يبدو أنّ الاهتمام بكرة القدم اهتمام ترفيهيّ خالصّ ولا سيّما لدى المنادين بفصل الرّياضة عن السّياسة، لكنّ أحداث السّياسة اليوميّة تكشف عن علاقة وثيقة بين السّياسة والرّياضة على وجه العموم، ورياضة كرة القدم على وجه الخصوص، وذلك لاعتبارات اجتماعيّة وإعلاميّة كثيرة، تتجاوز حبّ هذه الرّياضة لدى هذا الرّئيس، أو الشّغف بها لدى هذا الملك، وما تزايُد صور الملوك والرّؤساء والأمراء والشّخصيّات العالميّة المؤثّرة والمرموقة وهم يحضرون كثيرًا من مباريات كرة القدم إلّا دليل واضح على الصّلة الوثيقة بين السّياسة وهذه اللّعبة، وللقارئ أن يستحضر صورة هذا الرّئيس الّذي يستقبل فريق بلاده، أو ذاك الأمير الّذي يكرّمهم، أو ذيّاك الملك الّذي كان يتابعهم من أرض الملعب، أو يشجّعهم من مكتبه، الّذي يدير منه شؤون البلاد، وغير هذه الصّور صورٌ أخرى كثيرة جدًّا يصعب ذكرها وتعدادها؛ لكنّها بمجملها تكشف عن ملامح العلاقة بين السّياسة وكرة القدم، فعلاوة عن بحث الجماهير المرؤوسة عن متعة الفرجة وإثارتها،
يتطلّع السّاسة من خلال حضور المباريات إلى تقديم صور توحي بقربهم من الجماهير المسوسة وانخراطهم بينها، ودفعهم إلى تنفيس احتقاناتهم الاجتماعيّة والمعيشيّة والاقتصاديّة من خلال تشجيع الفرق الرّياضيّة وأبطالها ومشاهيرها ونجومها بطريقة لا تؤذي المُلك، ولا تضرّ بالطّبقة السّياسيّة الحاكمة؛ وهذا ما يفسّر اهتمام القادة بدوريّات بلادهم الكرويّة، والتّفنّن في تسميتها أو رعايتها أو منح حقوق بثّها أو تصويرها أو الإعلان فيها وعنها، مثلما يعطي تبريرًا منطقيًّا حول تمادي القيادات والسّلطات الرّياضيّة العالميّة المدعومة سياسيًّا في إنشاء البطولات الكرويّة، والتّفنّن في تأسيس المسابقات، والإسراف في رصد الجوائز الماليّة المخصّصة لها، مع دعم القنوات الرّياضيّة لزيادة الضّخّ الإعلاميّ في هذا الاتّجاه، وهنا لا نستغرب أن يكون ملعب ساندجيت رود-في بريطانيا العريقة سياسيًّا-أقدم ملعب كرة قدم في العالم؛ حيث أنشئ من أجل لعبة الكريكيت في بادئ الأمر سنة ١٨٠٤؛ ثمّ تحوّل إلى ملعب لكرة القدم، وأقيمت فيه أوّل مباراة بكرة القدم سنة ١٨٦٠م بين ناديي هالم وشيفيلد، ولم يكن يتّسع لأكثر من ٧٠٠ مشاهد. في حين أنشئ أقدم مسرح في العالم في مدينة إبيدورس اليونانيّة، الّتي يحمل المسرح اسمها، وقد بُني هذا المسرح في القرن الرّابع قبل الميلاد، ويتّسع إلى ما يقرب من ١٤ ألف متفرّج، وهو نموذج شامخ للمسارح اليونانيّة القديمة، ومثال عن عراقة هذا الفنّ، وتقدّمه الزّمنيّ الكبير على كرة القدم من حيث النّشأة، وبعض الألعاب الأولمبيّة الأخرى-إن لم نقل بتقدّمه عليها: معظمها أو كلّها-وهي الألعاب الرّباضيّة الّتي نشأت في اليونان، وأقيمت في جبل الأولمب منذ عصور سالفة، ومن هذا الجبل أخذت تسميتها أيضًا.
أمّا مسرح ديونيسيوس فقد أنشئ في العاصمة اليونانيّة أثينا في القرن الرّابع قبل الميلاد، وهو يتّسع إلى ما يقترب من ١٧ ألف متفرّج، ومن المسارح القديمة المشهورة مسرح أورانج الرّومانيّ، الّذي أنشأه أوغسطس الأوّل في القرن الأوّل الميلاديّ، والمسرح الرّومانيّ، الّذي شُيّد في العاصمة الأردنيّة عمّان في عهد القيصر أنطونيوس بيوس، والمسرح الرّومانيّ في مدينة بصرى الشّام في محافظة درعا السّوريّة. إنّ مقارنة حال المسارح العالميّة بحال كرة القدم في وملاعبها ومسابقاتها وجوائزها في الوقت الرّاهن تكشف بما لا يترك مجالًا للشّكّ عن اهتمام وتطوّرٍ كبيرين بكرة القدم ودوريّاتها وكؤوسها مقابل إهمال متعمّد أو غير مقصود-في أقلّ تقدير-لفنّ المسرح المشهور بأنّه أبو الفنون، وهنا يأتي سؤال المقال: لماذا أُهمل المسرح وتطوّرت كرة القدم؟
الإجابة عن هذا السّؤال تحتاج إلى شرح طويل، وإن أردنا تلخيصها في إيجاز شديد نقول: المسرح أبو الفنون، يحمل هموم المجتمع، ويكشف نبض الشّارع، ويُعرّي الاستبداد، ويسمح بنقد الطّبقة السّياسيّة الحاكمة من أصغر منتفع فيها مرورًا بالأعلى فالأعلى، وقد تصل الجرأة لدى المخرج أو الممثّلين إلى انتقاد رأس السّلطة أو قمّة هرمها في هذا البلد أو ذاك؛ إذا توافر لديهم كاتب يقدّم لهم نصًّا مسرحيًّا إبداعيًّا؛ يمتع المتلقّي، ويؤنسه، وينقد أخطاء المجتمع والسّلطة على حدّ السّواء، وهنا نتساءل: هل أزمة المسرح العالميّ والمسرح العربيّ تحديدًا أزمة سُلطة أم أزمة تأليف؟
في الإجابة عن هذا السّؤال: لا شكّ أنّ عالمنا الرّاهن لا يملك كتّابًا مسرحيّين مرموقين مثل سوفوكليس وشكسبير وموليير وتشيخوف وبريخت ونهاد قلعي ومحمّد الماغوط، وإن امتلك فهم قلّة قليلة، مع امتلاكه ممثّلين عالميّين على درجة عالية من الاحترافيّة، ولربّما تكون السّينما والتّلفزة قد جيّرت كثيًرا من الكتّاب والممثّلين المتميّزين لصالحهما دون المسرح، ناهيك عن التّطوّر الكبير في السّينما والتّلفزة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، الّتي أفادت المسرح إلى حدّ ما، لكنّها في الوقت ذاته زادت الاهتمام بكرة القدم والشّغف بها ومتابعتها أيضًا، وهنا يعود السّؤال؛ لنقول مرّة أخرى: لماذا؟
إذا كانت أزمة التّأليف المسرحيّ سببًا مقنعًا لتراجع المسرح العالميّ في دول ديمقراطيّة مثل بريطانيا وفرنسا والدّول الأوربيّة الأخرى، فإنّ هذا التّراجع أمام المدّ الهائل لكرة القدم لا يفسّر هذه الظّاهرة من جوانبها كافّة، بل يضاف إليه رغبة الطّبقات السّياسيّة الحاكمة هنا أو هناك بشَغل الجماهير عن نقدِها أو نقد واقعها المرير؛ ولم تجد هذه الطّبقات الحاكمة في المسرح ما وجدته في كرة القدم من حيث خدماتها الجليلة في هذا المجال، حتّى في أعرق الدّول الأوربيّة في مجال المسرح، تلك الّتي صارت تحتوي على أقوى أربعة دوريّات عالميّة في مجال كرة القدم، ناهيك عن انشغال المواطن في بلدان العالم الثّالث بعمله أو مشاغله الكثيرة أو لقمة عيشه إن لم يكن منشغلًا بنزوحه أو أمنه وأمانه أساسًا، والمسرح يُتّهم منذ نشأته الأولى بأنّه فنّ النّبلاء والطّبقات الأرستقراطيّة، وإن صار فنّ الشّعب في مرحلة تاريخيّة مشرقة، لا تشبه واقعنا العربيّ الرّاهن بكلّ تأكيد؛ ولذلك أفكّر الآن، وأنا أكتب آخر الكلمات في هذا المقال، أن أفتح موقع (كورة الرّياضيّ) لأنتقي مباراة رياضيّة مهمّة؛ لأتابعها غدًا على شاشة جوّالي بالمجّان قبل أن أخلد لنومي، وأنا أفكّر بدوامي وعملي مع إشراقة اليوم الجديد.
** د.مهنّا بلال الرّشيد (سوريا)
دكتوراه في علم الدّلالة والنّقد السّيميائيّ و أستاذ جامعيّ و كاتب وإعلاميّ