراً عن التهديدات الموازية التي تكابد (كوكب الارض) جراء الاعتداءات المسلحة والارهاب الايديولوجي فيقول عبود ” ان الصراعات اليوم لم تعد تتخذ اعالي البحار مجالاً للهجوم والاعتداء وانما من اعالي الانترنت “، اذ ان القوى العسكرية في زمن الانترنت الفائق لم تعد بحاجة الى تكبد عناء الانتقال من ارض الى اخرى لشن هجوم مدمر خلف صفوف العدو وان العتاد لم يعد متحقق بالمعى الفيزيقي ، فقد باتت المعارك تُدار عن بُعد عبر شبكات الاتصال والاقمار الاصطناعية والانظمة الكومبيوترية والعتاد العسكري السيبراني ( العسبري) كما يسميه المؤلف ، ان هذه الحروب هي اشبه بالألعاب الافتراضية العسكرية لكن بنهاية الامر مبدأ الضرر قائم مع وجود دماء حقيقيين وقتلى بشريين وتبعات وخيمية وما يميزها ان الهجمات تتم عن بُعد فمقدور اصحاب الهجمات ان يعودوا لتناول القهوة مع عائلاتهم وذويهم من دون تُراب المعركة وملابسهم العسكرية ولا حاجة للاغتسال من رائحة العرق ودخان البارود ، فيما يرى مؤلف الكتاب ان الانترنت هو كوكب قائم بذاته لا يقل في الاهمية عن كوكب الارض ، اذ اقترب اجمالي مستخدمي الانترنت في نوفمبر 2015 من نصف سكان العالم بواقع 3.4 مستخدم تقريباً ، لذا يولد ويموت على (كوكب الانترنت) يومياً الاف وربما مئات الالاف من البشر ، ويربط المؤلف التطورات التكنولوجية ودور الانترنت بأقتصاد المعرفة الذي يعرفه على انه نقل المعرفة البشرية الى الآلات لتتمكن من ممارسة دور فاعل في العملية الانتاجية بالتوازي مع دور الانسان ، وان الحياة القادمة هي حياة مشتركة بين جماعة البشر وجماعة الروبوتات ، وما يجعل حدوثها ممكناً هو ازدياد استقلالية الروبوتات يوماً بعد اخر ، وان معدلات التطور في تكنولوجيا الروبوتات والذكاء الاصطناعي سريعة للغاية اذا ما قورنت بمعدلات تطور تكنولوجيا عصر الصناعة ، وان تجاوز مرحلة التصنيع الى ما بات يعرف بمجتمع المعرفة ، او المجتمع ما بعد الصناعي. و الموضوعة الاساسية الاخرى التي يتناولها الكتاب هي الثورة الصناعية الرابعة المرتبطة بالتطورات التكنولوجية العظيمة التي تطغى على سكان الارض ، فيرى المؤلف انها نتيجة لاندماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصناعي في آلات الحقبة ما بعد الصناعية وهنا تحولت آلالات الى روبوتات وممكن ان تتحول الى شيء اخر اكثر ادهاشاً جراء تطور طبيعتها الالية الى طبيعة جديدة نصف بشرية – آلية ، وبعبارة اخرى طبيعة جديدة شبه بشرية بواسطة المزج بين ما هو بايلوجي وما هو آلي ضمن مكوناتها ، وعندها سوف تكون عملية تمييز الفروقات الشاسعة بين الكائنات الحية والروبوتات شبه الحية بمثابة مهمة صعبة ، فيما تأتي الثورة الصناعية الرابعة كما يراها المؤلف هي امتداد للثورة الصناعية الاولى التي بدأت بثورة البخار نهاية القرن الثامن عشر ، والثورة الصناعية الثانية هي ثورة الكهرباء نهاية القرن التاسع عشر ، والثالثة هي ثورة الالكترونيات في القرن العشرين ، فيما جاءت الثورة الصناعية الرابعة في القرن الحادي والعشرين بمزيج بين التكنولوجيا الديجيتالية والذكاء الاصناعي ، والربوتات وانترنت الاشياء . وفي الثورة الصناعية الرابعة تسقط الحدود الفاصلة بين الاشياء والاجهزة والشبكات والكائنات الحية وتتداخل بشدة الاشياء المادية والبايلوجية .
ومن المفاصل المهمة التي تطرق لها الكتاب والتي تندرج تحت مظلة الثورة الصناعية الرابعة هي الرسمالية العالمية ، فيتناول الرسمالية الصناعية والرأسمالية التكنولوجية وابرز الفوارق بين ما هو كلاسيكي تقليدي وبين ما هو رقمي تكنولوجي معاصر ، فيأخذ شخصية ( هنري فورد ) الشهير صاحب شركة سيارات فور الامريكية كنموذج للرسمالي الصناعي الكلاسيكية ، و ( مارك زوكروبيرج ) صاحب شركة فيس بوك كنموذج للرسمالية التكنولوجية او ما بعد الرسمالية الصناعية ، يهدف (د.رامي عبود ) الى فحص التجربة الانسانية لدى كل منهما ، فيرى ان الرسمالية الصناعية تعيش تصوراتها الذاتية ورؤاها بشأن الاخر ، متعجرفة ، انانية ، متسلطة ، لا تعبأ الا لرغبتها الذاتية في تراكم الارباح والهيمنة على السوق ، في حين يرى في ما بعد الرسمالية الصناعية نزعة تتطابق مع النزعة الانسانية في التشكيل والتي تتخذ صيغ كونية تزيح المحددات المحلية التي عادة ما كانت المجتمعات تنبعث من خلالها .
ان هذا الكتاب بمجمله يُبشر بمستقبل ( ما بعد البشرية ) وان الانسان في المستقبل سيصبح للمرة الاولى في التاريخ قادر على التحكم في عملية التطور البايلوجي والاسراع في تراكمية متغيراتها وتوجيه مساراتها نجو انتاج نوع جديد ونوع ما بعد بشري ، فثمة بشر يشبهون الروبوتات ، وروبوتات تحاكي البشر ، كذلك اعضاء غير بايلوجية تزرع في الكائنات الحية ، وانسجة بايلوجية تدمج مع محركات الكائنات الالية ، الكتاب يفتح فضاءات ابعد للدارسين والباحثين والمختصين في المجالات الرقمية . فضلاً عن انه يراعي الى حد كبير القارئ غير المختص عموماً واحتياجات المهتمين بقضايا التكنولوجيا المعاصرة والمستقبل خصوصاً ، كتاب ممتع انصح بقرأته .